حسن الهاشمي
يتميّز الانسان عن الحيوان بأن الله تعالى منحه العقل وألهمه الكرامة، بالعقل يدبّر أمره ويعبد ربه ويعيش في هذه الحياة بكرامة، والانسان بدون التدبير والعبادة والكرامة هو ميت ولو عاش بين الناس، أما الذي يحافظ على قيمه الخالدة فهو حي وان مات، فالموت هو غياب للجسد، والرضوخ للسلطان الجائر أو طلب الحاجة من غير أهلها هو موت للكرامة، لا شك ولا ريب ان موت الكرامة أشد من موت الجسد، هذا ما أكد عليه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها) غرر الحكم للآمدي: ٣٢١٣.
الموت في كرامة أفضل بكثير من العيش في ذل وهوان تعس؛ لأن الكرامة أعز ما يملكه الإنسان حتى نفسه التي بين جنبيه، كيف لا وهي تمثل قيمة الإنسان الذاتية، والثيمة الجوهرية التي تميّزه بين سائر الموجودات، وترجمة تلك الثيمة هي احترامه لنفسه ورفضه للذل والهوان ولا سيما من الجبابرة والظالمين، وهذا يعد جوهر شخصيته في التعامل مع نفسه الأبية والتعامل مع الناس، وطالما نجد ان الامام الحسين عليه السلام برفضه عنجهية وطغيان وظلم يزيد قد علّمنا ان الموت في عز هي الحياة الحقيقية، وما العيش في ذل الا وهي عيشة نكدة لا يترضّاها الا الاراذل من القوم، وهو عليه السلام قد جسّد ما قاله خير تجسيد: (موت في عز خير من حياة في ذل) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٢ - ص ٩٨٢. من ضحّى بكرامته لأجل مصلحة دنيوية زائلة، فقد خسر نفسه، ومن حافظ على كرامته، عاش عزيزا حتى لو قلّ ماله أو منصبه، بل حتى لو استشهد فانه يعيش بين الضمائر الحرّة ويصبح نبراسا للحرية والإصلاح والإباء على مر الدهور والبقاع، فالكرامة ليست كبرياء، بل وعيٌ بقيمة النفس، ورفضٌ للتنازل عن الحق مقابل الذل.
حتى في حياتنا الاجتماعية والانسان يعيش في معترك الحياة قد يلجأ الى غيره لقضاء حاجة، أو طلب مصلحة، أو تمشية معاملة، أو استقراض مال، أو ما شاكل ذلك من الأمور الحياتية اليومية، عليه الذهاب الى أصحاب المروءة والكرم، وحذار ان يطرق باب من لا يملك تلك الحاجة أو لا يقدّر صاحب الطلب، فإذا طلبت حاجتك من غير أهلها فقد تُذل نفسك بلا فائدة، ويُردّ طلبك بإهانة، ويُمنّ عليك أو يُساء إليك، وربما تُشهر حاجتك بين الناس، وهذه هي الطامة الكبرى أن تشعر بالذل والقهر والشهيرة وهو بلا شك أشد من ألم الموت النفسي والمعنوي.
ولكيلا نقع في شباك الظلم والضياع، ولكي نحافظ على كرامتنا وانسانيتنا، ينبغي علينا ان لا نطلب علما من جاهل، ولا معروفا من بخيل، ولا نصيحة من منافق، ولا قضاء حاجة ممن لا يملكها أو لا يقدّرها، واعلم ان المكابرة والذهاب والتملّق الى من ذكرنا آنفا يجلب بالويلات والحسرات على صاحبها، فهي ضياع الوقت والكرامة، وشعور بالخذلان والإهانة، والأشد من ذلك كله حرمان الحاجة لأن الوسيلة غير مناسبة.
والحل الأمثل لتمشية الأمور هو اتصاف من تطلب منه حاجتك بالحكمة والعقل والتدبير، وان يكون من أهل المعروف، الكرم، الحكمة، أو من يقدر على قضائها بحقّ، وإن استطعت أن تستغني عن الناس وتسأل الله أولاً وتتشفّع بالنبي وآله ثانيا، فقد وفقت للكرامة والعزة والإباء، وعليك ان تضع شعار لا تطلب الحوائج إلا من أهلها نصب عينيك، وأفضل أهلها هم الله تعالى ومن اصطفاه من أوليائه الصالحين، وهذا الخيار لا يلجأ اليه إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان وكان من البارزين، ومن يطرق هذا الباب يعلم قبل غيره انه يطلب الحاجة من كريم في طبعه، وقادر على قضائها، ويعرف قيمة الناس، والأهم من ذلك كله لا يُمنّ ولا يُهين بل يُحسن ويُلين.
وأثر الالتزام بشعار لا تطلب الحوائج إلا من أهلها حفظ للكرامة، ووقاية من الذل والمهانة، وسرعة في قضاء الحاجة عند حسن الاختيار، وبناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل، واعلم ان طلب الحاجة من كريم هي خير في كل الأحوال، فإن قضاها أكرمك، وإن ردّها لم يُهِنك، أما طلب الحاجة من غير أهلها هو طلب الشيء ممن لا يملكه أو لا يقدر عليه أو ليس من شأنه قضاؤه، وهو تصرف مذموم في الميزان العقلي والشرعي.
العاقل لا يرضى بحياة بلا كرامة، ولا بذلٍ يُطفئ روحه وهو على قيد الحياة، وهو وحده يدرك قيمة الكرامة، وهو وحده يدرك المعاناة النفسية في حياة الإنسان اذا ما فقدها، هناك أشياء تجعل للحياة معنى، مثل الكرامة والحرية والعزة والإيمان، فإذا فقدت هذه المعاني النبيلة تصبح الحياة بلا قيمة، بل مُبغضة، وهناك أنواع من الذل، أو الألم، أو المهانة، أو الظلم، تجعل الإنسان يتمنى الموت على أن يعيشها، لأنها تُميت الروح قبل الجسد، اذن ليست الحياة بمجرد البقاء، ولا الموت بانتهاء النفس، بل القيمة في المعنى الذي تحياه، أو الموقف الذي تموت عليه، فالكرامة هي الأساس عند الانسان الحر والأبي، إن اكتسبها فقد اكتسب الحياة وإن مات، وإن فقدها فقد الحياة وإن عاش، الإمام العسكري (عليه السلام) لخّص كلّ ما ذكرناه بقوله: (خير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت الحياة، وشر من الموت ما إذا نزل بك أحببت الموت) تحف العقول للحراني: ٤٨٩.