صراع الأمراء وأثره على العلاقة بين السلطان محمود وأخيه مسعود
المؤلف:
أ.د. محمد سهيل طقوش
المصدر:
تاريخ السلاجقة في خراسان وإيران والعراق
الجزء والصفحة:
ص 223 ــ 227
2025-09-26
343
كان السلطان محمود قد أقر أخاه مسعوداً على الموصل مع أتابكه جيوش بك (أي أبه)، ويبدو أن الأمير السلجوقي كان يطمع في الحكم، وشجعه أتابكه على المطالبة بالعرش، وحرَّضه على الثورة على أخيه طمعاً منه في زيادة إقطاعه والتحكم بشؤون السلطنة السلجوقية، وأخذ مسعود يترقب الفرصة المناسبة لتحقيق هدفه علماً أنه بعد وفاة السلطان محمد واعتلاء ابنه السلطان محمود العرش في العراق، نافسه ثلاثة من إخوته هم مسعود وسليمان وطغرل بتوجيه من أتابكتهم، وراحوا يثيرون عليه أمراء الأطراف.
وحدث في جمادى الأولى (512هـ / أيلول 1118م) أن خرج أقسنقر البرسقي شحنة بغداد من المدينة في طريقه إلى الحلة لانتزاعها من يد دبيس بن صدقة، فلما علم مسعود وأتابكه جيوش بك بذلك، غادروا الموصل متوجهين إلى عاصمة الخلافة للسيطرة عليها واعتلاء العرش السلجوقي ورافقهما وزير مسعود فخر الملك أبو علي بن عمار أمير طرابلس السابق، وقسيم الدولة زنكي بن آقسنقر، جد أمراء الموصل الزنكيين، وأمير سنجار، وأبو الهيجاء، صاحب إربل، وكرباوي بن خراسان التركماني، صاحب البوازيج (1).
كان البرسقي آنذاك قد وصل إلى الرقة وعسكر في أدناها، فلما بلغه خروج مسعود وحلفائه أدرك خطورة الموقف؛ لأنه اصطحب معه كل جنده، فأسرع بالعودة إلى بغداد للدفاع عنها وفاجأت عودته السريعة مسعود وأتابكه اللذين كانا يمنيان النفس بدخول بغداد من دون مقاومة لخلوها من الجند، فتغير الوضع عندئذ وأضحى الاصطدام بين الطرفين أمراً واقعاً إذا حاول المهاجمان دخول بغداد عنوة، ويبدو أنهما تهيبا الموقف فآثرا الصلح، وأرسلا إلى السلطان محمود في همذان يبلغانه أنهما قدما لمساعدته ضد دبيس بن صدقة (2).
الواقع أن البرسقي خشي من نوايا مسعود وأتابكه؛ لأنه لم يطلب منهما أي مساعدة ضد دبيس بن صدقة كما أنهما توجّها بقواتهما نحو بغداد مباشرة ولم يتوجها إلى المكان الذي يعسكر فيه في مواجهة دبيس ما يدل على أنهما كانا ينويان الاستيلاء على بغداد منتهزين فرصة غيابه عنها، ومع ذلك يبدو أنه اطمأن إليهما فسمح لهما بدخول بغداد وأنزل مسعود بدار المملكة.
وإذ أدرك دبيس بن صدقة أنه لا يمكنه مواجهتهم منفرداً، ركن إلى الهدوء وقدم هدية حسنة لكل منهم، ولكنه لم يتخلَّ عن طموحه، وتعاون هذه المرة مع الأمير عماد الدين منكبرس بن الملك بوربرس بن ألب أرسلان، الطامع في اعتلاء العرش السلجوقي في العراق وكان البرسقي قد أبعده عن بغداد وأرغمه على تغيير خط زحفه إلى النعمانية، فعبر دجلة واجتمع بدبيس بن صدقة واتفقا على محاربة البرسقي (3).
وهكذا تأزم الموقف السياسي من جديد فخرج البرسقي ومسعود وجيوش بك المحاربة دبيس بن صدقة وحليفه منكبرس، وعندما وصلوا إلى المدائن علموا بكثرة جنودهما فقرروا التراجع، فعبروا نهر صرصرا (4)، ووضعوا حاميات عسكرية على مخاضاته لمنع أي محاولة قد يقوم بها الحليفان لعبوره (5).
أدى هذا النزاع الداخلي إلى نشوب الفوضى والاضطراب واختلال الأمن في منطقة السواد فنهب الطرفان المنطقة بشكل فاحش ما دفع الخليفة العباسي المسترشد إلى التدخل داعياً الأطراف المتنازعة إلى الصلح وحقن الدماء، وأرسل وفداً إلى البرسقي ومسعود ضمَّ سديد الدولة بن الأنباري والإمام الأسعد المهيني، النظامية، يأمرهما بالموادعة والمصالحة والكف عن القتال والنهب، وحقن الدماء، وترك الفساد فأنكرا أمام الوفد أن يكون قد جرى أي تعد على أيديهما وأبديا استعدادهما للعودة إلى بغداد (6).
كانت بغداد قد خلت آنذاك ممن يحميها أو يدافع عنها؛ لأن البرسقي اصطحب معه جنوده كافة فاستغل دبيس بن صدقة وحليفة منكبرس ذلك وأرسلا قوة عسكرية من ثلاثة آلاف مقاتل لعبور نهر ديالي ودخول بغداد بقيادة منصور بن صدقة، أخي دبيس، والأمير حسين بن أزبك، وعندما علم البرسقي بذلك عاد إلى المدينة على وجه السرعة تاركاً ابنه عز الدين مسعود على عسكره في صرصر، واصطحب معه عماد الدين زنكي فوصل إلى نهر ديالي قبل وصول قوات خصمه، ومنعها من العبور، وأقام يومين في ذلك المكان تسلّم خلالها رسالة من ابنه يخبره بعقد الصلح بين دبيس ومنكبرس من جهة، وبين مسعود وجيوش بك من جهة أخرى، فاستاء من هذا التصرف ؛ لأنه تم من دون علمه فعاد إلى بغداد وعبر إلى الجانب الغربي وعبرت في إثره عساكر منصور بن صدقة والأمير حسين بن أزبك وعسكرت عند جامع السلطان، ثم قدم مسعود وأتابكه ونزلا عند البيمارستان، في حين نزل دبيس ومنكبرس أسفل الرقة(7).
ويبدو أن حصول هذا الصلح المفاجيء مرده إلى أن جيوش بك طلب من السلطان محمود زيادة إقطاع أخيه ،مسعود فأقطعه ولاية أذربيجان بالإضافة إلى الموصل وأعمالها وأرسل من يخبره بذلك، فوصل الرسول وهو يعسكر على نهر صرصر في مواجهة دبيس ومنكبرس، وبلغه الرسالة، فرحل عندئذ عن الموصل مع أتابكه متوجهين إلى أذربيجان لتسلمها وعندما بلغ السلطان محمود نبأ رحيلهما، وهو لا يعلم وجهتهما ظنّ أنهما خرجا عن طاعته، فعاد عن قراره، وتجهز للزحف نحو الموصل. ووقع كتاب العزل في يد منكبرس، فاستغله للضغط على مسعود وأتابكه، وأقنعهما بالتخلي عن البرسقي مقابل ضمان عفو السلطان عنهما، وقد خشيا أن يُنفذ السلطان محمود تهديده بالزحف نحو الموصل في الوقت الذي كانا في مواجهة دبيس ومنكبرس.
وخشي جيوش بك أن يتدخل البرسقي لإفشال الصلح لذلك اتفق مع منكبرس على أن يُرسل فرقاً عسكرية لتهديد بغداد وإرغام البرسقي على الانسحاب من مسرح الأحداث، فتم لهما ذلك، وعاد عسكر الموصل والجزيرة ومن معهم إلى بلادهم، ولم يحصل جيوش بك على ما كان يهدف إليه من وراء هذه الحركة، وهو السيطرة على بغداد وتأمين العرش السلجوقي المسعود وتفرَّق أصحاب البرسقي عنه فلحق بالملك مسعود الذي أقطعه مراغة (8) في حين استقر منكبرس في منصب الشحنة في بغداد (9).
ويبدو أن السلطان محمود فضل في غمرة هذا الصراع على السلطة والنفوذ، أن يتفاهم مع أخيه مسعود، فكتب إليه يسترضيه، ودعاه إلى الكف عن ووعده بزيادة إقطاعه، إلا أنه لم يعبأ بذلك، فحذَّره عندئذ وتهدده، وأظهر حلفاؤه ما كانوا يخفونه، فخطبوا له بالسلطنة وضربوا له النوبة خمس مرات وهي من مظاهرها (10).
كانت قوات السلطان محمود متفرقة، ما شجّع مسعود وأتابكه على استغلال الفرصة فأسرعا بمهاجمته، وجرى اللقاء بينهما بالقرب من همذان في (ربيع الأول 514 هـ / حزيران 1120م)، وأسفر عن هزيمة مسعود وأتابكه وأسر جماعة من الأعيان ومقدمي العسكر كان من بينهم وزير مسعود أبو إسماعيل الطغرائي، فأمر السلطان بقتله، وفرَّ مسعود من أرض المعركة مع عدد من أتباعه، فآوى إلى جبل قريب واحتمى به وأرسل ،عثمان ركابي عسكره إلى أخيه يطلب الأمان، ويعتذر عما بدر منه، فأجابه السلطان إلى ذلك، وأمر البرسقي الذي كان على مقدم جيشه، بالمسير إليه وإبلاغه قرار العفو وإحضاره، غير أن بعض الأمراء أشاروا عليه (مسعود) بعد أن كتب إلى أخيه بشأن العفو عنه الذهاب إلى الموصل والتعاون مع صدقة، واستئناف الحرب ضد أخيه، فوافقهم على ذلك، ورحل إلى الموصل، وعندما وصل البرسقي ولم يجده، أخبر بمسيره فلحقه وأدركه على بعد ثلاثين فرسخاً، وأخبره بعفو أخيه وأقنعه بالعودة إليه وضمن له ما أراد، فاستقبله أخوه بالترحاب ووفى له بما بذله واستمرت الخطبة لمسعود في أذربيجان والموصل والجزيرة الفراتية مدة ثمانية وعشرين يوماً(11).
وعاد جيوش بك بعد المعركة إلى الموصل بعد أن تعذر عليه الاجتماع بمسعود، ونزل بظاهرها واستعد لصد أي هجوم أو حصار قد يقوم به السلطان محمود أو يفرضه على المدينة، وفي الوقت الذي كان فيه منهمكاً في الإعداد للمعركة، جاءته فأسقط الأنباء بتفاهم مسعود مع أخيه السلطان محمود في يده، وأدرك ضعف موقفه، وأنه لم يعد هناك من مبرر لاستمراره في العصيان فقرر التوجه إلى همذان حيث اجتمع بالسلطان الذي اكتفى بعزله عن إمارة الموصل وأعمالها، وأقطعها الأمير أقسنقر البرسقي، وذلك في صفر (515هـ/ أيار 1121م) (12).
وعندما بلغ دبيس بن صدقة انهزام ،مسعود نهب البلاد وخربها، ولم يُعر نداء كل من الخليفة العباسي المسترشد والسلطان محمود له بالكفّ عن ذلك، ثم زحف إلى بغداد وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة وأظهر ما في قلبه من حقد بسبب مقتل والده صدقة بن مزيد في عام (501 هـ / 1107 - 1108م) ، فالتمس الخليفة المساعدة هذا السلطان، فخرج من همذان في طريقه إلى بغداد، ووصل إليها في (رجب 514هـ / تشرين الأول 1120م) ، فأرسل إليه دبيس زوجته ومعها مال كثير وهدية نفيسة وسأله العفو عنه، فاشترط السلطان شروطاً لم يقبلها دبيس، وما زال الخلاف محتدماً بينهما حتى عام (515 هـ / 1121م) ، فاستسلم دبيس بعد مطاردة القوات السلطانية له من مكان إلى آخر وأرسل أخاه منصوراً رهينة تدليلاً على خضوعه وطاعته(13).
...........................................................................
(1) ابن الأثير: جـ 8 ص 630. والبوازيج بلد قرب تكريت على فم الزاب الأسفل حيث يصب في دجلة، وهي من أعمال الموصل. الحموي: ج1 ص 503.
(2) ابن الأثير: جـ 8 ص 631.
(3) المصدر نفسه. والنعمانية. بليدة بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة عن أعمال الزاب الأعلى وهي قصبته الحموي: ج5 ص 294.
(4) صرصر: قريتان من سواد بغداد، صرصر العليا وصرصر السفلى، وهما على ضفة نهر عيسى وربما قيل نهر صرصر فنسب النهر إليها. الحموي 3 ص401.
(5) ابن الأثير: ج 8 ص 631.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه: ص 631- 632.
(8) مراغة: بلدة مشهورة عظيمة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان الحموي: جـ5 ص 93.
(9) ابن الأثير جـ 8 ص 632، 633.
(10) ابن القلانسي: ص 322
(11) الحسيني: ص 96، 97
(12) ابن الأثير: جـ 8 ص 668.
(13) المصدر نفسه ص 651، 652
الاكثر قراءة في الدولة العباسية *
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة