"إنما أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً" هكذا أرسى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قاعدة ذهبية تحوّل النصوص من مجرد كلمات تُتلى إلى مناهج تُطبَّق ودساتير تُحتكم إليها.
وفي نهج البلاغة، ذلك الكنز المكنون من كلام سيد البلغاء، نجد أكثر من مجرد مواعظ روحية أو خطب حماسية. إنه دستور متكامل للحكم الراشد، ومنهاج عملي لبناء الدولة العادلة، ودليل شامل لمواجهة تحديات الإدارة والسياسة والعدالة الاجتماعية.
يقول عليه السلام: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك"
في هذه الكلمات الخالدة، يضع الإمام علي الأساس الفلسفي للحكم الإسلامي ، إنه ليس امتيازاً يُطلب، ولا غنيمة تُنتهب، بل تكليف يُحمَل وأمانة تُؤدَّى. فالحاكم في منظوره ليس سيداً يأمر، بل خادماً يخدم، وليس مالكاً يتصرّف، بل وكيل يُحاسب.
هذا المفهوم الثوري للسلطة يقلب موازين الحكم التقليدي رأساً على عقب، ويؤسس لنظرية سياسية متقدمة تجعل الحاكم مسؤولاً أمام الشعب قبل أن يكون آمراً له.
وحين وُلِّي الخلافة، لم يكتفِ بالشعارات البراقة، بل ترجم فلسفته إلى سياسات عملية. فقد أعلن مبدأه الاقتصادي الجذري: "والله لو أن الأموال كانت لي لسوَّيت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم"
هنا تتجلى نظريته في العدالة الاجتماعية: المال العام ملك للأمة جمعاء، والحاكم مجرد مؤتمن عليه. لا تفضيل لقريب ولا محاباة لصديق. المعيار الوحيد هو الحاجة والاستحقاق، لا النسب والمنصب.
وفي رسالته الشهيرة إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر، يضع الإمام دليلاً شاملاً لمحاربة الفساد الإداري: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم"
ثم يحذره من الاستسلام لضغوط المصالح الخاصة: "وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها"
هذه التوجيهات ليست مجرد نصائح أخلاقية، بل برنامج عمل متكامل لبناء إدارة نزيهة وفعّالة. الحاكم مطالب بأن يكون رحيماً دون ضعف، وحازماً دون قسوة، وعادلاً دون محاباة.
وقبل أن تعرف البشرية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأربعة عشر قرناً، سطّر الإمام علي في نهج البلاغة منظومة متقدمة لحقوق الإنسان وكرامته. يقول: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"
في هذه الكلمات الذهبية، يؤسس لمبدأ المواطنة الشاملة والأخوة الإنسانية. لا فرق بين مسلم وغير مسلم في الحقوق الأساسية، ولا تمييز بين أصل ونسب. الجميع متساوون في الكرامة الإنسانية، وعلى الدولة أن تكفل لهم العدل والحماية.
ويتابع في نفس الرسالة: "فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه"وهو مبدأ يسبق القاعدة الذهبية في الأخلاق العالمية.
ورغم ما واجهه من تمردات وفتن، لم يتخلَّ الإمام عن مبدأ الشورى والحوار. يقول: "رأيان أصيبا خير من رأي واحد أخطأ"
هذا الإيمان بأهمية التشاور والمشاركة في اتخاذ القرارات يجعل من نهج البلاغة دستوراً للديمقراطية الحقيقية، التي تقوم على الحوار والإقناع لا على الإكراه والقهر.
إن ما يميز نهج البلاغة أنه لا يقدم حلولاً مؤقتة لمشاكل آنية، بل يؤسس لمنهجية دائمة في الحكم والإدارة. فحين يقول الإمام: "لا تجعلوا علمكم جهلاً، ويقينكم شكاً"، إنما يدعو إلى التطوير المستمر للمعرفة والخبرة في فن الإدارة والحكم.
وحين يحذر الولاة قائلاً: "إن الله سبحانه لم يجعل للعالم في جهل الجاهل ولا في ترك العالم علمه رخصة"، فإنه يضع على عاتق القادة مسؤولية التعلم المستمر ونقل المعرفة والخبرة.
واليوم، وأمتنا تتخبط في أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، نجد في نهج البلاغة الدواء الناجع والطريق الأمثل للنهوض. فلو طُبِّق جزء يسير من هذه المبادئ في حكوماتنا ومؤسساتنا
لزال الفساد الذي ينخر في جسد الأمة، ولانتشرت العدالة بدلاً من الظلم، ولتحقق التنمية بدلاً من التخلف، ولعاد للأمة مجدها وريادتها.
إن نهج البلاغة ليس مجرد تراث نفتخر به، بل منهاج حياة نطبقه، ودستور حكم نحتكم إليه. ففي كلمات الإمام علي خريطة طريق واضحة لبناء المجتمع العادل والدولة الراشدة.
"وإنما أنا رجل منكم، لي ما لكم، وعليّ ما عليكم" بهذه الكلمات الخالدة، يضع أمير المؤمنين الأساس لعقد اجتماعي جديد، يقوم على المساواة والعدل والمسؤولية المشتركة.
فهل من مستجيب لنداء التاريخ وهل من عائد إلى هذا النهج القويم
إن الأمة في أشد الحاجة إلى من يحمل مشعل هذه القيم، ويترجمها إلى واقع معيش. فكلام أمير المؤمنين ليس للتأمل فحسب، بل للعمل والتطبيق. وما أحوجنا اليوم إلى أن نجعل من نهج البلاغة نهج حياة، ومن كلماته برنامج عمل، ومن مبادئه دستور نهضة.