الجمال المعقول
المؤلف:
الشيخ مرتضى مطهّري
المصدر:
فلسفة الأخلاق
الجزء والصفحة:
ص77-79
2024-07-11
1388
بعد تجاوُز الجمالَين: الحسّي والمعنويّ، نصل الآن إلى جمال آخر، وهو «الجمال المعقول»، وهو جمالٌ لا يُدركه سوى العقل، دون الحواسّ والقوّة المتخيّلة، ويُسمَّى اصطلاحاً بـ «الحُسن العقليّ» ويقابله «القبح العقليّ»، وهذا هو مورد المسألة المعروفة عند متكلّمي الشيعة والمعتزلة وفقهائهم، بمسألة «الحُسن والقبح العقليَّين»، وحاصلها: أنّ أفعال الإنسان قِسمان:
1. أفعال ذاتيّة الحُسن والجمال، تبعث على الإكبار والإعجاب.
2. أفعال طبيعيّة يمارسها الإنسان في أدوار حياته، ولا بريقَ لها.
فمِن الأُولى: الإيثار والتضحية، فمَن الّذي لا يُكبِرُ مَن يتكبَّد المشاقّ في سبيل إسعاد الآخرين وهنائهم؟ إنّه تعالى أكبرَ ذلك في شخص رسوله الكريم، قال جلَّ ذكره: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[1]؛ فالآية الشريفة هنا في مقام المدح والثناء على هذا الموقف الأبويّ.
وهذا الحُسن الذاتيّ، هو مناط أخلاقيّة الفعل البشريّ وتميُّزه؛ ولذلك -بناءً على نظريّة الجمال المعنويّ- ينبغي أوّلاً، إيجاد الأرضيّة الملائمة؛ كي يدرك الأفراد الجمال المعنويّ للأفعال، جمال التضحية والاستقامة والعدل والعفو والعلم والصبر والجود... لأنّ إدراك هذا النوع من الجمال وتذوُّقه، كفيل بجذب الأفراد نحو السلوك السويّ وتجذير الأخلاق الحميدة، وهذا يعني نفورهم من أضدادها؛ لإدراكهم قبحها وزيفها؛ فالكذب سيُرى شيئاً عفناً، والغيبة ستُرى جيفةً نتنةً، كما هو حال أولئك الثلّة الّذين هذَّبوا نفوسهم وارتقوا بأخلاقهم، حيث تنفُر بطبعها من الرذائل وتعشق الفضائل، وإن كلَّفَهم ذلك غالياً، فعلينا إذاً أن نُصلِح الذوق العقليّ والفكريّ والمعنويّ؛ فإذا صلح الذوق وارتقى، ارتقى الإنسان بنفسه كذلك.
وقد تقول: ما هو السبيل للارتقاء بالذوق كي يدرك مثل هذا الجمال؟
ونقول لك: ليس ثمّة ما يعيق الإنسان عن هذا الهدف، ومستسهِل الصعب يدرك المُنى، وسبيل ذلك هو التربية الموجَّهة والمجاهدة المتبصّرة، ولقد رأينا في حياتنا جماعة تزيَّنت بجميل الخُلُق، وترفّعت عن سفاسف[2] الأمور، وهجرت محسوس اللذائذ طرّاً، وأنِست بذكر الباري تعالى، والتذَّت بعبادته وهداية العباد إليه تعالى، يعبدونه حبّاً وعشقاً لذاته المقدَّسة؛ لأنّهم أدركوا جمال أهليّته للعبادة، ولم يبتغوا من وراء ذلك نفعاً يجلبونه، أو ضرّاً يدفعونه، فحتّى لو آمنهم تعالى من عذابه إذ عصوه، أو حرمهم ثوابه إذ أطاعوه، لَمَا عصوه آمنين، ولَمَا تركوا طاعته متذمّرين. ولا ريب في أنَّ مَن هذا حاله، فهو متخلِّقٌ بأخلاق ذلك «الجمال المطلق»، كالعدل والإحسان، ومتنزّهٌ عن أضدادها، كالظلم والبغي، وصَدَق الله تعالى إذ يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[3].
وكيف كان، فهذا شيءٌ ممّا ذكره متكلِّمو الإسلام وفقهاؤه في مبحث الحُسن والقبح العقليَّين.
[1] سورة التوبة، الآية 128.
[2] سَفاسِفِ الأمور: الأمور التافهة الحقيرة.
[3] سورة النحل، الآية 90.
الاكثر قراءة في أخلاقيات عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة