شيء يعصف بي الآن يا صديقي .. صور كثيرة .. ذكريات .. لحظات عابرة، متداخلة ببعضها، كأني أرى أشياء عبر نافذ قطار مسرع .. أتذكر أيامي الأولى معك .. طفولتنا وشبابنا الذي تبدد قبل أن يبدأ .. يوم كنا صغاراً وجاء أبي يوبخني ويضربني أمامك، فأخذت تبكي وتضرب قدمه متوسلاً إياه أن يتركني .. أتذكر عقوبتك بدلاً عني يوم أعطيتني كتابك وعاقبك المعلم شر عقاب.
كنت أنا المشاغب دوماً وأنت الودود اللطيف ولطالما دفعت ثمن صحبتك لي .. لا أعرف لماذا أحدثك بهذا الآن! ولكن الأمر هكذا، ربما لأني لم أرد الجميل لك يوماً، ولم أفعل نصف ما فعلته معي .. مع إنك كنت تقول دوماً: " هذا واجبي يا صديقي لا تهتم".
لكن لماذا يا علي! لماذا بهذه السرعة يا صديقي وقد عودتني أن لا أستغني عنك! لماذا لم تودعني يا أخي! لم لم تعد يا نور عيني!
ما أفهمه إن المقاتل يذهب ليصارع ويتعذب وينتصر ويسجل ما يرى ليعود ويحكي للناس شيئاً جديداً مثيراً ممتعاً! أما أنت فقد عاد زملائك يحكون قصة الأشلاء التي تناثرت فأنبتت الأرض في محلها زهرة (لوتس) بيضاء بلون وجهك ونقاء قلبك ..
ها أنا أراهم وأغبطهم على لحظاتهم الاخيرة معك .. ها أنا ألمح نقاء روحك وبريق عينيك في عيونهم .. نعم يا صديقي هذا أنت كعادتك محبوب من الجميع وتزرع المحبة أينما حللت.
أين أنت يا رفيق صباي .. كم اشتاق لحديثك وصوت حكمتك .. لقد كنت شخصاً يذكرني الحديث معه بالله تعالى .. شخص لا يلتفت لملذات الحياة وأهوائها، قوي الشعور بالواجب .. تُؤثر غيرك على نفسك ..
كنت الأعزب الوحيد بين زملاء الساتر، وهبت أحدهم ذات يوم أجازتك لأنه رزق بمولود جديد .. قلت "هذه هديتي لك يا صديقي، اذهب بسلام وقبّل طفلك عني" .. ها هو الان أمامي يذرف الدموع ويلطم خده بحرقة:" علي .. لماذا يا اخي! لماذا فعلتها بدلاً عني وعن الجميع وقد كنت الأصغر بيننا .. لماذا ضحيت بنفسك لتنقذنا! أم تراك أخترت شهادة تليق بالكرماء الأبرار!" ..
ها أنا أشم عبيرك واستنشق رحيقك وأراك في كل الوجوه التي تحمل لك ذكرى طيبة ولحظات لا تنسى .. ها هو أكبرهم يحمل حقيبتك واشيائك المتبقية .. ها هو يقبل خوذتك منادياً " علي .. يا ولدي الصغير يا طيب الاخلاق والمعشر .. يا شباباً يصلح أن يكون مدرسة لكل الأجيال " إنه ينظر هنا وهناك ويحكي قصتك مستذكراً: " كنا جالسين والظلام حالك ونحن على بعد ثلاثين الف متر من العدو .. قال سأخرج لاستطلع المنطقة وأعود لكم .. وفي تلك اللحظات تحديداً سمعنا صوتاً أفزعنا ينادي (الله اكبر .. ألله أكبر) وما إن خرجنا حتى أنقض علي على أحدهم ودفع به الى حفرة قريبة .. كان يحمل حزاماً ناسفاً وما استطاع أن يؤذي أحدنا إلا هذا الفارس الذي قرر في لحظة أن يضحي بنفسه لينقذنا من موت محتم" .. هل سمعت يا صديقي؟ هل تتذكر؟ يوم أراد أحدهم أن يطعنني بسكين وقد حلت دون ذلك مستقبلاً إياها بيدك الرقيقة .. ها أنت تفعلها مرة أخرى وتنقذ أرواحاً دون أن تبالي ببذل نفسك وأغلى ما تملك.
أين سأزور قبرك وأنت في كل مكان من هذه الارض، في بقعة لا تقاس بخطوط الطول والعرض؛ لأن امثالك يا صديقي- ممن رخّصوا الدماء وبذلوا الأنفس من أجل عقيدتهم ووطنهم- لا يحدّهم زمان ولا مكان .. هم أشخاص جسّدوا معنى الكرامة للإنسان .. رجال تحتضنهم السماء قبل الأرض وتنتظرهم الجنان متلهفة .. مشتاقة.
لعلي سأزور الساتر الذي حظي بطيب اشلائك فيحدثني عن بطولاتك ولحظة خلودك وانت تتشظى لتمنح زملائك كل ما تملك من الشباب والحياة .. لعلي ألتقيك حيث كنا نمارس الرياضة ونلعب كرة القدم فهي الذكرى الاخيرة لي معك .. يوم توّجتَ كأفضل لاعب في البطولة، كما تتوج اليوم بالبطولة والشهادة.
أي صورة سأعلق! وقد تركت صوراً لا تحصى عن الايثار والشجاعة والمحبة والبطولة .. أي صورة سأعلق وقد علقت روحك على جدار الخلود وفي ذاكرة الامة .. فبعد اليوم لم تعد لي فحسب يا خليل روحي ويا شيخ الشباب، بل غدوت لكل الاجيال مناراً وأنت تمنح شبابك ليحيا كل من على هذه الأرض بخير وسلام .. فاذهب يا صديقي وارقد حيث وعدك الله حياة ورزقاً.







وائل الوائلي
منذ 5 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN