الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
أبو عبد الله ابن زمرك ــ ترجمته عن الإحاطة
المؤلف:
أحمد بن محمد المقري التلمساني
المصدر:
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
الجزء والصفحة:
ص: 145-160
2025-09-21
128
أبو عبد الله ابن زمرك ــ ترجمته عن الإحاطة
الوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك (1)، وارث مرتبته من بعده، ومقتعد أريكة سعده، وقد ألمع به في الإحاطة وكان إذ ذاك من جملة أتباعه، إذ قال ما محصله: محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الصريحي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن زمرك.
أصله من شرقي الأندلس، وسكن سلفه ربض (2) البيازين من غرناطة، وبه ولد ونشأ، وهو من مفاخره.
حاله - هذا الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، مختصر مقبول هش خلوب، عذب الفكاهة حلو المجالسة، حسن التوقيع خفيف الروح عظيم الانطباع شره المذاكرة، فطن بالمعاريض حاضر الجواب، شعلة من شعل الذكاء تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة فكه غزل مع حياء وحشمة، جواد بما في يده مشارك لإخوانه، نشأ عفا طاهرا، كلفا بالقراءة عظيم الدؤوب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ ظاهر النبل، بعيد مدى الإدراك جيد الفهم، فاشتهر فضله وذاع أرجه وفشا خبره، واضطلع بكثير من الأغراض وشارك في كثير من الفنون، وأصبح متلقف كرة البحث وصارخ الحلقة [وسابق الحلبة] ومظنة الكمال، ثم ترقى في درج المعرفة والاضطلاع وخاض لجة الحفظ، وركض قلم التقييد والتسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس متكلما فوق الكرسي المنصوب، وفوق (3) المحفل المجموع، مستظهرا بالفنون التي بعد فيها شأوه من العربية والبيان [واللغة] وما يقذف به في لج النقل من الأخبار والتفسير، متشوقا مع ذلك إلى السلوك مصاحبا للصوفية آخذا نفسه بارتياض ومجاهدة، ثم عانى الأدب فكان أملك به، وأعمل الرحلة في طلب العلم والازدياد، فترقى إلى الكتابة عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب، ثم عن السلطان، وعرف في بابه بالإجادة.
ولما جرت الحادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقر بالمغرب، أنس له وانقطع إليه، وكر في صحبة ركابه إلى استرجاع حقه، فلطف منه محله وخصه بكتابة سره، وثابت الحال ودالت الدولة وكانت له الطائلة، فأقره على رسمه معروف الانقطاع والصاغية كثير الدالة، مضطلعا بالخطة خطا وإنشاء ولسنا ونقدا، فحسن منابه واشتهر فضله وظهرت مشاركته وحسنت وساطته، ووسع الناس تخلقه، وأرضى للسلطان حمله، وامتد في ميدان النظم والنثر باعه، فصدر عنه من المنظوم في أمداحه قصائد بعيدة الشأو في مدى الإجادة، وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد، أعانه الله تعالى وسدده.
شيوخه - قرأ العربية على الأستاذ رحلة المغرب في فنها أبي عبد الله ابن الفخار، ثم على القاضي الشريف إمام الفنون اللسانية أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد ابن لب، واختص بالفقيه الخطيب الصدر المحدث أبي عبد الله ابن مرزوق فأخذ عنه كثيرا من الرواية، ولقي القاضي الحافظ (4) أبا عبد الله المقري عندما قدم على الأندلس وذاكره، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزواوي، ويروي عن جملة منهم القاضي أبو البركات ابن الحاج، والمحدث أبو الحسين ابن التلمساني، والخطيب أبو عبد الله ابن اللوشي، والمقرئ أبو عبد الله ابن بيبش، وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس على الشريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلوني (5) التلمساني، واختص به اختصاصا لم يخل فيه من استفادة مران وحنكة في الصنعة.
شعره - وشعره مترام إلى هدف الإجادة، خفاجي النزعة، كلف بالمعاني البديعة والألفاظ الصقيلة، غزير المادة، فمن ذلك ما خاطبني به، وهو من أول ما نظمه قصيدة مطلعها:
أما وانصداع النور من مطلع الفجر ... وهي طويلة.
ومن بدائعه التي عقم عن مثلها قياس قيس، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزهد بأويس (6) ، ولم يحل مجاريه ومباريه إلا بويح وويس، قوله في إعذار الأمير ولد سلطانه المنوه بمكانه، وهي من الكلام الذي عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه، وناسب الحسن بين مديحه ونسيبه:
معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا ... وأن يشغل اللوام بالعذل باليا
دعاني أعط الحب فضل مقادتي ... ويقضي علي الوجد ما كان قاضيا
ودون الذي رام العواذل صبوة ... رمت بي في شعب الغرام المراميا
وقلب إذا ما البرق أومض موهنا ... قدحت به زندا من الشوق واريا
خليلي إني يوم طارقة النوى ... شقيت بمن لو شاء أنعم باليا
والخيف يوم النفر يا أم مالك ... تخلفت قلبي في حبالك عانيا
وذي أشر عذب الثنايا مخصر ... يسقي به ماء النعيم الأقاحيا
أحوم عليه ما دجا الليل ساهرا ... وأصبح دون (7) الورد ظمآن صاديا
يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي ... إذا البارق النجدي وهنا بدا ليا
أجيرتنا بالرمل والرمل منزل ... مضى العيش فيه بالشبيبة حاليا
ولم أر ربعا منه أقضى لبانة ... وأشجى حمامات، وأحلى مجانيا
سقت ظله الغر الغوادي ونظمت ... من القطر في جيد الغصون لآليا
أبثكم أني على النأي حافظ ... ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا
أناشدكم والحر أوفى بعهده ... ولن يعدم الإحسان والخير جازيا
هل الود إلا ما تحاماه كاشح ... وأخفق في مسعاه من جاء واشيا
تأوبني والليل يذكي عيونه ... ويسحب من ذيل الدجنة ضافيا
وقد مثلت زهر النجوم بأفقه ... حبابا على نهر المجرة طافيا
خيال على بعد المزار ألم بي ... فأذكرني من لم أكن عنه ساليا
عجبت له كيف اهتدى نحو مضجعي ... ولم يبق مني السقم والشوق باقيا
رفعت له نار الصبابة فاهتدى ... وخاض لها عرض الدجنة ساريا
ومما أجد الوجد سرب على النقا ... سوانح يصقلن الطلى والتراقيا
نزعن عن الألحاظ كل مسدد ... فغادرن أفلاذ القلوب دواميا
ولما تراءى السرب قلت لصاحبي ... وأيقنت أن الحب ما عشت دانيا
حذارك من سقم الجفون فإنه ... سيعدي بما يعيي الطبيب المداويا
وإن أمير المسلمين محمدا ... ليعدي نداه الساريات الهواميا
تضيء النجوم الزاهرات خلاله ... وينفث في روع الزمان المعاليا
معال إذا ما النجم صوب طالبا ... مبالغها في العز حلق وانيا
يسابق علوي الرياح إلى الندى ... ويفضح جدوى راحتيه الغواديا
ويغضي عن العوراء إغضاء قادر ... ويرجح في الحلم الجبال الرواسيا
همام يروع الأسد في حومة الوغى ... كما راعت الأسد الظباء الجوازيا
إذا استبق الأملاك يوما لغاية ... أبيت وذاك المجد إلا التناهيا
بهرت فأخفيت الملوك وذكرها ... ولا عجب فالشمس تخفي الدراريا
جلوت ظلام الظلم من كل معتد ... ولا غرو أن تجلو البدور الدياجيا
هديت سبيل الله من ضل رشده ... فلا زلت مهديا إليه وهاديا
أفدت وحي الملك مما أفدته ... وطوقت أشراف الملوك الأياديا
وكان أبو زيان جيدا معطلا ... فزينته حتى اغتدى بك حاليا
لك الخير لم تقصد بما قد أفدته ... جزاء ولكن همة هي ما هيا
فما تكبر الأملاك غيرك آمرا ... ولا ترهب الأشراف غيرك ناهيا
ولا تشتكي الأيام من داء فتنة ... فقد عرفت منك الطبيب المداويا
وأندلسا أوليت ما أنت أهله ... أوردتها وردا من الأمن صافيا
تلافيت هذا الثغر وهو على شفا ... وأصبحت من داء الحوادث شافيا
ومن بعد ما ساءت ظنون بأهلها ... وحاموا على ورد الأماني صواديا
فما يأملون العيش إلا تعللا ... ولا يعرفون الأمن إلا أمانيا
عطفت على الأيام عطفة راحم ... وألبستها ثوب امتنانك ضافيا
فآنس من تلقائك الملك رشده ... ونال بك الإسلام ما كان راجيا
فرأي كما اشنق الصباح، وعزمة ... كما صقل القين الحسام اليماناي
وكانت رماح الخط خمصا ذوابلا ... فأنهلت منها في الدماء صواديا
وأوردت صفح السيف أبيض ناصعا ... فأصدرته في الروع أحمر قانيا
لك العزم تستجلي الخطوب بهديه ... ويلفى إذا تنبو الصوارم ماضيا
إذا أنت لم تفخر بما أنت أهله ... فما الصبح وضاح المشارق عاليا
ويهنيك دون العيد عيد شرعته ... نبث به في الخافقين التهانيا
أقمت به من فطرة الدين سنة ... وجددت من رسم الهداية عافيا
صنيع تولى الله تشييد فخره ... وكان لما أوليت فيه مجازيا
تود النجوم الزهر لو مثلت به ... وقضت من الزلفى إليك الأمانيا
ومازال وجه اليوم بالشمس مشرقا ... سرورا به والليل بالشهب حاليا
على مثله فليعقد الفخر تاجه ... ويسمو به فوق النجوم مراقيا
به تغمر الأنواء كل مفوه ... ويحدو به من كان بالقفر ساريا
ويوسف فيه بالجمال مقنع ... كأن له من كل قلب مناجيا
وأقبل ما شاب الحياء مهابة ... يقلب وجه البدر أزهر باهيا
وأقدم لا هيابة الحفل واجما ... ولا قاصرا فيه الخطا متوانيا
شمائل فيه من أبيه وجده ... ترى العز فيها مستكنا وباديا
فيا علقا أشجى القلوب لو أننا ... فديناك بالأعلاق ما كنت غاليا
جريت فأجريت الدموع تعطفا ... وأطلعت فيها للسرور نواشيا
وكم من ولي دون بابك مخلص ... يفديه بالنفس النفيسة واقيا
وصيد من الحيين أبناء قيلة ... تكف الأعادي أو تبيد الأعاديا
بها ليل غر إن أعدوا لغارة ... أعادوا صباح الحي أظلم داجيا
فوالله لولا أن توخيت سنة ... رضيت بها أن كان ربك راضيا
لكان بها للأعوجيات جولة ... تشيب من الغلب الشباب النواصيا
وتترك أوصال الوشيج مقصدا ... وبيض الظبي حمر المنون دواميا
ولما قضى من سنة الله ما قضى ... وقد حسدت منه النجوم المساعيا
أفضنا نهني منك أكرم منعم ... أبى لعميم الجود إلا تواليا
فيهني صفاح الهند والبأس والندى ... وسمر العوالي والعتاق المذاكيا
ويهني البنود الخافقات فإنها ... سيعقدها في ذمة النصر غازيا
كأني به يشقي الصوارم والظبي ... ويحطم في اللأم الصلاب العواليا
كأني به قد توج الملك يافعا ... وجمع أشتات المكارم ناشيا
وقضى حقوق الفخر في ميعة الصبا ... وأحسن من دين الكمال التقاضيا
وما هو إلآ السعد إن رمت مطلعا ... وسددت سهما كان ربك راميا
فلا زلت يا فخر الخلافة كافلا ... ولا زلت يا خير الأئمة كافيا
ودمت قرير العين منه بغبطة ... وكان له رب البرية واقيا
نظمت له حر الكلام تمائما ... جعلت مكان الدر فيها القوافيا
لآل بها تأبى (8) الملوك نفاسة ... وجلت لعمري أن تكون لآليا
أرى المال يرميه الجديدان بالبلى ... وما إن أرى إلا المحامد باقيا وورد على السلطان أبي سالم ملك المغرب رحمة الله تعالى عليه وفد الأحابيش بهدية من ملك السودان، ومن جملتها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة، فأمر من يعاني الشعر من الكتاب بالنظم في ذلك الغرض، فقال وهي من بدائعه:
لولا تألق بارق التذكار ... ما صاب واكف دمعي المدرار
لكنه مهما تعرض خافقا ... قدحت يد الأشواق زند أواري
وعلى المشوق إذا تذكر معهدا ... أن يغري الجفان باستعبار
أمذكري غرناطة حلت بها ... أيدي السحاب أزرة النوار
كيف التخلص للحديث وبيننا (9) ... عرض الفلاة وطافح الزخار
هذا على أن التغرب مركبي ... وتولج الفيح الفساح (10) شعاري
فلكم أقمت غداة زمت عيسهم ... أبغي القرار ولات حين قرار
وطفقت أستقري المنازل بعدهم ... يمحو البكاء مواقع الآثار
إنا بني الآمال تخدعنا المنى ... فنخادع الآمال بالتسيار
نتجشم الأهوال في طلب العلا ... ونروع سرب النوم بالأفكار
لا يحرز المجد الخطير سوى امرىء ... يمطي (11) العزائم صهوة الأخطار
إما يفاخر بالعتاد ففخره ... بالمشرفية والقنا الخطار
مستبصر مرمى العواقب واصل ... في حمله (12) الإيراد بالإصدار
فأشد ما قاد الجهول إلى الردى ... عمه البصائر لا عمى الأبصار
ولرب مربد الجوانح مزبد ... سبح الهلال بلجه الزخار
فتقت كمائم جنحه عن أنجم ... سفرت زواهرهن عن أزهار
مثلت على شاطي المجرة نرجسا ... تصطف منه على خليج جاري
وكأنما بدر التمام بجنحه ... وجه الإمام بجحفل جرار
وكأنما خمس الثريا راحة ... ذرعت مسير الليل بالأشبار
أسرجت من عزمي مصابيحا بها ... تهدي السراة لها من الأقطار
وارتاع من بازي الصباح غرابه ... لما أطل فطار كل مطار ومنها:
وغريبة قطعت إليك على الونى ... بيدا تبيد بها هموم الساري
تنسيه طيته التي قد أمها ... والركب فيها ميت الأخبار
يقتادها من كل مشتمل الدجى ... وكأنما عيناه جذوة نار
تشدو بحمد المستعين حداتها ... يتعللون به على الأكوار
إن مسهم لفح الهجير أبلهم ... منه نسيم ثنائك المعطار
خاضوا بها لجج الفلا فتخلصت ... منها خلوص البدر بعد سرار
سلمت بسعدك من غوائل مثلها ... وكفى بسعدك حاميا لذمار
وأتتك يا ملك الزمان غريبة ... قيد النواظر نزهة الأبصار
موشية الأعطاف رائقة الحلى ... رقمت بدائعها يد الأقدار
راق العيون أديمها فكأنه ... روض تفتح عن شقيق بهار
ما بين مبيض وأصفر فاقع ... سال اللجين به خلال نضار
يحكي حدائق نرجس في شاهق ... تنساب فيه أراقم الأنهار
تحدو (13) قوائم كالجذوع وفوقها ... جبل أشم بنوره متوار
وسمت بجيد مثل جذع مائل ... سهل التعطف لين خوار
تستشرف الجدران منه ترائبا ... فكأنما هو قائم بمنار
تاهت بكلكلها وأتلع جيدها ... ومشى بها الإعجاب مشي وقار
خرجوا لها الجم الغفير، وكلهم ... متعجب من لطف صنع الباري
كل يقول لصحبه قوموا انظروا ... كيف الجبال تقاد بالأسيار
ألقت ببابك رحلها ولطالما ... ألقى الغريب به عصا التسيار
علمت ملوك الأرض أنك فخرها ... فتسابقت لرضاك في مضمار
يتبوأون به وإن بعد المدى ... من جاهك الأعلى أعز جوار
فارفع لواء الفخر غير مدافع ... واسحب ذيول العسكر الجرار
واهنأ بأعياد الفتوح مخولا ... ما شئت من نصر ومن أنصار
وإليكها من روض فكري نفحة ... شف الثناء بها على الأزهار
في فصل منطقها ورائق رسمها ... مستمتع الأسماع والأبصار
وتميل من أصغى لها فكأنني ... عاطيته منها كؤوس عقار وأنشد السلطان في ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب ما فرغ من البنية الشهيرة ببابه رحمه الله تعالى:
تأمل أطلال الهوى فتألما ... وسيما الجوى والسقم منها تعلما
أخو زفرة هاجت له نار ذكرة ... فأنجد في شعب الغرام وأتهما وسرد لسان الدين هذه القصيدة بطولها، وهي تقارب التسعين بيتا، ثم ق ما نصه: وأنشد السلطان في وجهه للصيد أعملها، وأطلق أعنة الجياد في ميادين ذلك الطراد وأرسلها، قوله:
حياك يا دار الهوى من دار ... نوء السماك بديمة مدرار
وأعاد وجه رباك طلقا مشرقا ... متضاحكا بمباسم النوار
أمذكري دار الصبابة والهوى ... حيث الشباب يرف غصن (14) نضار
عاطيتني عنها الحديث كأنما ... عاطيتني عنها كؤوس عقار
إيه وإن أذكيت نار صبابتي ... وقدحت زند الشوق بالتذكار
يا زاجر الأظعان وهي مشوقة ... أشبهتها في زفرة وأوار
حنت إلى نجد وليست دارها ... وصبت إلى هنديه والغار
شاقت به برق الحمى واعتادها ... طيف الكرى بمزارها المزوار(15)
هل تبلغ الحاجات إن حملتها ... إن الوفاء سجية الأحرار
عر بذكري في الخيام وقل ... إذا جئت العقيق مبلغ الأوطار
عار بقومك يا ابنة الحبين أن ... تلوي الديون وأنت ذات يسار
أمنعت ميسور الكلام أخا الهوى ... وبخلت حتى بالخيال الساري
وأبان جاري الدمع عذر هيامه ... لكن أضعت له حقوق (16) الجار
هذا وقومك ما علمت خلالهم ... أوفى الكرام بذمة وجوار
الله في نفس شعاع كلما ... هب النسيم تطير كل مطار
بالله يا لمياء ما منع الصبا ... أن لا تهب بعرفك المعطار
يا بنت من تشدو الحداة بذكره ... متعللين به على الأكوار
ما ضر نسمة حاجر لو أنها ... أهدت لنا خبرا من الأخبار
هل بانه من بعدنا متأود ... متجاوب مترنم الأطيار
وهل الظباء الآنسات كعهدنا (17) ... يصرعن أسد الغاب وهي ضوار
يفتكن من قاماتها ولحاظها ... بالمشرفية والقنا الخطار
أشعرت قلبي حبهن صبابة ... فرمينني من لوعتي بجمار
وعلى الكثيب سوانح حمر الحلي ... بيض الوجوه يصدن بالأفكار
أدنى الحجيج مزارهن ثلاثة ... بمنى لو أن منى ديار (18) قرار
لكن يوم النفر جدن لنا بما ... عودننا من جفوة ونفار
يا ابن الألى قد أحرزوا خصل (19) العلا ... وسموا بطيب أرومة ونجار
وتنوب عن صوب الغمام أكفهم ... وتنوب أوجههم عن الأقمار
من آل سعد رافعي علم الهدى ... والمصطفين لنصرة المختار
أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرف الأعصار والأمصار
وجه كما حسر الصباح نقابه ... ويد تمد أناملا ببحار
جددت دون الدين عزمة أروع ... جددت منها سنة الأنصار
حطت البلاد ومن حوته ثغورها ... وكفى بسعدك حاميا لذمار
لله رحلتك التي نلنا بها ... أجر الجهاد ونزهة الأبصار
أوردتنا فيها لجودك موردا ... مستعذب الإيراد والإصدار
وأفضت فينا من نداك مواهبا ... حسنت مواقعها على التكرار
أضحكت ثغر الثغر لما جئته ... وخصصته بخصائص الإيثار
حتى الفلاة تقيم يوم وردتها ... سنن القرى بثلاثة الأثوار (20)
وسرت عقاب الجو تهديك الذي ... تصطاد من وحش ومن أطيار
والأرض تعلم أنك الغوث الذي ... تضفي عليها واقي الأستار
همل المسارح لا يراع قيسه ... إلا لنبأة فارس مغوار
سرحت عنان الريح فيه وربما ... ألقت بساحته عصا التسيار
باكرته والأفق قد خلع الدجى ... مسحا ليلبس حلة الإسفار
وجرى به نهر النهار كمثل ما ... سكب النديم سلافة من قار
عرضت به المستنفرات (21) كأنها ... خيل عراب جلن في مضمار
أتبعتها غرر الجياد كواكبا ... تنقض رجما في سماء غبار
والهاديات يؤمها عبل الشوى (22) ... متدفق كتدفق التيار
أزجيتها شقراء رائقة الحلى ... فرميته منها بشعلة نار
أثبت فيه الرمح ثم تركته ... خضب الجوانح بالدم الموار
حامت عليه الذابلات كأنها ... طير أوت منه إلى أوكار
طفقت أرانبه غداة أثرتها ... تبغي الفرار ولات حين فرار
هل ينفع الباع الطويل وقد غدت ... يوم الطراد قصيرة الأعمار
من كل منحفز بلمحة بارق ... فاتت خطاه مدارك الأبصار
وجوارح سبقت إليه طلابها ... فكأنما طالبنه بالثار
سود وبيض في الطراد تتابعت ... كالليل طارده بياض نهار
ترمي بها وهي الحنايا ضمرا ... مثل السهام نزعن عن أوتار
ظنت بأن ينجو لها، كلا ولو ... أغريته بأرانب الأقمار
وبكل فتخاء الجناح إذا ارتمت ... فكأنها نجم السماء الساري
زجل الجناح مصفق كمن الردى ... في مخلب منه وفي منقار
أجلى الطريد من الوحوش وإن رمى ... طيرا أتاك به على مقدار
وأريتنا الكسب الذي أعداده ... ملأت جمالا أعين النظار
بيض وصفر خلت مطرح سرحها ... روضا تفتح عن شقيق بهار
من كل موشي الأديم مفوف ... رقمت بدائعه يد الأقدار
خلط البياض بصفرة في لونه ... فترى اللجين يشوب ذوب نضار
أو أشعل راق العيون كأنه ... غلس يخالط سدفة بنهار
سرحت بمخضر الجوانب يانع ... تنساب فيه أراقم الأنهار
قد أرضعته الساريات لبانها ... وحللن فيه أزرة النوار
أخذت سعودك حذرها فلحكمة ... أغرت جفون المزن باستعبار
لما أرتك الشمس صفرة حاسد ... لجبينك المتألق الأنوار
نفثت عليك السحب نفث معوذ ... من عينها المتوقع الإضرار
فارفع لواء الفخر غير مدافع ... واسحب ذيول العسكر الجرار
واهنأ بمقدمك السعيد مخولا ... ما شئت من عز ومن أنصار
قد جئت دارك محسنا ومؤملا ... متعت بالحسنى وعقبى الدار
وإليكها من روض فكري نفحة ... شف الثناء بها على الأزهار ومن شعره في غير المطولات قوله (23) :
لقد زادني وجدا وأغرى بي الجوى ... ذبال بأذيال الظلام قد التفتا
تشير وراء الليل منه بنانة ... مخضبة والليل قد حجب الكفا
تلوح سنانا حين لا تنفح الصبا ... وتبدي (24) سوارا حين تثني له العطفاي
قطعت به ليلا يطارحني الجوى ... فآونة يبدو وآونة يخفى
إذا قلت لا يبدو أشال لسانه ... وإن قلت لا يخفى الضياء به كفا
إلى أن أفاق الصبح من غمرة الدجى ... وأهدى نسيم الروض من طيبه عرفا
لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي ... وقد شفها من لوعة الحب ما شفا ومما ثبت له صدر رسالة:
أزور بقلبي معهد الأنس والهوى ... وأنهب من أيدي النسيم رسائلا
ومهما سألت البرق يهفو من الحمى ... يبادره دمعي مجيبا وسائلا
فيا ليت شعري والأماني تعلل ... أيرعى لي الحي الكرام الوسائلا
وهل جيرتي الأولى كما قد عهدتهم ... يوالون بالإحسان من جاء سائلا ومن أبياته الغراميات:
قيادي قد تملكه الغرام ... ووجدي لا يطاق ولا يرام
ودمعي دونه صوب الغوادي ... وشجوي فوق ما يشكو الحمام
إذا ما الوجد لم يبرح فؤادي ... على الدنيا وساكنها السلام وفي غرض يظهر من الأبيات:
ومشتمل بالحسن أحوى مهفهف ... قضى رجع طرفي من محاسنه الوطر
فأبصرت أشباه الرياض محاسنا ... وفي خده جرح بدا منه لي أثر
فقلت لجلاسي خذوا الحذر إنما ... به وصب من أسهم الغنج والحور
ويا وجنة قد جاورت سيف لحظه ... ومن شأنها تدمى من اللمح بالبصر
تخيل للعينين جرحا وإنما ... بدا كلف منه على صفحة القمر ومما يرجع إلى باب الفخر، ولعمري لقد صدق:
ألائمة في الجود والجود شيمة ... جبلت على إيثارها يوم مولدي
ذريني فلو أني أخلد بالغنى ... لكنت ضنينا بالذي ملكت يدي وقال:
لقد علم الله أني امرؤ ... أجرر ذيل العفاف القشيب
فكم غمض الدهر أجفانه ... وفازت قداحي بوصل الحبيب
وقيل رقيبك في غفلة ... فقلت أخاف الإله الرقيب وفي مدح كتاب " الشفاء " [وقد] طلبه الفقيه أبو عبد الله ابن مرزوق عندما شرع في شرحه:
ومسرى ركاب للصبا قد ونت به ... نجائب سحب للتراب نزوعها
تسل سيوف البرق أيدي حداتها ... فتنهل خوفا من سطاها دموعها
تعرضن غربا يبتغين معرسا ... فقلت لها: مراكش وربوعها
لتسقي أجداثا بها وضرائحا ... عياض إلى يوم المعاد ضجيعها
وأجدر من تبكي عليه يراعة ... بصفحة طرس، والمداد نجيعها
فكم من يد في الدين قد سلفت له ... يرضي رسول الله عنه صنيعها
ولا مثل تعريف الشفاء حقوقه ... فقد بان فيه للعقول جميعها
بمرآة حسن قد جلتها يد النهى ... فأوصافه يلتاح فيه بديعها
نجوم اهتداء، والمداد يجنها ... وأسرار غيب، واليراع تذيعها
لقد حزت فضلا يا أبا الفضل شاملا ... فيجزيك عن نصح البرايا شفيعها
ولله ممن قد تصدى لشرحه ... فلباه من غر المعاني مطيعها
فكم مجمل فصلت منه وحكمة ... إذا كتم الإدماج منه تشيعها
محاسن والإحسان يبدو خلالها ... كما افتر عن زهر البطاح ربيعها
إذا ما أجلت العين فيها تخالها ... نجوما بآفاق الطروس طلوعها
معانيه كالماء الزلال لذي صدى ... وألفاظه در يروي نصيعها
رياض سقاها الفكر صوب ذكائه ... فأخصب للوراد منها مريعها
تفجر عن عين اليقين زلالها ... فلذ لأرباب الخلوص شروعها
ألا يا ابن جار الله يا ابن وليه ... لأنت إذا عد الكرام رفيعها
إذا ما أصول المرء طابت أرومة ... فلا عجب أن أشبهتها فروعها
بقيت لأعلام الزمان تنيلها ... هدى، ولأحداث الخطوب تروعها مولده رابع عشر شوال من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ترجمة ابن زمرك في الإحاطة 2: 221 - 240 والكتيبة: 282 ونيل الابتهاج: 282 ونثير فرائد الجمان: 327 والتعريف: 274 وجذوة الاقتباس: 184 والدرر الكامنة 4: 412 وأزهار الرياض 2: 7 - 206، وقد نقل بعض ما أورده ابن الخطيب في الإحاطة، وما جاء عنه في كتاب مستقل لابن الأحمر، وسيكرر في ترجمته هنا، ولهذا أجريت المقارنة بين ما ورد في النفح والأزهار دون أن أشير إلى كل موضع على حدة.
(2) ق: روض.
(3) الإحاطة: وبين.
(4) ق: الحافظ القاضي.
(5) سقطت هذه اللفظة من الإحاطة.
(6) هو أويس القرني من أوائل الزهاد في العصر الأموي.
(7) ق: يوم.
(8) ق: تبدي.
(9) ق: ودوننا.
(10) ق: انفساح.
(11) ق والإحاطة: يعطي، والصواب ما في الأزهار.
(12) ق: جملة.
(13) كذا في جميع الأصول، ولعلها " تجذو " يريد: تنصب.
(14) الأزهار: حسن.
(15) كذا في الإحاطة؛ وفي الأزهار:
لكنها شامت بعد برق الحمى ... واعتادها طيف الكرى بمزار
(16) الأزهار: أضعت حقوق ذاك.
(17) الأزهار: كعهدها.
(18) الإحاطة: بدار.
(19) الأزهار: فضل.
(20) في الإحاطة والأزهار: بتلألؤ الأنوار؛ وأرى الأصل فيه ما أثبته لأنه يتحدث عن خروج السلطان للصيد، ورميه ثلاثة ثيران، فكأن فلاة الصيد راعت سنة القرى يتقدمها الثيران له.
(21) المستنفرات: الحيوانات التي استنفرت لكي تعدو الجياد وراءها، ويحرز السلطان لذة مطاردتها وصيدها.
(22) عبل الشوى: كناية عن الثور، والهاديات: المتقدمات سبقا.
(23) يصف مصباحا.
(24) الأزهار: وتبدو.
الاكثر قراءة في العصر الاندلسي
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
