Logo

بمختلف الألوان
في وطنٍ تئنُّ روحه من ثِقل الأيام، وتتوقُّ أجياله إلى فجرٍ يمحو ظلام اليأس، انبعث نورٌ من قلب مدينة مقدسة، نورٌ يملأ الوطن ضياءً، وأيدٍ أمينة تعانق آماله واحلامه. سطع نور العتبة العباسية المقدسة، التي لطالما كانت مَوئِلاً للعلم والمعرفة، لتتجاوز دورها الديني وتصبح حاضنة حقيقية للطاقات الشابة،... المزيد
أخر المواضيع


مرحبا بكَ زائرنا العزيز
نتمنى أن تكون في تمام الصحة والعافية

تحذير! هل انت متأكد من حذف هذا المقال مع الردود عليه ؟
زيارة الأربعين في العراق: تجليات الإنسانية ورسالة السلام العالمية

منذ 13 ساعة
في 2025/11/16م
عدد المشاهدات :225
مقدمة: الأربعون، حيث يلتقي النبض الإنساني بالفيض الروحاني

مع كل نسمة من نسمات شهر صفر، يبدأ قلب العالم العاشق بالخفقان متجهاً نحو كربلاء المقدسة. إنها ليست مجرد رحلة تقطعها الأجساد على دروب متربة، بل هي هجرة أرواح تنجذب بقوة مغناطيسية سماوية نحو ضريح سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام). زيارة الأربعين في عامها الـ 1447 للهجرة، قد تجاوزت منذ زمن كونها مجرد مناسبة في تقويم ديني؛ لقد تجلت لتصبح ظاهرة كونية تتحدى منطق المادة وقوانين الاجتماع التقليدية. إنها ملحمة إنسانية كبرى، حيث تتحول الصحاري إلى مدن نابضة بالحياة، وتذوب فيها كل الفوارق الطبقية والعرقية واللغوية، لتصنع من ملايين الأفراد المختلفين جسداً واحداً يسير على وقع قلب واحد، يهتف باسم الحسين (عليه السلام). هذا التحليل لا يسعى فقط لرصد الأرقام، بل للغوص في أعماق الروح التي تحركها، وفهم كيف يمكن لهذا الشغف الفردي أن يتحول إلى أحد أكبر وأعظم التجمعات البشرية السلمية المنظمة على وجه الأرض، في ظاهرة تستدعي التأمل والدراسة.

سردية الصمود والإلهام: من زيارة رمزية إلى أكبر تجمع بشري

لكي نفهم عمق هذه الظاهرة اليوم، لا بد من العودة إلى جذورها الأولى الموحشة. في عام 61 هـ، حين كانت أرض كربلاء لا تزال ندية بدماء الشهداء، وصل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، شيخاً كفيفاً يتلمس طريقه بعصاه وقلبه، ليكسر صمت المكان ويكون أول من يحيي ذكرى الأربعين. كانت زيارته صرخة وفاء في صحراء من الجحود، ونواة صغيرة ستنمو عبر القرون لتصبح شجرة باسقة تظلل الملايين. على مر العصور، واجهت هذه الشعيرة أعتى أشكال القمع والمنع، فكانت ممارستها فعلاً من أفعال المقاومة الروحية، وتضحية تضاف إلى تضحيات الطف.

إلا أن فجر الألفية الثالثة في العراق كان بمثابة إيذان بانفجار طاقات روحية واجتماعية كانت مكبوتة لدهور. لقد تحولت المسيرات الخجولة والمحفوفة بالمخاطر إلى فيض بشري هادر. الأرقام التي توثقها العتبة العباسية المقدسة بدقة متناهية عبر منظومة العد الإلكتروني، هي خير شاهد على هذا التحول المعجز؛ فبعد أن كانت الأعداد (11210367) زائراً في عام 1438 هـ، قفز الرقم في عام 1447 هـ ليسجل (21103524) زائراً.
هذا التصاعد ليس مجرد زيادة عددية، بل هو برهان ساطع على أن فكرة الحسين (عليه السلام) حية، وأن نداءه للعدالة والحرية يتردد صداه بقوة متزايدة في ضمير الإنسانية، مؤكداً أن زيارة عام 1448 هـ ستكون محطة أخرى في مسيرة هذا العشق المتنامي.

منظومة العطاء الفريدة: تحليل سوسيولوجي لأكبر عملية لوجستية تطوعية

إن سر استدامة الأربعين وقوته يكمن في منظومة الخدمة الشعبية التي لا يمكن وصفها إلا بالمعجزة. إنها شبكة هائلة من الإيثار التطوعي الذي يحول مئات الكيلومترات من الطرقات إلى منزل كبير دافئ يحتضن كل قادم. المواكب الحسينية، التي بلغ عدد المسجل منها رسمياً داخل حدود كربلاء المقدسة وحدها (14369) موكباً، بينما يصل العدد التقديري في عموم العراق إلى (38040) موكب، هي الشريان النابض لهذه المسيرة. هذه المواكب ليست مجرد محطات لتقديم الطعام والشراب، بل هي تجسيد حي للكرم الحسيني؛ هي بيوت مفتوحة على قارعة الطريق، ومراكز دعم لوجستي واجتماعي ونفسي متكاملة. هنا، ترى شيخاً طاعناً في السن يقدم الشاي بيدين مرتعشتين وكأنه يسقي العالم بأسره، وطفلاً يركض بين الزوار ليوزع المناديل والماء، وعائلات تفرش بيوتها المتواضعة وتتنافس على شرف استضافة زائر لا تعرفه إلا بحبه للحسين (عليه السلام).

وإلى جانب هذا النهر الشعبي الجارف من العطاء، تقف المؤسسات الدينية كرافد منظم وهائل يضمن انسيابية هذه المعجزة. قسم المضيف في العتبة العباسية المقدسة وحده، على سبيل المثال، تحول إلى خلية نحل لا تهدأ، حيث قدم خدماته لأكثر من (11405764) مستفيد. إن توزيع (7465854) وجبة طعام رئيسية و(3939910) وجبة بينية ليس مجرد رقم، بل هو عملية لوجستية معقدة تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتفانياً لا ينقطع. إن استهلاك (137.25) طناً من الدجاج (249.6) طناً من المواد الجافة يعطي لمحة بسيطة عن حجم هذا الكرم المنظم. وتكتمل هذه اللوحة بمعجزة أخرى تتمثل في توفير المياه وإدارة النظافة؛ حيث ساهم معمل الكفيل للمياه المعدنية في توفير 1311960 كارتون من المياه الصالحة للشرب بينما عملت آلاف الآليات التابعة لمديرية بلدية كربلاء المقدسة /شعبة المخلفات الصلبة على رفع ما يزيد عن (375550) طناً من النفايات، في سباق محموم مع الزمن للحفاظ على طهارة المكان وسلامة الزائرين، في عمل لا يمكن تفسيره إلا كفعل من أفعال الحب والتقديس. هذه الظاهرة التي وصفها تقرير لصحيفة "The Independent" البريطانية بأنها "أكبر مأدبة طعام في العالم"، تمثل تجسيداً حياً لقيم الإيثار والعطاء التي تتجاوز أي منطق مادي.

شبكة الأمان الإنساني: قراءة في أبعاد الرعاية الصحية والخدمات المجتمعية

مع هذا التدفق البشري الهائل، تتحول كربلاء المقدسة والطرق المؤدية إليها إلى ما يشبه مستشفى ميدانياً مفتوحاً، حيث تتضافر الجهود الحكومية والشعبية لنسج شبكة أمان صحي وإنساني فريدة. خطة وزارة الصحة العراقية لعام 1447 هـ، لم تكن مجرد خطة طوارئ، بل كانت استنفاراً شاملاً تضمن نشر (813) مفرزة طبية و(957) سيارة إسعاف على طول طرق الزائرين. وقد قدمت هذه الفرق خدماتها لأعداد مليونية، حيث تم تسجيل (3557010) حالة معالجة في المفارز الطبية الميدانية وحدها. ولم تقتصر الرعاية على الإسعافات الأولية، بل امتدت لتشمل عمليات معقدة مثل إجراء (71) عملية قسطرة وتقديم العلاج لـ (661) مريضاً بالفشل الكلوي، في رسالة واضحة مفادها أن صحة كل زائر هي أمانة مقدسة.

هذا الجهد الحكومي يتكامل مع دور تطوعي لا يقل أهمية، تقوده منظمات مثل جمعية الهلال الأحمر العراقي التي استفاد من خدماتها الطبية داخل كربلاء المقدسة وخارجها ملايين الزائرين. وتكشف بياناتها عن حجم التحدي الجسدي للمسير، حيث شكلت أمراض الجهاز الحركي، كآلام المفاصل والتشنجات العضلية، النسبة الأعلى من المراجعات. وفي خضم هذا البحر البشري المتلاطم، يبرز جانب إنساني آخر من التنظيم الدقيق، وهو خدمة إرشاد التائهين. إن نجاح العتبة العباسية المقدسة، عبر (42) مركزاً متخصصاً، في معالجة (16000) حالة لمفقودين من مختلف الجنسيات، هو أكثر من مجرد خدمة؛ إنه تجسيد لروح الأربعين، حيث لا يُترك أحد وحيداً، وحيث يجد كل ضال يداً حانية ترشده إلى وجهته.

الأبعاد العالمية والصدى الرقمي: كيف عبرت ظاهرة الأربعين الحدود الجغرافية والافتراضية

لقد كسرت زيارة الأربعين حواجز الجغرافيا واللغة والثقافة، لتصبح بحق حدثاً عالمياً بامتياز. الأرقام الرسمية شاهدة على ذلك، حيث سجلت هيئة المنافذ الحدودية دخول (3675162) زائراً من غير العراقيين خلال فترة الزيارة لعام 1447 هـ. ولم يعد الحضور مقتصراً على دول الجوار، بل تكشف بيانات مديرية الأمن السياحي في كربلاء المقدسة عن فسيفساء عالمية مذهلة، حيث تم تسجيل وافدين من دول بعيدة مثل أمريكا (673) زائراً، بريطانيا (519) زائراً ، أستراليا (232) زائراً ، كندا (415) زائراً ، نيجيريا (16) زائراً ، وروسيا (55) زائراً ، ليجتمعوا مع الحشود القادمة من إيران (43783) زائراً ، باكستان (5892) زائراً ، الهند (3703) زائراً ، ومن دول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية (17840) زائراً والبحرين (15788) زائراً ، في مشهد يعبر عن عالمية الرسالة الحسينية وقدرتها على استقطاب القلوب من كل حدب وصوب.

هذا الحضور العالمي يواكبه صدى إعلامي ورقمي هائل. فقد وثّقت هيئة الإعلام والاتصالات حضور (2000) صحفياً وإعلاميا لتغطية الحدث، مع وجود (95) جهة إعلامية استخدمت خدمة النقل المباشر النظيف لكن القصة الأعمق ترويها الأرقام الرقمية؛ لقد أصبحت الزيارة ظاهرة متصلة بالكامل، حيث شهدت شبكات الاتصال في كربلاء المقدسة وحدها استهلاك (17977) تيرابايت من البيانات. هذا الرقم لا يمثل مجرد بيانات، بل هو ملايين القصص الشخصية، والصلوات المرفوعة، والصور المفعمة بالمشاعر التي يتم مشاركتها مع العالم، لتحول كل زائر إلى سفير حي لهذه الملحمة. إن تصدر منصات "تيك توك" و "فيسبوك" لقائمة استهلاك البيانات هو دليل على أن الأجيال الجديدة تجد لغتها الخاصة للتعبير عن هذا العشق القديم، وتنقل نبض الأربعين وصوره إلى فضاءات لم تكن لتصل إليها وسائل الإعلام التقليدية.

خاتمة: الأربعون كبوصلة أخلاقية ورسالة متجددة للإنسانية

تبقى الأرقام والإحصاءات، على ضخامتها، مجرد ظلال لحقيقة أعمق وأكثر إشراقاً. إنها مؤشرات على ظاهرة روحية قوامها الإيمان المطلق، والإيثار الذي يتحدى الأنانية، والقدرة البشرية المذهلة على التنظيم الذاتي والعطاء اللامحدود حينما يكون الحب هو المحرك. زيارة الأربعين ليست مجرد مسيرة تنتهي عند ضريح، بل هي بيان إنساني حي، ومختبر سنوي لأرقى القيم الأخلاقية، ورسالة سلام وتكافل تنطلق من قلب كربلاء المقدسة إلى عالم مضطرب، مؤكدةً أن المبادئ التي استشهد من أجلها الإمام الحسين (ع) من عدالة وكرامة ورفض للظلم، لا تزال قادرة على إلهام الملايين، ليس فقط للسير على الأقدام، بل للسير نحو صناعة واقع أفضل ومستقبل أكثر إنسانية.

المصادر:
1. البيانات الصادرة من قبل مركز الكفيل للمعلومات والدراسات الإحصائية، العتبة العباسية المقدسة.
2. تقارير إعلامية دولية (The Independent Huffington Post Reuters)
3. بيانات رسمية صادرة عن الوزارات والهيئات العراقية (وزارة الصحة، هيئة المنافذ الحدودية، هيئة الإعلام والاتصالات).

اعضاء معجبون بهذا

حين يسقط القناع: قراءة نفسية في تغيّر الصديق الطيّب
بقلم الكاتب : حنين ضياء عبدالوهاب الربيعي
كان يبدو صديقًا حقيقيًا، قريبًا للروح، تتحدث إليه فيفهمك دون أن تشرح كثيرًا. عاش بينك زمنًا من المودّة والصدق الظاهري، حتى ظننت أن صداقتكما من النوع الذي لا يتبدّل. لكنك كنتَ مخدوعًا أو بالأحرى كنت ترى الوجه الذي أراد أن يُريك إياه. فجأة تغيّر. صار يتصرف بسوء، يتحدث عنك في غيابك، يذكرك بأقبح الكلام،... المزيد
المزيد من المقالات الإجتماعية

المزيد من المقالات الثقافية

كان اسمها (زينب)  ويقال إن للإنسان نصيبا من اسمه،وهي كذلك،ترتدي الخُلق وتنطق... المزيد
ونحنُ في المشتاةِ ندعو الجَفَلَىٰ لا تُرى الآدِبَ فينا يُنتَقَرُ طرفة بن العبد... المزيد
مازلتُ غريقا في جيبِ الذكرياتِ المُرّةِ، أحاولُ أن أخمدها قليلا ؛لكنّ رأسها... المزيد
رُوَّادُ الولاء : شعراء أضاءوا بالحقِّ فطُمِسَ نورُهم لطالما تهادت على بساط... المزيد
في قريةٍ صغيرةٍ محاطةٍ بجبالٍ شاهقة، عاش رجلٌ يدعى هشام، معروفٌ بحكمته وطيب قلبه،... المزيد
في فضاءات القصيدة العراقية، ينهض فالح حسون الدراجي كصرحٍ شعريٍّ نادر، يُجسّد... المزيد
في زاوية السوق، جلس رجل أشيب، يضم كفيه الفارغتين إلى صدره كمن يحمي كنزًا لا يُرى. كان اسمه...
حين نتحدث عن الأجناس الأدبية التي تتصدر المشهد الثقافي العربي عامة، والعراقي خاصة، نُشَخِّص...
في رحاب الكاظمية المقدسة، وُلد جابر بن جليل كرم البديري الكاظمي عام 1956، ليكون نجمًا متألقًا...
كان يتذمر،والشكوی تضحك في فمه كيف يعلِّمني صبيٌّ علی كلٍّتلميذٌ صغير  وسأعيد تربيته أنا...


منذ 13 ساعة
2025/11/16
سلسلة مفاهيم في الفيزياء الجزء السادس والسبعون: كون داخل الكون: العوالم المتعددة...
منذ 13 ساعة
2025/11/16
منذ سنوات برزت ظاهرة من قبل بعض جماهير الاندية الكبيرة ضد نادي الزوراء وانتشرت...
منذ 13 ساعة
2025/11/16
في عالم سريع الإيقاع يزداد فيه الضغط والعمل والسهر أصبحت مشروبات الطاقة جزءاً من...
رشفات
( مَن صبر أُعطي التأييد من الله )