في أعماق الفضاء الرقْميّ، حيثُ يموجُ الصَّمتُ بِضَجيجٍ خفيّ، تَنْبثِقُ ظِلَالٌ لا وَجْهَ لَها ولا اسْم، تَحْمِلُ فِي طَيّاتِها سُمومَ الفِتَنِ وَأَعَاصِيرَ الفَوْضَى. هَذِهِ الحِسَابَاتُ الوَهْمِيَّةُ، الَّتِي تَتَخَفَّى وَرَاءَ أَرْقَامٍ بَارِدَةٍ وَأَلْقَابٍ مُزَيَّفَة، تَنْسِجُ خُيُوطَ شَبَكَتِهَا بِإِتْقَانٍ شَيْطَانِيّ، لِتَصْبَغَ الفَضَاءَ بِألْوَانِ الخَوْفِ وَالتَّصْدِيع.
إِنَّهَا حَرْبٌ نَفْسِيَّةٌ رَقْمِيَّةٌ تَسْتَحِيلُ فِيهَا الحُرُوفُ سِلاحًا، وَالكَلِمَاتُ قَنَابِلَ مُوَجَّهَةً، تَنْهُالُ مِنْ خِلَالِ خَوَارِزِمِيَّاتٍ غَادِرَةٍ تَسْبُرُ أَعْمَاقَ العَقْلِ الجَمَاعِيّ، وَتَخْتَبِرُ مُزَاجَ العَامَّةِ بِمَكْرٍ أَسْوَد. هَؤُلاءِ الأَشْبَاحُ الرَّقْمِيَّةُ لَا يَمْتَطُونَ الخُيُولَ، وَلَكِنَّهُمْ يَرْكَبُونَ أَمْوَاجَ التَّوَاصُلِ، يُرَدِّدُونَ أَغَانِيَ التَّدَخُّلِ العَسْكَريِّ الإِسْرَائِيلِيّ فِي العِرَاقِ، كَأَنَّهُمْ نُوَّاحَاتٌ عَلَى أَطْلالِ الوَطَنِ .
يَتَجَلَّى الخَطَرُ لَيْسَ فِي مُجَرَّدِ وُجُودِهِمْ، بَلْ فِي القُدْرَةِ عَلَى تَحْوِيلِ الخِطَابِ الرَّقْمِيِّ المُعَلَّبِ إِلَى وَعْدٍ وَاقِعِيّ، يُهَدِّدُ نُظُمَ الأَمْنِ الوَطَنِيّ وَيَخْدِشُ جَسَدَ الأُمَّةِ بِخُدُوشٍ عَمِيقَة. إِنَّهُمُ الاسْتِخْبَارَاتُ الغَيْرُ المَرْئِيَّةِ، تَعْمَلُ فِي صَمْتٍ، تَرْصُدُ، تَخْتَرِقُ، ثُمَّ تَنْسَحِبُ، تَارِكَةً وَرَاءَهَا رِيَاحًا جَافَّةً تَهُبُّ عَلَى نَارِ الفِتْنَةِ.
لِذَا، عَلَيْنَا أَنْ نَكْشِفَ هَذِهِ الأَقْنِعَةَ، وَنُجَلِّي حَقَائِقَ هَذِهِ الارْتِبَاطَاتِ الخَفِيَّة، فَالدَّاءُ العُضَالُ لَا يُدَاوَى إِلَّا بِكَشْفِ مَكَائِدِهِ وَتَجْفِيفِ مَنَابِعِهِ. وَلْنَكُنْ يَقَظِينَ، فَالْعَدُوُّ القَادِمُ مِنْ شَاشَاتِنَا قَدْ يَكُونُ أَخْطَرَ مِنْ ذَاكَ الَّذِي يَحْمِلُ السِّلاحَ فِي وَضَحِ النَّهَار. وَفِي رَصْدِنَا لِهَذِهِ الحِسَابَاتِ وَكَشْفِ أَسْرَارِهَا، نَبْنِي سُدودًا وَطَنِيَّةً رَقْمِيَّةً تَصُدُّ عَاصِفَةَ التَّهْيِيجِ، وَتَحْفَظُ لُحْمَةَ المُجْتَمَعِ مِنَ التَّشَظِّي.
إِنَّهُ نِضَالٌ مِنْ أَجْلِ الوَعْي، وَمَعْرَكَةٌ لِإِنْقَاذِ الحَقِيقَةِ مِنْ بَيْنِ أَنْيَابِ الأَكَاذِيب. فَلْنَكُنْ جُنْدًا لِلْحَقِّ فِي هَذَا الفَضَاءِ الوَاسِع، حَتَّى لَا تَضِيعَ الحَقِيقَةُ فِي زَحَامِ الأَصْوَاتِ الزَّائِفَة.