في عصرِ الصِّراعِ الخفيّ، حيثُ تُخاضُ المعاركُ بِلا دويٍّ ولا دخان، تتحوَّلُ الشَّاشاتُ إلى ساحاتٍ، والبياناتُ إلى أسْلحة، والنَّفوسُ إلى غنائم. ها هو العراقُ اليومَ يغرقُ في محيطٍ رقميٍّ هائل، تُفتَحُ فيه نوافذُ أرواحِ أبنائِه على مِصْراعيها أمامَ عيونٍ لا تَنَام، تَرصُدُ كلَّ نَبضةٍ، تَتبَّعُ كلَّ حركة، وتَسرقُ من أعماقِ الذَّواتِ أسرارَها وأحلامَها وخَوافِيَها.
بنكُ الأهدافِ الرقميِّ العراقيِّ أصبحَ مكشوفاً بلا حجاب، فما تُسجِّلهُ الأصابعُ على لوحةِ المفاتيحِ يتحوَّلُ إلى مادَّةٍ استخباراتيَّةٍ خام، تُصبُّ في أجهزةِ تحليلٍ باردة، تَغوصُ في أعماقِ النَّفسِ الجمعيَّةِ لِتَصيدَ انقساماتِها، وتَستنطقَ هواجسَها، وتَستشرفَ اتِّجاهاتِ رأيِها قبلَ أن تُولَد. إنَّها الوحدةُ 8200 تَنفُذُ إلى شرايينِ الوعيِ العراقيّ، تَرقُبُ المزاجَ العامَّ بِدقَّةِ الجرَّاحِ القاسي، وكأنَّما صِرنا تحتَ مجهرٍ لا يُغادِرُ شاردةً ولا واردة.
وأمَّا منصَّاتُ التَّواصلِ، تلك السَّاحاتُ التي كانت مَيداناً للُحمةِ الوطنِ وحديثِ الأُسَر، فقد تَحوَّلتْ إلى مختبراتِ حربٍ نفسيَّةٍ مُعقَّدة. فيها تُصاغُ الرِّواياتُ بِحرفيَّةِ ساحرٍ يَحركُ خيوطَ الظِّل، رواياتٌ مسمومةٌ تُشوِّهُ صورةَ الدَّولة، تَهزُّ ثقةَ المواطنِ بمؤسَّساتِه، تُلقي بِذورِ الشَّكِّ في التُّربةِ الخصبةِ للأزمات. حملاتٌ مُموَّلةٌ بِدقَّةٍ لا تَترُكُ شيئاً للصُّدفة، تَلعبُ على أوتارِ الطَّائفيَّةِ والسِّياسة، تُذكي نارَ الفتنةِ بِبرودةِ دم، وكأنَّ العراقَ تحوَّلَ إلى رقعةِ شطرنجٍ كُبرى، تَتحرَّكُ عليها أيادٍ خفيَّة.
هذا الواقعُ المريرُ يجعلُ من أرضِ الرَّافدينَ ساحةَ اختبارٍ دائمةٍ للأدواتِ السَّيبيريَّة، تُجرَّبُ عليها أحدثُ تقنياتِ التَّضليلِ والتَّحكُّم. فكيفَ بالسَّبيلِ إلى الخلاص لا بُدَّ من يقظةٍ رقميَّةٍ شاملة، ومنظومةِ ردعٍ إعلاميَّةٍ وطنيَّة، تكونُ قادرةً على الرَّصدِ المُبكِّرِ للخطرِ القادم، كَشفِ الحملاتِ المُموَّلةِ قبلَ أن تنتشرَ كالنَّارِ في الهشيم، وتعطيلِ أدواتِ التَّضليلِ وهي في مهدِها.
فيا أبناءَ العراق، إنَّ المعركةَ اليومَ معركةُ وعي، وحربُكم حربُ إرادات، فلتتَّحدوا تحتَ رايةِ الوطن، ولتَكنْ أصواتُكم سدّاً منيعاً في وجهِ كلِّ محاولةٍ للنَّيلِ من وحدتِكم وكرامتِكم. فالأممُ الحيّةُ لا تموت، والشُّعوبَ الواعيةَ لا تُهزَم.