حسن الهاشمي
وانت وسط عباب البحر المتلاطم وفي صخب الحياة المتشابكة، تتقاذفك سكرات الموت ذات اليمين وذات الشمال، لا المال ولا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ينفعك حينئذ، ولا الأهل يحفظونك من أخطبوطه إذا ما التف حول عنقك، ولا الحماية والاعوان يستنقذونك من هوله اذا ما حلّ بك على حين غرة من أمرك، لا الشهرة ولا العشيرة ولا المنصب ولا الجاه ولا المحسوبية ولا الواسطة ولا أي شيء يعينك حينما يحلّ الموت بساحتك، الأمر الذي ينفعك بعد الموت هو العمل الصالح ولا شيء سواه.
العمل هو الذي يبقى مع الانسان بعد موته ما تركه من مال، يوزّع على الورثة، ولا يأخذ منه شيئا معه، ومن يشيّعه من الأهل والأصدقاء يرجعون بعد دفنه، ولا ينفعونه بشيء، العمل هو الذي يبقى معه في قبره ويُحاسب عليه، إن كان خيرا أنِس به، وإن كان شرا تأذّى به، هذه الحقيقة لا ينكرها الا معاند ولا يجادل فيها الا مكابر، ولا يذعن بمخرجاتها الا جاحد، الحديث النبوي الشريف يؤكد ان عمل الانسان هو التابع الحقيقي له بعد الموت: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله) كنز العمال للمتقي الهندي: 42761. الذي يبقى مع الإنسان بعد موته هو عمله فقط، فهو الزاد الحقيقي لمن اتقى والنقمة الأبدية لمن تردّى، وكل ما عداه يفارقه عند القبر.
لا يزال العمل الصالح يضيء القبر نورا متلألئا طريقه الى الخلود الدائم، ذلك الخلود الذي لا رين فيه ولا نصب ولا جحود، الحصول على كل ذلك النعيم وكل تلك المزايا لا يتأتى اعتباطا وانما هو حصيلة جهد جهيد في الحياة الدنيا، حصيلة جهاد وصبر واستقامة وصلاح، حصيلة كتاب هداية ألّفه ونشره بين الأوساط للفوز والنجاة، حصيلة ولد صالح تركه يدعو له وينثر رياحين المحبة بين الناس من بعد رحيله، حصيلة تعليم القرآن الكريم تلاوة وتفسيرا وتدبرا ينتفع العالم من نوره وقت تراكم المدلهمات، حصيلة بناء مسجد يذكر فيه اسم الله تعالى في العشي والأبكار، حصيلة كفالة يتيم وايواء ابن سبيل من قساوة الطقس وتقلبات الأجواء، حصيلة شق الأنهر وحفر الآبار للسقي وانبات المزروعات، حصيلة صدقة تطفأ بها غضب الرب وتنير له درب السعادات، كل هذا نراه جليا في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما قال: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) الترغيب والترهيب للمنذري: 1 / 99 / 24.
العمل الصالح هو دعوة للاستثمار الذي يبقى بعد فناء الجسد، فالحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت، والعمل الباقي هو الرصيد الذي ينفعك في القبر والآخرة، والحقيقة التي لا غبار عليها ان كل من تعلّم من علمك وعمل به، فلك أجره، وكل ولد صالح يدعو لك، ويستمر في طريق الخير، فان شآبيب دعواته تصلك حتما دونما تأخير، وكل مصحف تركته بعد موتك وهو يقرأ ويتدبر ويعمل به فانه وقاية بينك وبين النيران، وكل مسجد بنيته يصلى ويعبد الله فيه آناء الليل وأطراف النهار في ميزان حسناتك، وكل بيت بنيته ليتيم أو ابن سبيل أو فقير أو محتاج سيجعله الله تعالى مظلة تستظل بها يوم القيامة يوم لا ظل الا ظله، وكل نهر اجريته في سبيل الله سقاية دائمة للناس والزرع ستنهل من بركاته من انهار الجنة وتشرب من حوض الكوثر شربة لا تظمأ بعدها أبدا، وكل صدقة أخرجتها من مالك سواء كانت بناء، طعاما، دعما مستمرا، ستدفع عنك أهوال يوم القيامة وتكون منعما فيها جزاء بما أنعمت في الحياة الدنيا.
القيامة قد تكون هولا للفجّار، لكنها عرس وفرحة للمتقين، حيث يلتقون جزاء ما صبروا، ويفرحون بلقاء ربهم، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: (القيامة عرس المتقين) الخصال للشيخ الصدوق ج1 ص13. تعبير معنوي يُستخدم في بعض النصوص الدينية والكلمات الوعظية للدلالة على أن يوم القيامة، رغم شدّته، يكون يوم سرور وكرامة للمتقين، لأنهم يرَون فيه ثمرة أعمالهم الصالحة، ونهاية طريقهم إلى الجنة.
لماذا تكون القيامة عرسا للمؤمن لأنه يعتقد جاهدا على ان الدنيا عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل، واعلم ان الذي ينتظر عرسه يوم القيامة لا يحزن على الموت، كيف يحزن وهو يعرف ما ينتظره من نعيم ما بعد الموت، فكما أن العُرس في الدنيا هو فرح واحتفاء ومكان تكريم للعروسين، فإن المتقين يوم القيامة ينالون بشرى الملائكة، والأمان من الفزع الأكبر، والوقوف المشرّف بين يدي الله، ودخول الجنة بسلام، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) الدخان: 51. وقوله أيضا: (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) الأنبياء: 103.