القانون العام
القانون الدستوري و النظم السياسية
القانون الاداري و القضاء الاداري
القانون الاداري
القضاء الاداري
القانون المالي
المجموعة الجنائية
قانون العقوبات
قانون العقوبات العام
قانون العقوبات الخاص
قانون اصول المحاكمات الجزائية
الطب العدلي
التحقيق الجنائي
القانون الدولي العام و المنظمات الدولية
القانون الدولي العام
المنظمات الدولية
القانون الخاص
قانون التنفيذ
القانون المدني
قانون المرافعات و الاثبات
قانون المرافعات
قانون الاثبات
قانون العمل
القانون الدولي الخاص
قانون الاحوال الشخصية
المجموعة التجارية
القانون التجاري
الاوراق التجارية
قانون الشركات
علوم قانونية أخرى
علم الاجرام و العقاب
تاريخ القانون
المتون القانونية
عبء الإثبات أمام القضاء الإداري
المؤلف:
حسين سالم محمد جاسم
المصدر:
عبء الاثبات في الدعوى الإدارية
الجزء والصفحة:
ص 39-49
2025-08-25
23
ولأن عبء الإثبات يدور وجوداً وعدماً مع وجود الدعوى القضائية (أي نزاع يعرض أمام القضاء) بخصوص تقرير حق من عدمه، فإنه يتأثر بطبيعة الدعوى وما يتعلق بها، فالدعوى المدنية هي دعوى شخصية من القانون الخاص تقام ضد شخص يدعي المدعي فيها بحق على المدعي عليه ولأجل تقرير حقة يجب عليه تعزيز ادعائه بالأدلة التي تثبته، فهو ملزم بإثبات دعواه كي يكسبها، وفي مقابل ذلك يقدم المدعى عليه أيضاً الأدلة التي تجابه ادلة خصمه، فمن يدعي عليه تقديم دليل لإثبات حقه وهذا هو المبدأ العام في الإثبات أي إن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعي بالحق، والمدعي بالحق يدعي خلاف الظاهر والمدعى عليه يتمسك في بقاء الأصل، وهذا ما نتج عن مبدأ المساواة في الدعوى المدنية التي تسمح للخصوم بتقديم الأدلة لإثبات حقوقهم أثناء النزاع المعروض أمام القضاء، في حين أن الدعوى الإدارية تختلف عن الدعوى المدنية من حيث اطرافها لأن الادارة تعتبر طرفاً أساسياً فيها ولها امتيازات السلطة العامة التي تفوق الأفراد يكون مركزها أفضل من مركز الفرد كونها تحوز مستندات وأوراق لها تأثير قوي في حسم النزاع، وهذا التفاوت بين الأطراف يؤدي إلى التأثير على عبء الإثبات وتطبيق قواعده التي تقضي بأن يكون دائما على عاتق المدعي بالحق، الأمر الذي يستلزم تدخل القاضي بدوره في الموازنة ومعالجة هذا الاختلال في التوازن بين الأطراف، مما يقود إلى التساؤل عن مدى تحققه في الدعوى الإدارية وما هو دور القاضي في تحقيقه، وذلك فيما يلي:
أولاً: تحقق عبء الإثبات في الدعوى الإدارية
سبق بيان أن الأصل العام في الإثبات انه يقع على عاتق المدعي طبقاً للقاعدة العامة (البيئة على المدعي) وهذا هو نهج القضاء العادي في إثبات النزاعات المعروضة عليه، إلا أن النصوص القانونية المنظمة لأعمال مجلس الدولة في فرنسا ومصر والعراق لم تتضمن أحكاما خاصة بشأن تنظيم مسألة عبء الإثبات أمام القضاء الإداري وفي الحديث عن هذه المسألة اتجه رأي إلى إنكار وجود عبء للإثبات أمام القضاء الإداري بسبب الاختلاف والتفاوت بين مراكز الخصوم في الدعوى، فالإدارة طرف قوي يحوز الأوراق والمستندات المؤثرة في الدعوى والفرد الذي لم يكن لديه دليل ولو كان هناك عبء إثبات يتحمله الطرف المكلف به وهو الفرد في الغالب لكان عاجزاً عن إثبات حقه تجاه الإدارة (1)، من جانب آخر فإن القاضي الإداري عندما تقام أمامه الدعوى فإنه يقوم ببحث شروط الدعوى الموضوعية والشكلية وبحث مدى مطابقة القرار لأحكام القانون، دون أن يطلب من الخصوم تقديم ادلة لإثبات مخالفة القرار لأحكام القانون (2).
وهذا الرأي مردود على إطلاقة لكون العبء يتحقق أمام القضاء الإداري بمجرد إقامة الدعوى وفقاً للقواعد العامة، لأن الدعوى بطبيعة الحال هي ادعاء وهذا الادعاء يجب أن يعزز بأدلة تدعمه، فالفرد عندما يقيم الدعوى ضد الإدارة فإنه يدعي بمخالفة قرارها لأحكام القانون بأن قرارها صدر دونما سبب يستند عليه أو أنه لم يصدر طبقاً لما رسمه القانون أو لم يصدر من صاحب الاختصاص بإصداره ، فمن المفترض أن يصدر سليماً من أي عيب، وإن ادعاء الفرد بوصم القرار بعيب من العيوب يحتاج إلى ادلة تثبت هذه المخالفة فمثلاً قيام هيئة محكمة قضاء الموظفين في مجلس الدولة العراقي بإلغاء قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المتضمن نقل خدمات الموظف المدعي من جامعة سومر إلى جامعة ميسان وذلك بعد نقله بمدة وجيزة من جامعة بابل إلى جامعة سومر ، فلاحظت المحكمة أن القرار لم يستند على أسباب قانونية تبرر إصداره فلذلك ألغت القرار محل الطعن (3) ، فالمدعي في هذه الدعوى ادعى ضد قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بأنه مخالف للقانون وبطبيعة الحال فإن هذا الادعاء يحتاج إلى ادلة لتعزيزه، مما يفهم أن الإثبات لازم في الدعوى و أنه يقع على عاتق المدعي فهو المكلف به في الأصل، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار وجوده مهما كانت طبيعة الدعوى وظروفها، الا ان مركزه ضعيف تجاه الإدارة صاحبة الامتياز في حيازة الأدلة والمستندات، فتدخل القاضي ولاحظ المستندات المتعلقة بالدعوى فوجد ان قرار النقل يحمل عقوبة مبطنة فلم يظهر أمامه ما يثبت مخالفة الموظف لواجبات وظيفته ولم يظهر ما يستدعي نقله مرة ثانية مما أدى إلى الغائه.
إن عبء الإثبات موجود ويتحقق وجوده في الدعوى الإدارية وأن جوهر المشكلة ليس في وجوده وإنما في مسألة توزيعه وتحديد المكلف به فهو وفقاً للقواعد العامة لا يخرج عن الاصل في تنظيمه.
تقرر القواعد العامة بأن الأصل في الإثبات انه يقع على عاتق المدعي وأن الدعوى الإدارية تخضع لهذا الاصل كونها نزاع يعرض أمام القضاء بخصوص حق متنازع عليه، وأن طرفيها هما الفرد والإدارة ونظراً لما تتميز به الادارة من وسائل القانون العام وحقها في إصدار قرارات إدارية (الأمر الذي يستتبع احتفاظها بأوليات القرار وكذلك الوقائع التي يستند عليها في إصداره والتي ضمنت في الأوراق والمستندات المحفوظة لديها والتي لها تأثير قوي في حسم النزاع ) تكون في الغالب هي المدعى عليه وأن مركزها هذا يخلق حالة من عدم التوازن في المراكز بسبب ما تتمتع به مما سبق من امتيازات الأمر الذي يؤثر على مسألة تحديد المكلف بالإثبات، ولأجل ذلك ظهر اتجاهين بشأن تحديد المكلف به.
1. إن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعي
الفقهاء المنادون بهذا الرأي يرون بأن عبء الإثبات في الدعوى الإدارية يخضع في تنظيمه للقاعدة العامة التي تقضي بأن المكلف به هو المدعي (4).
ففي فرنسا أقر مجلس الدولة الفرنسي بأن على المدعي إثبات ما يدعيه ويظهر ذلك في قراره المؤرخ في 24 مارس عام 1950 في قضية السيد لاسال (Lasalle) فقد أقر بأن السيد لاسال لم يثبت بأن القرار قد تم اتخاذه لهدف بعيد عن المصلحة العامة وبذلك لا يمكن قبول الدعوى، وهنا السيد لاسال هو المدعي وقد رفضت دعواه لعدم تقديم الأدلة الكافية لإثبات مخالفة القرار لأحكام القانون (5)، في المقابل يجب على القاضي إبراز دوره الإيجابي في استخلاص النتائج والبحث وصولاً الى الحقيقة (6). وفي مصر فقد اخذ القضاء الإداري المصري بإلقاء عبء الإثبات على عاتق المدعي، و تبرير ذلك بأن المدعي هو صاحب المبادرة باللجوء إلى القضاء واقامة الدعوى ضد الادارة لأجل إلغاء قرارها وبالتالي يكون ملزم بتقديم الأدلة الكافية لتعزيز ادعاءه (7)، فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن (( عبء الإثبات في الدعاوي الإدارية لا يخرج عن الأصل العام الذي قرره قانون الإثبات الذي يلقيه على عاتق المدعي فهو الذي يتحمل عبء إثبات دعواه، فإذا قدم الأدلة الكافية كان على المدعي عليه تقديم الأدلة التي تنفي ادعاء خصمه )) (8) ، ومن قضائها أيضاً بأنها عدت ((الانحراف في استعمال السلطة من العيوب ذات القصد في السلوك الإداري، يتمثل في اتجاه الإرادة إلى الانحراف به مجانباً للصالح العام وان عبء اثباته يقع على عاتق مدعيه))(9).
وفي العراق فقد أحال المشرع في قانون مجلس الدولة رقم 65 لسنة 1979 بشأن مسألة الإثبات على قانون الإثبات رقم 107 لسنة 1979 ، على أن تطبق قواعده حسب ظروف النزاع المعروض بما يتناسب و طبيعة الدعوى الإدارية (10). إن مسلك القضاء الإداري في العراق في بعض قراراته يفهم منه بأنه يلقي عبء الإثبات على عاتق المدعي طبقاً للقواعد العامة في تنظيمه، وتطبيق ذلك فقد أكدت هيئة المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة العراقي المبدأ القائل ( بأن اثبات الاعتقال أو السجن يكون وفق الألية التي رسمها قانون السجناء السياسيين فقد نقضت قرار محكمة القضاء الإداري الذي يقضي بإلغاء قرار هيئة الطعن في المؤسسة وشمول المدعي بقانون مؤسسة السجناء السياسيين رقم (4) لسنة 2006 بعدما تم رفضه من قبل الهيئة وأكدت المحكمة الإدارية بأن المدعي لم يقدم الأدلة الكافية التي نصت عليها المادة (6/ رابعاً) من قانون المؤسسة والتي اعتمدت الأدلة التحريرية التي تثبت الاعتقال او السجن)(11).
وفي قرار أخر أرست المبدأ الذي ينص ( على محكمة القضاء الإداري التحقق من عجز المدعي عن العمل وذلك من شأن أهل الاختصاص ويثبت بتقرير طبي صادر عن لجنة طبية مختصة فنقضت قرار محكمة القضاء الإداري الذي يقضي بإلغاء قرار اللجنة العليا للحماية الاجتماعية وشمول المدعي بقانون الحماية الاجتماعية رقم (11) لسنة 2014 بعدما تم رفضه من قبل اللجنة، وأكدت المحكمة بأن المدعي لم يقدم دليل يثبت عجزه عن العمل) (12).
فيلاحظ في القرار الأول بأن عبء إثبات الدعوى تحمله المدعي طبقا للقواعد العامة لأنه يريد إلغاء قرار هيئة الطعن الذي يقضي بعدم شموله في قانون المؤسسة وذلك لأنه لم يقدم ادلة كافية لإثبات سجنه او اعتقاله فهذه الأدلة يجب أن يقدمها هو وهذا التقديم يلقي عليه عبء اثبات دعواه، ونفس الشيء حصل مع المدعي في القرار الثاني فلم يقدم دليل كافي يثبت عجزه عن العمل كي يتم شموله بقانون الحماية الاجتماعية، فهنا طبقاً للقواعد العامة في عبء الإثبات التي تقضي بأن يتحمله المدعي الذي يدعي خلاف الأصل، فقد عدت المحكمة أن الوقائع في القرارين أعلاه هي وقائع مادية يتم إثباتها بكافة طرق الإثبات وأن عبء إثباتها يتحمله المدعي كونه يدعي خلاف الأصل وأن هذا الأخير هو مبدأ من المبادئ العامة في تنظيم عبء الإثبات (13).
2. توزيع عبء الإثبات بين طرفي الدعوى الإدارية
يرى أصحاب هذا الرأي بأن الأخذ بالقواعد العامة للإثبات المطبقة أمام القضاء العادي وهي
(البينة على المدعي ) لا يستقيم مع طبيعة الدعوى الإدارية نظراً للتفاوت الكبير بمراكز أطرافها، وبالتالي فإن عبء الإثبات لا يقع على عاتق المدعي فحسب وفق هذا الرأي وإنما يتحمله الطرفان، ويقوم القاضي الإداري بتيسير مهمة توزيعه بفعل دوره الإيجابي في توجيه الدعوى (14).
ففي فرنسا أيد بعض الفقهاء هذا الرأي بأن العبء يقع على عاتق الطرفين دون وجود قاعدة تأخذ بتحمل المدعي وحده عبء الإثبات، فيتحمل الطرفان العبء بنسب معينة يحددها القاضي دون القائه على أي طرف(15).
يميز فقهاء هذا الرأي بين عبء تقديم الدليل وعبء الإثبات فالأول يعني أن يقدم المدعي بداية اثبات لدعواه يشكل بطبيعته واقعة إدارية تتمثل بأوراق أو مستندات تكون بحوزة الإدارة مثبتة لحق معين، فيكفي أن يقدم المدعي ما يدل على وجود هذه الأوراق وهذا ما يسمى بعبء الادعاء، اما الثاني فيعني الوقائع المادية غير الإدارية، فيكفي ان يدعي المدعي بعبء الادعاء عن الوقائع الإدارية عند إقامة الدعوى وبالتالي لا يقع عليه عبء اثباتها أي (يتحمل عبء الادعاء دون عبء الإثبات)، اما الوقائع المادية غير الإدارية فيقع عليه عبء إثباتها، في حين أن الادارة يقع عليها عبء إثبات الوقائع الإدارية وغير الإدارية(16). إن هذا التوجه في توزيع عبء الإثبات يكون بواسطة الدور الإيجابي للقاضي في توجيه
الدعوى مستعملاً سلطاته التحقيقية في استقصاء الوقائع وصولاً الى الحقيقة ويظهر هذا التوجه في قضاء مجلس الدولة الفرنسي في حكم السيد الطبيب (موانو) الذي يطعن بقرار دائرة التأديب في النقابة الوطنية للأطباء المتضمن عدم تسجيله في جدول نقابة الأطباء في ظل قوانين فيشي التي تقصر مزاولة مهنة الطب على الأعضاء في النقابة المنشأة بقانون 1940/10/7 ، واستندت دائرة التأديب في قرارها بأن الطبيب (موانو) لا يستوفي الشروط المهنية وهذه بحد ذاتها وقائع مادية، فأمر المجلس دائرة التأديب بتزويده بملف القرار ووجد أن الوقائع التي يستند عليها صحيحة فالطبيب لم يستعمل الطرق الصحيحة في التشخيص، وهنا يلاحظ بأن المجلس قد ألقى عبء الإثبات على عاتق الإدارة (17).
وفي حكم آخر في قضية السيد موتار (Mottard) الذي طعن بقرار العقوبة المفروضة عليه من قبل وزير الداخلية بأنها مبنية على وقائع غير صحيحة، وأن السيد موتار قدم شهادات تؤيد طلباته وبالمقابل قام الوزير بتقديم ملاحظات نازع بها القيمة الإثباتية لأدلة السيد موتار، وقد أمر المجلس الإدارة بتقديم المستندات المتعلقة بملف السيد موتار التي من المفترض أن تكون موجودة في الملف، فامتنعت الإدارة عن تقديمها مما أدى الى أن يحكم المجلس لصالح السيد موتار (18) ، فيستخدم القاضي في هذا المجال سلطاته لإبراز دوره في توجيه الدعوى ويأمر الإدارة بأن تقدم كل الوثائق التي تؤدي إلى إقناعه وقد لوحظ ذلك بقرار المجلس عام 1958 في 17 أكتوبر مضمونه (( على المحكمة أن تلتزم الادارة تقديم الوثائق التي بإمكانها إقناع القاضي)) (19).
وكذلك حكم المجلس في قضية السيد باريل (Barel) الذي يطعن بقرار الرئيس المجلس الوزراء الذي منعه من الاشتراك بمسابقة المدرسة الوطنية للإدارة، باعتبار أنه غير مستوفي للشروط، وقد ادعى السيد باريل بأن الاسباب التي استند عليها القرار هي أسباب سياسية (كونه من الشيوعيين ) فأمر القاضي الإدارة بتقديم الوثائق والمستندات التي استند عليها القرار فلم يجد وقائع مادية تبرر إصداره وبالتالي نقض قرار الإدارة (20).
وفي مصر فقد يرى بعض الفقهاء بأن عبء الإثبات يتم توزيعه بين المدعي والمدعى عليه فيتحمله الأطراف بنسب معينة يحددها القاضي طبقاً لدوره الإيجابي في توجيه الدعوى واستجلاء الحقائق بسبب انه لا يمكن الأخذ بالقاعدة العامة (( البيئة على المدعي)) فهي لا تستقيم وواقع الدعوى الإدارية لأنها تضع المدعي موقف العاجز عن إثبات حقه وبالتالي خسارة الدعوى (21).
إن القاضي الإداري بسبب دوره في توجيه الدعوى يقوم في بعض الدعاوي بنقل عبء الإثبات على الادارة وإنه يستخلص قرائن لصالح الأفراد تجاهها، فلذلك الزمها بتقديم كل ما يتعلق بالنزاع المعروض من وثائق ومستندات تخص القرار المطعون به(22)، وبذلك فيتحمل الطرفان عبء الإثبات بالقدر الذي يحدده القاضي حسب ظروف الدعوى، عليه فقد يلقى عبء الإثبات على عاتق الادارة طبقاً للمعنى المتقدم وتطبيقاً لذلك قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر بأن "(الاصل في عبء الإثبات أنه يقع على عاتق المدعي إلا أن الأخذ بهذا الأصل على إطلاقه في المنازعات الإدارية لا يستقيم مع واقع الحال بسبب احتفاظ الادارة في الغالب بالوثائق والملفات ذات الأثر الحاسم في النزاع، عليه فمن المبادئ المستقرة في المجال الإداري أن الادارة تلتزم بتقديم سائر الأوراق والمستندات المتعلقة بموضوع النزاع والمنتجة في إثباته ايجاباً ونفياً متى طلب منها ذلك سواء من هيئة مفوضي الدولة أو من قبل المحاكم ، وقد رددت قوانين مجلس الدولة هذا المبدأ فإذا نكلت الادارة عن تقديم الأوراق والمستندات المتعلقة بموضوع النزاع فإن ذلك يقيم قرينة لصالح المدعي تلقي عبء الإثبات على عاتق الإدارة) (23).
وفي حكم المحكمة القضاء الإداري تقول بأن ((الأدلة ينبغي أن يكون لها أصل ثابت في الأوراق ومستساغ عقلاً وإلا يكون الأخذ به متعارضاً مع سبل الإقناع المتعارف عليها))(24)، فيفهم من ذلك أن الادارة يقع على عاتقها عبء إثبات الوقائع التي استند عليها القرار (25). أما العراق فلم يذهب بعيداً عن أقرانه في فرنسا ومصر، فالقاضي الإداري يقوم بالتخفيف من حدة القاعدة العامة وهي (البينة على المدعي ) في المنازعات الإدارية، وذلك بتفعيل دوره الإيجابي في توجيه الدعوى فيقوم بنقل عبء الإثبات على عاتق الادارة وذلك لتحقيق قدر من التوازن المختل بينه وبين جهة الإدارة المدعى عليها في الدعوى، فتأمر المحكمة "محكمة القضاء الإداري ومحكمة قضاء الموظفين الممثل الحقوقي للجهة الإدارية المطعون قرارها بتقديم المستندات والوثائق المتعلقة بالنزاع فمثلاً الاضبارة المتعلقة بالقرار أو نسخ من مستندات التحقيق وغير ذلك من الأوراق الإدارية، فيكون للقاضي دور إيجابي في توجيه أدلة الإثبات، فيكفي أن يدعي الفرد بالوقائع موضوع القرار، ويقوم القاضي بتكليف الادارة بتقديم أوليات القرار فإذا لم تستجب لطلب المحكمة عد ذلك قرينة على صحة ادعاء الفرد (26)، فيقوم القاضي الإداري بتخفيف العبء عن عاتق المدعي بنقله على المدعي عليه شريطة أن يقدم المدعي قرائن تدحض قرينه الصحة في القرارات الإدارية وبالتالي يقع عبء الإثبات على عاتق الإدارة (27).
وتطبيق ذلك فقد قضت المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة العراقي بتصديق قرار محكمة قضاء الموظفين الذي يقضي بإلغاء قرار وزير الزراعة المتضمن إعفاء مدير قسم الأراضي الزراعية من منصبه، فقد اكدت المحكمة على أن الإدارة لم تقدم ما يثبت الوقائع المادية التي تبرر اصدار قرار الاعفاء (28).
ثانياً: دور القاضي في تحديد عبء الإثبات
يكاد يجمع الفقهاء بأن مذهب القضاء الإداري في الإثبات هو المذهب الحر (المطلق)، وذلك بسبب السلطات التي تمنح للقاضي في توجيه إجراءات الدعوى وأدله الإثبات فيها، ناتجة عن دوره الإيجابي في تحديد عبء الإثبات في الدعوى، وبروز هذا الدور تبرره مسألة ضعف مركز الفرد الذي يكون في الغالب هو المدعي ضد الادارة والتي تكون غالب الأمر في مركز المدعى عليه و التي تتمتع بامتيازات السلطة العامة التي تفوق بها الفرد وهذا الأخير حسب القواعد العامة هو الذي يتحمل عبء إثبات دعواه التي يقيمها مخاصماً قرار الإدارة (29).
إنَّ القرار الإداري له أوليات تحتفظ بها الإدارة في ملف خاص به وهذه الأوليات تحتوي كل ما يتعلق بالقرار من وقائع ومستندات تخص الفرد المتضرر منه، فمن حيث الأصل أن على الفرد في دعواه أن يثبت عدم مشروعية القرار وبسبب إحاطة الادارة بكل ما يتعلق بالقرار يصبح من الصعب على الفرد أن يثبت هذه المخالفة التي وصم بها القرار، فهنا يظهر دور القاضي الإيجابي في التخفيف عبء الإثبات من على عاتق الفرد وأحيانا نقله على عاتق الإدارة (30).
إن دور القاضي في توجيه أدله الإثبات يجب أن لا يفسر بأن القاضي هو الذي يتحمل العبء وحده دون أطراف الدعوى، فمن غير المعقول القول بهذا وذلك لتعارضه مع الوظيفة القضائية (31)، فهو يقوم بوزن الأدلة المقدمة من الأطراف لأن وظيفته الفصل في النزاع عندما تقدم أمامه الادعاءات التي تكون القناعة لديه(32).
ويتمثل دور القاضي الإيجابي المحدد لعبء الإثبات بـ:
1. توجيه الأمر إلى الادارة بتقديم المستندات المتعلقة بموضوع النزاع ذات الأثر الحاسم فيه الأصل أنه لا يجوز إجبار المدعي عليه بتقديم دليل ضد نفسه إلا فيما ينص عليه القانون إلا أن ما تقدم قد يتناسب مع طبيعة الدعوى المدنية نظرا لتساوي مراكز الخصوم فيها، فهو غير مجدي في الدعوى الإدارية لاختلاف المراكز بين أطرافها الفرد الضعيف والإدارة صاحبة السلطة العامة بما تتضمنه من امتيازات (33) ، فيقوم القاضي بتكليف الادارة بتقديم ما بحوزتها من مستندات تتعلق بالقرار المطعون فيه، ويظهر ذلك في الدعاوى التي تقام ضد القرارات المعيبة بعيب السبب، ولصحة هذه القرارات فإنها يجب أن تستند على أسباب قانونية بالرغم من أن الادارة غير ملزمة بتسبيب قراراتها الا إذا نص القانون على التسبيب، ولكن ليس معنى ذلك عدم استناده على سبب يبرره(34). الأمر الذي يتطلب من القاضي التدخل والتخفيف على الفرد بإعفائه من إثبات قانونية أسباب القرار وينقله على عاتق الادارة ويلزمها بتقديم أوليات القرار وتفحص مستنداته، ولأن القرارات الإدارية يفترض أنها قائمة على أسباب صحيحة تبرر إصدارها فهذا الافتراض في الواقع قرينة قضائية فمن يدعي عكسها عليه الإثبات وفي مجال اعمالها ولدور القاضي الإيجابي يكفي ادعاء الفرد بعدم صحة السبب فينقل القاضي عبء الإثبات على الإدارة (35).
2. الزام الإدارة بإجراء التحقيق الإداري
وهذا التكليف من ابتداع مجلس الدولة الفرنسي وذلك بأن يأمر القاضي الإدارة بإجراء تحقيق اداري، يكون بتقرير مكتوب من قبل الإدارة يتضمن تدوين وقائع الدعوي(36)، وهذه الحالة لا يمكن الركون اليها في العراق لأن القضاء الإداري في العراق يبحث في مدى مشروعية القرار الإداري المطعون به ولا حاجة لإجراء تحقيق لاحق بعد إقامة الدعوى لأنه قد ينشأ وقائع جديدة من الممكن أن تكون مبرراً لإصدار قرار مستقل عن القرار موضوع الدعوى(37).
___________
1- عبير موسى عابد، الإثبات القانوني أمام القضاء الإداري، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا جامعة النجاح، فلسطین، ص 70.
2- أحمد كمال الدين موسى نظرية الإثبات في القانون الإداري، دون ذكر المطبعة ، ط 1977، ص23.
3- القرار رقم 183/م/ 2019 في 2019/2/27 ، نقلاً عن أحمد جدوع حسين التميمي، قضاء الإلغاء وتطبيقاته العملية في محكمتي القضاء الإداري والموظفين، مكتبة القانون المقارن ،العراق، بغداد ط1، 2019 ، ص 309.
4- جوزيف رزق الله النظرية العامة للإثبات أمام القضاء الإداري، مكتبة صادر ناشرون، لبنان، بیروت، ط1، 2010، ص 268.
5- لحسين بن شيخ آث ملويا، مبادئ الاثبات في المنازعات الادارية دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع الجزائر ط 2004 ص79.
6- الياس جوادي، الإثبات في المنازعات الإدارية، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، لبنان، ط1، 2018، ، ص108.
7- فكير جهور علي، عيب الانحراف في استعمال السلطة وأثاره على القرار الإداري، دار الجامعة الجديدة، مصر، الإسكندرية، ط، 2020، ص 141.
8- القرار رقم 2365 لسنة 1987 في 1987/1/24 نقلاً عن محمود حمدي أحمد مرعي، الإثبات وإشكالياته في الدعوى الإدارية، دار الجامعة الجديدة، مصر، الإسكندرية، ط، 2019، ص 16.
9- القرار رقم 2873 لسنة 1993 في 1993/12/21 أشار إليه، فكير جهور علي، مصدر سابق، ص 142.
10- المادة (7 ، حادي عشر) من قانون مجلس الدولة العراقي رقم (65) لسنة 1979.
11- القرار رقم 137 ، قضاء ،اداري، تمييز، 2019 في 2019/3/28 ، قرارات مجلس الدولة وفتاواه لعام 2019، جمهورية العراق مجلس الدولة، 2019، ص 540.
12- القرار رقم 590 ، قضاء اداري، تمييز، 2019 في 2019/2/13 ، قرارات مجلس الدولة وفتاواه لعام 2019، جمهورية العراق مجلس الدولة، 2019، ص 602.
13- المادة (7) من قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1979.
14- أحمد كمال الدين موسى، نظرية الإثبات في القانون الإداري، ص 25.
15- حاتم أحمد محمد بطيخ دور الانترنت في الإثبات أمام القاضي الجنائي والإداري، رسالة دكتوراه، جامعة عين شمس، كلية الحقوق، مصر، عام 2017، ص293.
16- جوزيف رزق الله النظرية العامة للإثبات أمام القضاء الإداري، مكتبة صادر ناشرون، لبنان، بیروت، ط1، 2010 ، ص277
17- مارسو لون وأخرون، أحكام المبادئ في القضاء الاداري الفرنسي، ترجمة أحمد يسري، دار الفكر الجامعي، مصر الاسكندرية، ط 10، 1995، ص 460.
18- لحسين بن شيخ آث ملويا، مصدر سابق، ص 80.
19- الياس جوادي، مصدر سابق، ص108.
20- مارسو لون وأخرون، أحكام المبادئ في القضاء الاداري الفرنسي، ترجمة أحمد يسري، دار الفكر الجامعي، مصر الاسكندرية، ط 10، 1995 ، ص 656.
21- عبد العزيز عبد المنعم خليفة المرافعات الإدارية والإثبات في الدعوى الإدارية، ص 183.
22- عبد الرؤوف هاشم بسيوني، قرينة الخطأ في مجال المسؤولية الإدارية، دار الفكر الجامعي، مصر، الإسكندرية، ط، 2017، ص 5.
23- قرار المحكمة الإدارية المصرية، رقم 149 لسنة 1972/12/30 ، نقلاً معوض عبد التواب، الدعوى الإدارية وصيغها، بدون ذكر ،مطبعة، ط، 1991، ص 382.
24- خميس السيد إسماعيل الإثبات أمام القضاءين الإداري والعادي، دار ،محمود ،مصر، القاهرة، ط1، 2016، ص20.
25- محمد علي حسونة قرينة الخطأ في مجال المسؤولية الإدارية، دار النهضة العربية، مصر، القاهرة، ط، 2012، ص 45.
26- عثمان سلمان غيلان العبودي، الاحكام القانونية في إقامة الدعاوي الإدارية دار المسلة بغداد العراق ط 2023 ، ص 164.
27- سوسن عبد الستار علي الرقابة على مشروعية سبب القرار الإداري في قضاء مجلس الدولة، بحث منشور في مجلة جامعة تكريت للحقوق ،العراق، العدد 1 السنة 6 ، مجلد ،6 ، ج 1 ، عام 2021، ص 296.
28- القرار رقم 461 ، قضاء موظفين تمييز، 2013 في 2014/8/10، نقلاً عن لفتة هامل العجيلي، قضاء المحكمة الإدارية العليا، مطبعة الكتاب ،بغداد ،العراق، ط1، 2016، ص 255.
29- زكريا محمد رسلان إجراءات دعوى الإلغاء امام مجلس الدولة السوري رسالة دكتوراه، جامعة حلب، كلية الحقوق، سوريا، عام 2011، ص 319
30- جهاد صفا، أبحاث في القانون الإداري، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، بيروت، بدون ذكر سنة طبع، ص 72.
31- شريف أحمد يوسف بعلوشة، إجراءات التقاضي أمام القضاء الإداري مركز الدراسات العربية، مصر، ط1، 2016 ، ص502.
32- أحمد كمال الدين موسى نظرية الإثبات في القانون الإداري، دون ذكر المطبعة، ط 1977،
، ص21.
33- عثمان سلمان غيلان العبودي مصدر سابق، ص168.
34- محمد عبد اللطيف تسبيب القرارات الإدارية دار النهضة العربية مصر القاهرة، ط، 1996، ص 5.
35- رأفت ،فوده أصول وفلسفة قضاء الإلغاء، دار النهضة العربية مصر القاهرة، ط، 2018،2017، ص 628.
36- روبير بيلو، محاضرات في القضاء الإداري ترجمة محمد الفاضل، مطبعة الجامعة السورية، ط، 1950، ص 50.
37- عثمان سلمان غيلان العبودي، مصدر سابق، ص198.
الاكثر قراءة في قانون الاثبات
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
