كان أهل مدين أمة تعيش في شبه الجزيرة العربية قبل الميلاد بنحو ألفي عام.
وكان يحكمهم ملك جبار فاجر مستكبر ولا يطيقه حتى ملوك عصره.
ومع أنهم كانوا في سعة من العيش الرغيد.
إلا أنهم كانوا يعبدون الأصنام ورغم رخص الأسعار وانخفاضها.
إلا أنهم كانوا يطففون الكيل وينقصون الميزان ويبخسون الناس أشياءهم.
ومع أنهم كانوا بخير ويعيشون في أمن واطمئنان ورفاهية.
إلا أنهم عاثوا في الأرض الفساد ومع ما كانوا فيه من نعمة ورخاء وسعة في الرزق...
إلا أن ملكهم الطاغية أمرهم باحتكار الطعام... وكان شعيب رجلا من أهل مدين
وكان يتسم بحسن الخلق ورجاحة العقل ويتميز بالفضيلة والحكمة والايمان...
وكان من أحفاد خليل الله إبراهيم (عليه السلام).
فأرسله الله إلى مدين ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد.
ولما كان شعيب (عليه السلام) خطيبا محنكا متحدثا مفوها حتى أنه ليسمى بخطيب الأنبياء... فانه انطلق إلى قومه مبلغا رسالة ربه.
ودعا شعيب (عليه السلام) قومه قائلا:
{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]
وبعد أن دعاهم إلى التوحيد ونبذ الشرك ورفض الوثنية أخذ ينهاهم عن المنكر فقال لهم مواصلا دعوته:
{وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84]
ثم أنذرهم بالعذاب إن هم أصروا على أباطيلهم الفاسدة، فقال:
{وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } [هود: 84] وواصل شعيب (عليه السلام) دعوته أمرا قومه بالمعروف ناهيا إياهم عن المنكر
فقال:
{ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]
وتناول نبي الله شعيب (عليه السلام) في دعوته إلى قومه مظاهر الفساد الاجتماعي فخاطبهم بقوله:
{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } [الأعراف: 86] ورأى شعيب (عليه السلام) أن يذكرهم بإحدى النعم الالهية الكبرى عليهم فقال:
{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86] ثم أنهى نبي الله حجته على قومه من أهل مدين بقوله:
{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] وسخر أهل مدين من دعوة شعيب (عليه السلام).
وأخذوا في محاججته ومجادلته، فقالوا له:
{يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود: 87] وكما أنكروا عليه حجته رد عليهم شعيب (عليه السلام) حجتهم فقام خطيبا فيهم
وقال: {يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]
فثاروا في وجهه وقابلوا موعظته بالاستهزاء والاستنكار. ولكن شعيبا (عليه السلام) أوضح لهم هدفه من دعوته قائلا:
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ولكن القوم لبثوا في ضلالهم يعمهون وصموا آذانهم عن دعوة أخيهم شعیب علیه السلام.
وشاع الخبر في المدينة.
فخشي الملك الجبار من أن تجد دعوة شعيب طريقها في أوساط القوم.
فأرسل إليه بالقدوم عليهعساه يقنعه برأيه ويثنيه عن دعوته ويجعله يكف عن موعظة الناس.
وقدم شعيب (عليه السلام) إلى الملك الطاغية.
وكان الملك يتربع على عرشه تحوطه فنون الأبهة والعظمة وحوله حشمه وبلاطه.
وثار في روعه أن سلطانه وعظمة ملكه ستكون سببا في التأثير على شعيب.
فلما دخل عليه شعيب (عليه السلام) بادره الملك قائلا في عظمة وجبروت:
آباؤنا. یا شعيب سمعنا أنك قدمت بدين جديد وأنك تريد أن تصدنا عما كما يعبد
فأجابه شعيب: بلى وإنه لدين التوحيد والعبودية الله الواحد الأحد ونبذ عبادة
الأوثان التي لا تجدي نفعا ولا فتيلا.
فضحك الملك وسأل شعيبا (عليه السلام) قائلا:
أتريد بها ملكا وسلطانا يا شعيب ومالك من عزة ولا سابقة في الملك؟
فأجابه شعيب (عليه السلام):
أيها الملك إن العزة الله جميعا وما أريد إلا الإصلاح لا الملك والسلطان.
فسأله الملك:
إذا كان الأمر كذلك فماذا تقول في صنعنا، أهو صلاح أم فساد؟ وهل أنت راض أم ساخط؟
فأجاب شعيب بحول الله والوحي يجري على لسانه:
لقد أوحى الله إلي بأن الملك إذا صنع ما صنعت يقال له ملك فاجر فغضب الملك وثارت ثائرته وأمر بإخراج شعيب في الحال..
وبالغ أهل مدين في رفض دعوة نبي الله شعيب (عليه السلام).
حتى أنهم انتدبوا من بينهم فرقا وجماعات تقطع الطريق على كل من يقصد شعيبا (عليه السلام) للإيمان به.
وكانوا يخوفونهم بالقتل وسلب الأموال والذراري.
ويتهمون شعيبا (عليه السلام) بالشقاق والضلال والضعف.
بينما كان شعيب (عليه السلام) مازال يتحدى الصعاب ويتصدى للأباطيل الزائفة وهو يقول:
{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] وواصل شعيب (عليه السلام) دعوته رغم غضب الملك الجبار ولحاجة قومه.
وكانوا كلما زادوا إنكارا زادهم شعيب (عليه السلام) وعظا وإرشادا
فلما بالغوا في ضلالهم واستهزائهم فان شعيبا (عليه السلام) حذرهم من عواقب أعمالهم وذكرهم بالأمم الماضية وقال لهم:
{وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [هود: 89] ودعاهم إلى الاستغفار والتوبة قائلا:
{ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } [هود: 90] وبدلاً من أن ترق قلوب أهل مدين لنصائح أخيهم شعيب (عليه السلام).
فانهم هددوه بالأخراج هو ومن آمن معه وقالوا له:
{لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] فثبت قلب شعیب وازداد المؤمنون إيمانا غيرآبهين بالتهديد والوعيد.
ثم ما لبثت أن تصاعدت وتيرة الأحداث فاجتمع أهل مدين على شعيب (عليه السلام) وقابلوا دعوته بالتجاهل والتهديد بالرجم هذه المرة وقالوا:
{ يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [هود: 91]فأجابهم شعيب (عليه السلام) بشفقة وحكمة وقال:
{يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92]ثم ألقى عليهم حجته الأخيرة قائلا:
{وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [هود: 93]
ولكن أهل مدين لم يعودوا عن فسقهم وكفرهم واتهموا شعيبا (عليه السلام) بأنه مسحور وأنه كاذب.
فلما يئس شعيب (عليه السلام) من إيمانهم دعا ربه قائلا:
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] فجاء أمر الله.
وأرسل الله عليهم الحر والغيم حتى صار ماؤهم حميما.
فانطلقوا إلى أيكة لهم ...
فرفع الله سبحانه لهم سحابة سوداء
فاجتمعوا في ظلها..
فأرسل الله عليهم نارا منها فأحرقتهم وأخذهم عذاب يوم الظلة...
ثم أخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا في ديارهم جائمين كأن لم يغنوا فيها
ألا بعداً لمدين كما بعدت نمود.
ونجي الله شعيبا والذين آمنو معه برحمة منه وهو الذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وتولى شعيب (عليه السلام) عن قومه الظالمين الذين أخذهم العذاب.
وأخذ يقول غير أس عليهم ولا آسف:
{ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } [الأعراف: 93] والتجأ شعيب (عليه السلام) إلى ربه ذائبا في حبه
وظل يبكي من حب الله عز وجل حتى عمي ثلاث مرات والله يرد عليه بصره...
فلما كانت الرابعة.
أوحى الله تعالى إليه:
يا شعيب إلى متى يكون هذا منك؟ إن كان خوفا من النار فقد أجرتك وان
كان شوقا إلى الجنة فقد أبحتك
فقال شعيب (عليه السلام):
إلهي وسيدي إنك تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك ولا شوقا إلى جنتك ولكن عقد حبك في قلبي فلست أصبر أو أراك.
فأوحى الله تعالى إليه:
أما إذا كان هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران..
وتحقق الوعد الالهي.
فأخدم الله تعالى حبيبه شعيبا (عليه السلام) كليمه موسى (عليه السلام) عشر سنوات.
حتى كان ما كان من أمر موسى (عليه السلام) في طريق عودته إلى مصر مع ابنة شعيب (عليه السلام) التي كان قد زوجه إياها ...
ولكن شعيبا (عليه السلام) كان ما زال يبكي شوقا إلى رؤية الله ولقائه.. حيث كان بكاءا...
فقبضه الله إليه بعد مائتين واثنتين وأربعين سنة عاشها في ظلال الحب الالهي والرسالة السماوية.
فكان شعيب (عليه السلام) رابع الأنبياء الخمسة الذين بعثهم الله تعالى من العرب وهم: هود وصالح واسماعيل وشعيب وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ.
وعسى أن يكون ذلك سببا في أن كتبة التوراة اليهودية لم يسموه نبيا ولا رسولا بل أطلقوا عليه اسم (رعوئيل كاهن مديان) ...
ومضت القرون والأزمان...
حتى كان زمان هشام بن عبد الملك ...
فأرسل رجلا يسمى (سهل بن سعيد) ومعه جماعة ليحفروا له بئرا في رصافة
عبد الملك.
فأخذوا يحفرون ويحفرون ولم يظهر لهم ماء...
حتى إذا هتموا بمغادرة المكان...
ظهرت لهم جمجمة ...
فاحتفروا ما حولها..
وإذا هم برجل طويل قائم على صخرة وعليه ثياب بيضاء...
وكانت كفه اليمنى على رأسه على موضع ضربة فيها..
فنحوا يده عن مكانها ...
فسالت الدماء...
ثم ردوها إلى ما كانت عليه
فسدت الجرح
فعجبوا لذلك عجبا شديدا..
وفي هذه الأثناء..
نظر أحدهم الى ثياب الرجل البيضاء.
وإذا بين طياتها كتاب مكتوب فيه:
أنا شعيب بن صالح رسول رسول الله شعيب النبي (عليه السلام) الى قومه فضربوني وطرحوني في هذا الجب وهالوا علي التراب وحبسوني في هذا الحفر الى أن يبعثني الله وأخاصمهم يوم القيامة..
الاكثر قراءة في قصة النبي شعيب وقومه
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة