أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-7-2016
![]()
التاريخ: 27-7-2017
![]()
التاريخ: 2025-03-27
![]()
التاريخ: 14-08-2015
![]() |
القصيدة الطويلة وقصيدة القناع
واذ نتناول بعض قصائد طويلة محاولين من خلالها تشخيص النزعة الدرامية في الشعر فنأمل ألا يتبادر الى الذهن بأن أية قصيدة طويلة هي درامية بالضرورة فليس الطول وحده ميزة للعطاء الدرامي ، ويقودنا هذا الى القول بأن صفتي الطول والقصر وحدهما ليستا كافيتين لمعرفة ما اذا كانت هذه القصيدة أو تلك ذات نزعة درامية أولا ، حقا ان الغالب على القصيدة القصيرة صفة الذاتية أو الغنائية ، لأنها كثيرا ما تقدم تجربة شخصية مدودة ، وربما صارت تلك الصفة « الغنائية » من صفات قصر القصيدة الملازمة لها عند بعض النقاد ، يقول الدكتور عز الدين اسماعیل ان القصيدة القصيرة غنائية بطبيعتها (1) بل نرى ناقدا وشاعرا كبيرا اليوت يتساءل الى أي حد يجب أن تكون القصيدة قصيرة لكي تصبح غنائية معبرة بصورة مباشرة عن أفكار الشاعر الخاصة ومشاعره فقط (2) هذا ومع كله فان نقادا آخرين لا يرون أن هناك ارتباطا دائما ولازما بين صفة قصر القصيدة وغنائيتها ، يقول « روى كاودن» ان بعض القصائد القصيرة يمكن أن تكون درامية أيضا ، بل وقصصية وأن تتضمن مجاري للأفكار وللناس (3) ويتضح من هذا النص ان الدرامية عند » روى كاودن انما ترتبط بالموضوعية التي هي صفة دائمة لصيقة بكل عمل درامي مسرحي أو قصصي أو قصيدة تطمح الى بلوغ ذلك المستوى واذا كان قصر القصيدة لا يمنعها من النهوض بمقومات الفن الدرامي حين يتهيأ لها فنان مقتدر فان العديد من القصائد الطويلة ، والبالغة الطول أحيانا يمكن أن تظل مجموعة أبيات متراكمة متكدسة تمثل موقفا واحدا مباشرا خاليا من الفن المتكامل والناضج الذي يرى أن كل انجازات الفنون المختلفة يمكن أن تتقارب وتختلط ويؤثر
75
بعضها ببعضها الآخر في محاولة لخلق نسيج جمالي جديد ومتطور ومن هذا المنطلق فاننا نرى أن بعضا من قصائد السياب الطويلة ک الأسلحة والأطفال و بور سعيد ليست الا قصائد غنائية ، لم يتعمق فيها وعي الشاعر ليستلهم من انجازات الفن الدرامي شيئا ذا قيمة ، وظلت تمثل صوت الشاعر متأملا ، أو خطيبا منفعلا(4) تتوالى فيها المقاطع دونما اضافات ايجابية ، وكأنها تكديس للمزيد من الصور ذات المعنى الواحد والصياغة اللغوية المختلفة سلام على العالم الأرحب على الحقل والدار والمكتب على معمل للدمى والنسيج سلام على العالم الأرحب سلام على « الكنج » فاض النعيم ورنت أغاريد في ضفتيه سلام على العالم الأرحب على مشرق منه أو مغرب سلام لباريس روبسبير وايلوار والغابة الحالمة (5) ولعل هذا هو ما دفع ناقدا كعبد الجبار عباس لأن يقول ان هذا التوسع في مطولات السياب من بقايا خرافة طول النفس ، وتوهم الشاعر أنه يكتب
76
ملحمة ان قصدية مثل « الأسلحة والأطفال » تشكو من التضخم والتوسع اللا مجدي الذي يشرق ويغرب عبر رحلة يجمع فيها الأشباه والنظائر بدعوى عالمية الانفعال بقضايا الشعوب (6) واذا كانت قصيدة البياتي موت المتنبي (7) من المحاولات الايجابية لبناء القصيدة بناء طويلا والتي أفادت من انجازات فن المسرح ، فان تكريس هذه الظاهرة ، تكريسا واضحا قد بدأ منذ سنوات السبعينات وأعني بها السنوات التي ظهر فيها نتاج شفيق الكمالي ويوسف الصائغ وبلند الحيدري وخالد علي مصطفى وعبد الرزاق عبد الواحد وسواهم وربما كان يوسف الصائغ اكثر زملائه اهتماماً بكتابة هذا النمط من القصائد فلقد كرس جهده ولسنوات عديدة من أجل كتابة القصيدة الطويلة اذ أصدر حتى عام 1973 ست قصائد ضمنها مجموعته اعترافات مالك بن الريب (8) ولا تعنى هذه القصائد كلها بغير قضايا الواقع العربي المعاصر بعد نكسة حزيران وتقوم أغلبها على فكرة البحث عن المنقذ أو المخلص الذي يعيد للمدينة العربية المستباحة مجدها وحريتها وكرامتها الضائعة وهي حث دائم على الفعل والحركة الايجابية التي يريد لها أن تثمر نصرا وكرامة وسنكتفي في هذا الموضع من بحثنا ، بتناول قصيدته انتظريني عند تخوم البحر لأنها ـ فيما أظن - كافية لتوضيح طريقة الشاعر في بناء قصيدته بناء طويلا ، كما أن صدى أفكاره وتجاربه في المجموعة كلها يتجاوب في هذه القصيدة ، فموضوع الحب والثورة ورصد مشكلات الواقع العربي المعاصر وتشخيص أزماته ومشكلاته الذي امتد وغطى المجموعة كلها ، يتبلور بشكل واضح في انتظريني عند تخوم البحر وأول ملامح البناء الدرامي أن هذه القصيدة تعتمد على تتابع المشاهد واللوحات ، وتصاعد الحدث تصاعدا تدريجيا ، ونموه على طريق الاكتمال ، وترسم
77
الحلول وعلى تعدد الأصوات واختلاف المواقف وتصارعها ، كما أن انتظريني عند تخوم البحر تفيد اضافة الى عنصري السرد والخطاب من عنصر الحوار الذي غدا فيها وسيلة تعبيرية مهمة لا يمكن فصلها عن وسائل التعبير الأخرى في القصيدة شخصية مركزية هي المرأة ، وشخصيات أخرى تقاسمها موضوعها الشعري، وتحمل معها عبء النهوض بتطوير الحدث ، ومنذ البدء ندرك أن هذه المرأة تنتظر حبيبا ضيعته وأنها تخرج للقائه ليلا دونما جدوى أسمع صوت حبيبي يدعوني الليلة فانتظروا قلقي اني ذاهبة أستحلفكن بنات البصرة ان كان بكن حنين ينضج في شفتي الطلع له ملن علي اذن(9)وملامح المرأة هنا تشبه الى حد بعيد ملامح « شلوميت » حبيبة الملك سليمان وهي تستعير كلماتها أيضا تلك الكلمات التي ترد في التوراة صوت حبيبي هو ذا آت (10) أحلفكن يا بنات أورشليم (11) أما الشخصيات الأخرى التي تقابل المرأة فهم الصيادون الثلاثة والبطل الغائب والحارس والشاعر واذا كانت المرأة تجسيدا الموقف الباحث والمنتظر فان الصيادين الثلاثة يمثلون حالة الخيبة وعدم القدرة على الفعل الحقيقي ، انها تنتظر غير أنهم يحاولون دائما اثبات ان ليس ثمة قادم ويتشككون بأن يكون كلام المرأة صدقا
78
قال الصيادون :هربنا للبحر وجربناه دوارا واصطدنا سمكا أزرق مثل وجوه الغرقى وجمعنا فاكهة للشك أنا لا نأمن أن نخدع فوق خديعتنا الأولى أن تكذب هذي المرأة (12) وتعتبر الأصوات الأخرى كلها امتدادا وتأكيداً لفكرة الخيبة ولا جدوى الانتظار ، فالبطل يعلن أنه سيجيء ، ولكن مريضا ومتعبا : لیس سوی مرضی وسريري والحارس لا يكتفي بالتشكيك فقط وانما يقف موقف الضد ويمنع المرأة من البحث عن حبيبها . ويظل صوت يوسف الصائغ ممثلا للمعلق على الحدث أوالرواية الذي يعلن حالة اليأس مات حبيبك يا امرأة الشاعر فاغتسلي بالبحر
لأنك بعده لن تلدي أو فهي قلائد تلبسها امرأة عاشرها الشعراء ثلاثين فما ولدت(13) وتبدأ ملامح الشخصيات بالاكتمال ، وينمو فعلها ، وتكشف عما وراءها من رموز وندرك أن المرأة المنتظرة العاقر ما هي الثورة المحبطة ، أو المدينة العربية التي تعاني من القهر وتتوق الى الخلاص والتحرر ، منتظرة الفارس والشاعر والولادة الجديدة ، وكأن عقمها اشارة الى العقم الاجتماعي العام ، كما أن المنتظر
79
هو الثوري أو هو المستقبل الأكثر اشراقا والذي نتعجل مقدمه ، ولقد مرت بنا اشارة عابرة الى صفة هذا المنقذ وهي ذات دلالة سياسية ذلك انه استدعى مرة أمام الحاكم ، ثم أسكن المنفى ويختار الصائغ لبطله صفات الشاعر بدر شاكر السياب ، ولسنا ندري كيف انتهى البحث عن المنقذ الى توحده بالسياب دون غيره ؟ أكان هذا امتدادا لفكرة الأسطورية التي تؤكد على انتظار من ينهض من عالمه السفلي حاملا معه الخصب ؟ أم أنه وجد في شخص الشاعر القيمة الانسانية والثورية العليا القادرة على الفعل والعودة بالحياة الى مواقع النماء ؟ أم تراه انساق مع الفكرة الشائعة في قصائد صلاح عبد الصبور ومسرحياته وهي الحيرة بين اللجوء الى السيف أو الكلمة أداة للتغيير ، فاختار الكلمة في أول مرة ممثلة ببدر شاكر السياب لواقعيته ولمنزلته الكبيرة في الشعر العربي ولأحزانه الدامية في أشعاره عن المدينة العربية ومحنتها وسواء أكان السبب هذا أم ذاك فان الالتقاء بالسياب ذاته قد أفسد تلك الغلالة الأسطورية الجميلة التي كانت تلف القصيدة وأكسبها بعدا واقعيا مباشرا وجعل فكرة الانتظار محددة ضيقة ، بعد أن كانت شاملة ومطلقة ، وأثار تساؤلا وغرابة لأن مكونات شخصية السياب كما هي معروفة من سيرته وتاريخه لا تحتمل هذا الموقف الشامل ، ولا تستطيع النهوض بعبء ومهمات المنقذ أو شخصية البطل القادم المغير التي غالبا ما ترد في الأعمال الأدبية مرتدية رداء أسطوريا يكسبها الجلالة ويمنحها شيئا من القداسة ، وليت الصائغ اكتفى بالاشارة الى الشاعر المنقذ كفكرة مطلقة تشير الى الكلمة الفاعلة والمغيرة ، ولم ينصرف الى شاعر بعينه ، ويستفيض بالتالي في ذكر الكثير من شؤونه وسماته الخاصة ما أخطر القصيدة الطويلة على صاحبها يقول جبرا ابراهيم جبرا و ازاءها لسوف نتساءل هل لدى الشاعر من الصور والمعاني التي لم يسبقه اليها أحد ما يكفي لطولها (14) وهذا تساؤل ضروري ، فلقد قادت الصائغ رغبته في الاطالة الى المزيد من التكرار كتكرار مقاطع أصوات الحراس وصوت المرأة الذي
80
ظل يردد المعاني نفسها وأصوات الآخرين مات حبيبك يا امرأة الشاعر فاغتسلي بالبحر وهذه العبارة توشك أن تكون لازمة تتردد دائما ، وقد يقال أنه يحدث أحيانا أن تتحقق العضوية في تجربة ثلاث مقطوعات مثلا من قصيدة تتألف من أربع مقطوعات أكثر مما تتحقق في تجربة القصيدة بأسرها » (15) وربما وجد بعضهم في هذا تبريرا للمقاطع التي لا أهمية لها في تطوير البناء الشعري ، متناسين شيئا مهما ينبغي أن لا يغيب عن البال وهو أن البناء الشعري الطويل يجب أن يظل متماسكا ، وأن تلك الأجزاء التي تبدو ثانوية لا بد لها أن تدخل النسيج الشعري الموحد لتؤدي دورها في البناء العام ، فان لم يكن لها هذا فحذفها ضرورة لسلامة الفن والأداء ، يقول ماتيسن لقد شعر اليوت ان القصيدة الطويلة ، اذا كان لا بد لها من البقاء ، فلا بد أن يكون لها شيء يميزها سوى طولها ، وأن تتضاعف طاقتها بحذف ما هو حشو منها (16)ونعود الى القصيدة لنرى الشاعر « المنتظر » يتحدث يا وطني ماذا كان علي اذن أن أصنع للكرم ولم أصنعه ؟ أماء غير دمي بذل الفلاحون فأغنت كرمتهم عنبا ؟وبموت أصدق من موتى يتباهى يا وطني ماذا كان علي اذن أن أصنع ؟(17)
81
ولعل هذا المقطع يعكس بدء حيرة الشاعر وغياب وضوح الحل ، وهذه الحيرة ستؤدي الى تنحي أحد طرفي الصراع « الكلمة » ذلك لأن الشاعر غير قادر على الفعل الايجابي الذي يمنح تلك المرأة المدينة نسغ الحياة والخصب ويحاول الصائغ في المقاطع التالية أن يوضح فكرة خيبة الكلمات لأن هذا العصر عصر غريب لم تعد للكلمة فيه القدرة على الفعل هذا العصر يلاحق حتى القتلى ويشكك بالشهداء ماذا يملك أن يفعله الشعراء لقد سقط الشعر(18)وبسقوط « الكلمة » كاختيار فاعل للتغيير، ينتهي بحث البطلة وبحث الصائغ أيضا عن الشاعر المنقذ ، وسيبحثان معا عن الفارس والمخلص ذي الصفات الأخرى التي هي صفات المقاتل أو من يبعث من بين الشهداء فتعالوا نبحث عن وجه حبيبي فوق جذوع الجند المهزومين واشارة الشاعر الى الجند المهزومين هي اشارة لهزيمة الجيش العربي في حزيران 1967 وهو يكرس هذا المعنى بأبيات عديدة تشير الى الدبابات التي الوت غداراتها ، وغلاصمها في الرمل والشاعر هنا كمن يتشكك في قدرة الجيوش على تطهير الواقع ، واعادة الحياة للمدن العربية الميتة ، ولذا فان الحل لمشكلة العقم عقم المدينة والمرأة يحتاج الى بديل ، ويأتي البديل على هذه الصورة من هذا الفارس ، يمشي فوق مياه الأردن يحمل رأسه في كفيه ؟ ان كان غريبا فليترجل نسكنه أعز منازلنا
أو كان حبيبا
82
استحلفكن بنات البصرة لا تلمسن جراحه فهي ثياب زفافي عاد بها ختني من خلف خطوط النار وهي الشاهد يا وطني فاستدعوا الحزيران شهودكم الزور (19) واذا كان هذا المقطع يختار للمنقذ صفة الفدائي وملامح رجال المقاومة ، فان القصيدة تنتهي دون أن تختار بشكل واضح واحدا من الأفعال القادرة على التغيير ولذا فسيطلب منا الشاعر أن نذهب للعرافين ونستجلي الطالع يا عراف البصرة أقسمت عليك ثلاثا بالمنفى بحنين الموتى وبأمواج بويب نبئنا بالغيب فك اللعنة عنا عل العرافين يصوغون لنا من أعشاب البحر شرابا « يشفي وجع الأرحام » .ويجمع الصائغ بين عدة أساليب تعبيرية ، ويعتمد على الحوار بشكل واضح غير أن هذا الحوار لا يستمر طويلا ليشمل جزءا كبيرا من المقاطع ، وانما يأتي على شكل دفقات صغيرة تشيع في هذا الموضع أو ذاك من القصيدة ، واذ ينهي الحوار يتوجه الى السرد حينا والى خلق حكايات أو قصص يبرز من خلالها صوت الراوية
83
قال الناس اختبلت ماذا تطلب عند صخور البحر لقد رجع الصيادون واقفرت الخلجان شبح أبيض عند خليج البصرة شاهده الحراس ثلاث ليال فارتعبوا قال الأول اني شاهدته في ساعات الليل الأولى وعلى عينيه أسى كالفضة قال الثاني كان يحدق بي غضبا أما الثالث قال استوقفني الحارس فتشني هذا اسمي يا حارس بيت الموتى فافتح لي خوفني الحارس عودي يا حلوة فالبحر الليلة مسحور يا حارس بيت الموتى صوت حبيبي وجع(20) ويتأكد للقارئ حين يتم انتظريني عند تخوم البحر أن كاتبها شاعر غنائي مقتدر وذو امكانات فنية دأبت به الى الاقتراب من انجازات الفن الدرامي كخلق الحدث المتطور وبلورة المواقف المتصارعة وتعدد الأصوات والشخصيات ، غير أن المشكلة التي عانى منها ، وسيعاني منها الكثيرون هي عدم القدرة على التخلص التام من الاستطراد والافاضة والوصف الذي يمتد ويعنى بأمور علاقتها بالحدث الأساسي ضعيفة وواهية بحيث تصير القصيدة نموا بالشعر الجميل المسترسل بدلا
84
من الشعر المكثف الملتحم بالحدث، ذلك ان كل عبارة في بنية القصيدة حويلة ذات الحدث والشخصيات والعقدة ينبغي أن تصب في المجرى الموضوع ، وان يكون لها فعلها المؤثر والمطور للاتجاه الموضوعي العام تشعب شعري ورغبات فنية أو شخصية ، كافتعال جمل للاثارة العاطفية الزائد لرسم العديد من الصور الخلابة المترادفة سيكون - على ما فيه من متعة وتدوق - مسيئا لنمو الحدث ، كما انه يصرف القارئ عن متابعة الموضوع وطالما أحسس ونحن نتابع قصيدة الصائغ ان الشعر يزداد بهاء وجمالا على حساب المادة الموضوعية ، بل الأخطر من هذا ان بعض شعر «انتظريني عند تخوم البحر » يسهم أحيانا في تكوين القصة أو يقود الى قصص جانبية وليس العكس الذي يتطلب أن تخلق الكلمات تبعا لضرورات تكامل الفكرة الاساسية ان موضوع الحب والثورة سيمتد ليكون الحدث الأهم في نتاج معظم الشعراء العراقيين ، وسيكون شعر شفيق الكمالي عطاء مهما في هذا المجال ، كما ان النقلة الكبيرة في أفكار وأداء شفيق الكمالي في أغلب قصائد مجموعته الأولى رحيل الأمطار وتطورها في مجموعته الثانية هموم مروان و حبيبته الفارعة » ثم « تنهدات الأمير العربي » لهي جزء من المسار الجديد الذي بدأ الشاعر العراقي الحديث يحث الخطى نحوه وهو تعميق الوعي الغنائي في القصيدة لتتمكن من احتواء تجارب الآخرين والتعبير عن تطلعاتهم وقضاياهم المشتركة الكبيرة ويجنح شعر الكمالي للتعبير عن تلك المشكلات جنوحا واضحا لبنية القصيدة بناء طويلا ، وتأتي مجموعته الأخيرة تنهدات الأمير العربي والتي ضمت أربع قصائد بالغة الطول دليلا أكيدا على هذا المنهج وضروري أن نقول هنا ان تنهدات الأمير العربي ما هي الا النمو والامتداد الطبيعي لأفكار الكمالي كما وردت في مجموعته هموم مروان وحبيبته الفارعة بل انها توشك أن تكون الصياغة الجديدة لتلك المضامين مثل مرائية شفاه حبيبتي و غزل أموي و مياه بني عذره واذا كانت المجموعة هموم مروان تجسيدا لفكرة العاشق والثائر المطارد ، والمدينة العربية المستباحة
85
حينا والمحاصرة حينا آخر وحثا نحو فعل كبير ينقذنا من تلك الاستباحة وهذا الحصار فان تنهدات الأمير العربي ليست الا هذه الموضوعات نفسها ولو التفتنا الى دلالة عنواني المجموعتين لتأكد لنا ذلك أيضا اذ ما الفرق بين هموم مروان و تنهدات الأمير في تقديم الاحساس بالموقف أو الحالة المأساوية تضم تنهدات الأمير العربي أربع قصائد أولها التي حملت اسم المجموعة ثم سيدة الأحزان و عراقية كانت الريح وأخيرا تعود الهوادج ؟ لا ولن نستفيض في التحدث عن موضوعات القصائد الأربع انما نحاول الاشارة المختصرة الى المحتوى العام أو الأفكار الاساسية التي حاولت تلك القصائد طرحها ان هناك عاشقا ومعشوقة والعاشق ثائر يحتدم فيه الحب بالغضب بالأسى ومعشوقة تبدو بعيدة المنال وربما متمنعة وأحيانا غائبة أو مكبلة وللقارئ - ان شاء ـ أن يفهم علاقة العشق هذه على أنها علاقة شخصية حياتية لا تختلف عن مثيلاتها من العلاقات التي تربط رجلا ما بامرأة كما وله أيضا أن يذهب الى أبعد من هذا فيكسب تلك العلاقة بعدا موضوعيا ودلالات رمزية وهنا يصح اعتبار المرأة هي المدينة أو الوطن والعاشق هو الثائر والابن الحقيقي لتلك المدينة التي هي بحاجة شديدة لمن يعيد اليها الحياة الكريمة العزيزة وشعر الكمالي كله يزاوج بين هذين الغرضين وأحيانا يكون الفصل بينهما صعبا أو عملا اقتساريا فاذا تجاوزنا قضية العاشق والمعشوق فان شعر الكمالي ليؤكد خصائص معينة فهناك دائما مجد عربي مشرق وتاريخ مكتظ بالبطولات كنت مع الجيش الفاتح جنديا أتفيأ رايات النصر: يركزها الفتيان على سور الصين قتيبة كان أبي(21)
86
ولكن ذاك المجد وتلك النار بدت وكأنها تخبو وتصير رمادا ، والمدن العربية التي كانت ينابيع حضارة أوشكت أن تكون خرابا وذاك الزمن الأخضر المزدهر استحال موتا ونفيا وخسارة كان العشاق عصافير حدائقنا وأتى زمن أغلق باب القصر نظرت اليها مبهوتا فلقاء المحبوبة أضحى معجزة في زمن النفي فأطبقت الجفن على الجفن بكيت(22) وهناك غير لعنة ضياع الماضي المشرق لعنة أخرى هي هذا الاقتتال بين الأخوة وتسلط الغدر والخيانة التي تؤدي الى تكريس احتلال المدينة ، وحصارها وضياعها قتلت برمح أخي(23) وكفاه على جرح خلفه في القلب أخوه (24) غاله الأخوة الآخرون (25) نحن في الأشهر الحرم لكنهم قتلوا مصعبا ، فافترقنا (26) وأقسى من الموت غدر (27) ليس في تنهدات الأمير العربي حدث محدد كما مر بنا في قصيدة يوسف الصائغ حدث يتطور منذ البدء حتى النهاية، عبر مواقف متصارعة دائما
87
و شخصيات ذات ملامح متميزة ومتفردة، ولم يكن من هم الشاعر أن يقدم أحداثه على هذه الصورة ، وانما هو يعني بتقديم حالات عامة ، ولذا فان القصيدة عنده تطول تبعا لتعدد تلك الحالات ، الحب، الغدر ، المدينة ، المحاصرة ، الماضي المشرق ، من هنا يتحول الصراع في المواقف ، الذي هو ميزة البناء الدرامي بشكل عام ، الى صراع بين هذه الحالات الواسعة والمتعددة ، ويكتسب في الغالب صفة التضاد بين الحاضر والماضي ، بين العاشق والمعشوقة بين الشاعر المحتدم غضبا وحبا وثورة وبين أخوته الغادرين ، والقانعين بالصمت كما ان بنية وهندسة القصيدة لا تنمو وفق خط تصاعدي واحد ، بحيث يكون المقطع فيها مطورا للذي يأتي بعده ، وانما تمتد تبعا لتداخل الأصوات والرؤى والتداعيات ، وكأنها بناء شعري خاص يتكامل من خلال حرية تامة في التعبير عن كل ما يدور بذهن الشاعر ، غير أن هذه الحرية في الأداء لم تكن لهوا أو عبثا في أي من قصائد الكمالي ، لأنها تخدم دائما الاتجاه الموضوعي العام للقصيدة ، ومهما بدا حدث نائيا عن حدث أو فكرة بعيدة عن فكرة أخرى ، فانها ستسير أخيرا في المسارب المتعددة المؤدية الى رسم وتوضيح الحالة الشاملة التي يطمح لتقديمها ، لأن الكمالي يميل في بناء قصيدته الى خلق محور رئيسي أو فكرة أساسية عامة يدور حولها عدد من الأفكار والانطباعات التي تسهم في اغنائها ولعل هذه الهندسة الشعرية هي ميزة وصفة خاصة يحاول الكمالي أن يكرسها لتكون أداءه الفني المميز له والذي يفرق به عن غيره من الشعراء واذا كان بناء قصائد الكمالي يقوم على تداخل الحالات فان قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد » «المصادرة » تأتي نموذجا طيبا للقصائد الطويلة التي تقدم المواقف المتضادة عبر خط واحد نام ومتطور وسيأخذ الصراع فيها صفة الحدة والمباشرة والتقابل الدائم بين البطل والآخرين تبدأ القصيدة بهذا الحوار المثير بين رجل بسيط أمام رجال الدولة في جوازك حين عبرت الحدود هل عبرت الحدود ؟
88
أنت محتجز للاجابة لا للسؤال هنا في جوازك لا علامة فارقة فوق وجهك الشعر أسود وعينان صافيتان هل عبرت الحدود بهذا الجواز ؟ اذا كنت تعني عبرت الحدود بهذا الجواز ؟نعم أنت متهم للقرار بتزوير وجهك(28)وأول ما يلفت الانتباه في هذا الحوار هو السرعة والتتابع ، والتكثيف الشديد في اللغة ، والبعد عن الاستطراد الغنائي ، وتوضيح الصورة العامة لبطل القصيدة منذ البدء ، وسيكون مفتاح هذه الشخصية عبارة هي غاية في البساطة ولكنها عميقة الدلالة ، فحين يسأل المتهم « حين عبرت الحدود » تجئ الاجابة لترسم موقف البطل وأفكاره هل عبرت الحدود ؟ وهو استفهام انكاري يدلل على أن الرجل لم يعبر حدودا كما يتصور قضاته ، وانما انتقل من موقع الى موقع في أرض واحدة ، هي الأرض العربية وما أن نستمر بملاحقة الحوار قليلا حتى تتضح الصورة العامة للموضوع والأزمة وجبينك ؟ ماذا به ؟ لو تحسسته هل تغضن ؟ لا بأس
89
صوتك ما كنت ترفعه هكذا كان يرفعه بين قصف المدافع ، فاعتاد لا لم نكن نتكلم في حضرة النار لكننا بعد ما سكتت (29)وهنا ندرك أن هذا الماثل بين أيدي قضاته كان جنديا يقاتل في احدى الحروب العربية وان الحوار يدور بعد وقف اطلاق النار، الذي لم يقتنع الجندي به ولم يره صوابا وربما تحداه وظل يقاتل ، الأمر الذي أغضب قادته واستدعى محاكمته ومنذ بدء القصيدة يدرك القارئ ان قضاة البطل قد أصدروا الحكم مقدما وان الحوار بينه وبينهم لن يفيد كثيرا في الدفاع عن النفس هنا يقول الجندي أطلب مرأة أبصر فيها وجهي غير ان الجلادين يجيبون مرفوض نحن نبصره عنك لكنكم لن تروا منه انا نقاضيك وفقا لأعيننا معذرة والمحاكمة عندما تكون وفقا لأعين القضاة فانها تعني أ أن قد صدر الحكم لأن أعين القضاة ليست الا أفكارهم وقناعاتهم المبيتة التي اعتبرت فعل الجندي جريمة قبل الاستماع الى كلماته في دفاعه يلجأ عبد الرزاق عبد الواحد الى تصوير الصراع المباشر ، أو لقطات المحاكمة عن طريق الحوار ولكنه يتخلى عنه حين يتجه البطل الى صوته الداخلي الذي نعرف
90
من خلال ماضيه ، وماذا كان يفعل أثناء الحرب ، وكيف أدى مهمات الأبطال ، ومن الصوت الداخلي سنكتشف أن الجندي ليس وحده بطلا للقصيدة ، فلقد كان معه في دبابته جندي آخر ولكنه استشهد ، ومع هذا فهو دائم الحضور في القصيدة لأنه الصورة الثانية للبطل وهو حضور في كل الساحات وفي كل الأوجه: من منكم يقدر أن يفرز صرخة محمود عن صلية عشر رصاصات غاصت فيه من البلعوم الى منتصف السرة كنت أخلع جسمي وأسحب محمود والنار تأكل دبابتي أتخبط مستوحدا بين موتيهما ان ملامح الشخصية الثانية محمود يقدمها الشاعر من خلال جمل صغيرة بعيدة عن الاستطراد أو الافاضة في الوصف الذي لا يغني الحدث وينتهي الشاعر من فعل بطله الشهيد الى تصوير الحاضر ، حاضر عائلته وأولاده لم يبق منه سوى دفتر يتدافع أطفاله كل شهر بأبوابكم بصموا فوقه عد أرغفة الخبز حتى ملامحهم وشمت بتواقيعكم(30) وحين يعود الحوار ثانية يسأل المتهم عن دبابته لأنها الشاهد الوحيد الذي يستطيع أن يدافع عنه ، فيقال انها ذهبت للترميم والقارئ يدرك ان ذهاب دبابة الجندي الى الترميم يعني تقدم الحدث خطوة أخرى نحو طريق سفك دم البطل فلقد ضيع القضاة الشاهد الوحيد الذي يثبت الحق والبطولة ، ذلك انهم غسلوها ومسحوا منها دماءه ودماء رفيقه الذي فاض على سعة القاع فيها وأخيرا يرفضها
91
الجندي لأنها غدت شاهدا مزورا لا يعرفه ، ويعلن انه لا يحتاج اليها الآن كما لا يحتاج الى رئته المفقودة في مثل هذا الهواء الملوث وبتصاعد الحدث الدرامي هذا يتطور موقف البطل لقد كان في البدء يدافع عن نفسه ، بلهجة هادئة ، ويشرح أفعاله واخلاصه في الحرب غير أنه بدأ الآن يدرك ان لا فائدة من موقف الدفاع وان هؤلاء القضاة الجلادين جادون في اثبات التهمة ، كما انهم موغلون في الخيانة، ولذا فان المتهم سينتقل الى موقع المحتج الذي يرفع صوته مهددا قضاته كلهم لو أن صواريخهم لم تقف في مدار الخيانة أو أنهم هل سميت مدارا للدولة ؟ لا اياك وانصاف الكلمات اذن من منا يتعمد أن يخطئ فهم الآخر ؟ لا سؤال وليكن ما تفوه به واضحا في حدود الدفاع عن النفس سنصحح بعض السهو الوارد في أقوالك أرفض انهما مساحتان للضياء والظلمة لن ندخل فيهما معا لو سئلت غداة خرجت الى الموت
92
هل كنت تختار ؟ لا كنت أختاركم هدفي أولا أنت تقتل نفسك اني أسهل في مهمتكم أيها السادة تتبدل حتى عناوين أطفالهم وحدود مدارس أطفالهم دون أن تتبدل يوما ملامحهم(31)ان هذا الموقف الجديد للبطل ، وكلمات الاحتجاج هذه ، قربت الحدث من نهايته، وسهلت للقضاة مهمتهم ، لأنهم كانوا ينتظرون من البطل مثل هذه الادانة أو الاحتجاج ضدهم ، ضد الدولة ، لكي يقربوه من نهايته التي ستبدو لهم حينئذ مبررة ، وتصدر المحكمة أمرها وتقرأ قرار التجريم الذي لم يعتبر الجندي فردا متهما وحسب، وانما حوله الى قضية واعتبره « منشورا سريا » وأمر بمصادرته والقاء القبض على كل الكلمات المنقولة عنه وغير المنقولة هكذا يختتم عبد الرزاق عبد الواحد قصيدته المصادرة ذات البناء الطويل التي تفيد باقتدار من معطيات الفن الدرامي كوجود الحدث المتطور لمتلاحق ووضوح ملامح الشخصية ومواقفها عبر الصراع والتضاد ولعل المصادرة من القصائد المتفردة التي توظف الحوار المسرحي بشكل نموذجي ومكثف حيث يعم أغلب مشاهد القضية ويتحول الى أداة : تعبير أساسية تلتحم بالحدث نفسه
93
أما قصيدة خالد علي مصطفى سفر بين الينابيع (32) فسيكون لها شيء من الخصوصية التي تميزها عن غيرها من القصائد انها خصوصية الموضوع والتجربة تجربة الفلسطيني الذي وجد نفسه خارج فلسطين مثقلا بالمعاناة والتمزق والحيرة باحثا عن الموقف الأمثل في خضم الأفكار والممارسات المختلفة تتكون سفر بين الينابيع من خمس سفرات كل سفرة هي قصيدة ذات عنوان خاص بها أو هي لوحة داخل العمل الكبير، ومن خلال هذه القصائد مجتمعة تكتمل أفكار الشاعر وخواطره .وليس في القصائد الخمس حدث ذو أبعاد محددة كالذي رأيناه في انتظريني عند تخوم البحر أو في المصادرة فخالد علي مصطفى لا يعني بهذا وشعره في قصيدته هذه كشعر شفيق الكمالي في تنهدات الأمير العربي شعر يطمح الى تجسيد حالات ومواقف متضادة والقصيدة تستطيل تبعا لتعدد تلك الحالات والمواقف ، وليس لمتطلبات فكرة واحدة محددة ان موضوع السفرة الأولى من أسفار الشاعر تعبير عن محنة الانسان الذي يحمل وطنه معه ، ثم يلبي أول نداء يدعوه الى النضال والفعل ، حين يلامس كف الدليل التي ستقوده وتأخذ بيده ولكنهم سدوا الطريق الى فلسطين وارتضوا بالصمت بديلا عن الوطن الضائع ، وتحول الزمن الى شيء يابس ومتكسر صار الواقع سجنا وبدا الانتصار أسطورة وحين يحلم الشاعر بأنه لامس النبع واهتدى الى الجنة المفقودة تعثر قدماه ويسقط (33) أما الدليل الذي كان أملا وتوقا الى الفعل الايجابي الجاد فانه يتحول ويفقد صفاته ، لقد صار يوقع حلفا مع الصحراء كانت الأرض منفية والسماء
94
ركبتها عيون الدليل على ما تشاء فضح الرمل سر المكان فسياج الحديقة والنبع اسطورتان (34)تقدم السفرة الأولى أول محاور الصراع ، وهو الذي ينشأ بين الشاعر وذاته ، ويهدف الى رسم دائرة الخيرة المريرة، حيرة من لا يعرف أين هي الحقيقة ؟ وماذا يفعل ؟ وستكتسب القصيدة تكاملها من خلال محاور أخرى للصراع والفعل والتحرك فهناك محور يجسد صراع الشاعر مع الآخرين ومحور آخر للمواقف المتضادة بينه وبين بعض الأنظمة العربية ، كما حدث في السفرة التي عنوانها . أردية البدو الملكية :واذا كان التكرار غير الضروري من أخطر المزالق التي يتعرض لها كاتب القصيدة الطويلة - ومر بنا في قصيدة يوسف الصائغ شيء من هذا ـ فان سفر بين الينابيع ، توغل فيه ، وستبدو أغلب محاور الصراع وكأنها تكرار لبعضها ، تكرار حالات ، وتكرار مواقف ، وصور غالبا ما تتغير عباراتها وتراكيبها ، ولكنها تظل تحمل المعاني والدلالات نفسها ، وربما كان هذا سببا في تضخم حجم القصيدة وكان باستطاعة الشاعر لو تمهل وتأنى قليلا لحذف العديد من المتكررات ولجاءت القصيدة أكثر احكاما وتكثيفا وتتميز : سفر بين الينابيع ، بل ومعظم شعر خالد علي مصطفى تقريبا بهذا الغموض، مما حدا بالدكتور علي عباس علوان لأن يجار حيرة شديدة أمام هذا الغموض الكثيف : (35) حين كتب عن القصيدة ، وليس غموض الشعر هنا متأتيا من غياب الوضوح الذهني لما يريد الشاعر قوله ، فمعطيات شعر خالد على مصطفى تؤكد وعيه الشديد ومعرفته التامة بموضوعاته، وقدرته على رصد أفكاره وتجميع تجاربه في نسيج شعري وانما هو لسببين متصلين، الأول ان المفردة لديه مشحونة بالظلال وذات دلالات مجازية أو رمزية في الغالب يضيفها الشاعر على
95
كلماته بيتا بعد بيت مما يجعل متابعة المعاني بشكل واضح عملية صعبة ولذا فلن تكون تلك الرموز بالنسبة لنا الا منابع ايحاء كما يقول تندال (36) بينما هي لدى الشاعر أدوات تعبير أساسية ، ولنتأمل على سبيل المثال قوله عشية اندلاع الرمل في المزمار فهذه العبارة تبدو غائمة لو أننا أنسقنا مع الدلالات الحقيقة للألفاظ ، ولكنها كايحاء ستكون تصويرا للاختناق والمرارة ، حيث يتكدس التراب في المزمار مانعا المرء عن الغناء ، أو الكلام ، كما ان قوله فتح البحر سبيلا لا يكون ذا قيمة ما لم ندرك ان البحر هو « الوطن » فلسطين أو الثورة ، كما ان قوله أي الوجوه أوصدت أعنة السواقي وارتضت الرمل بديلا ؟ أي صوت ورث الأشباح(37) يضطرنا لأن نفهم السواقي على أنها الطرق المؤدية الى البحر فلسطين وان الرمل هو اليباب والجدب أو الخيبة والصمت ، وأن الأشباح ما هي الا رموز للموت أو الخرافة أو البالي من الأفكار هكذا تكون كل تعبيرات خالد علي مصطفى رمزية ومجازية توحي بالدلالات وتو ميء اليها من بعيد ولا تشير بوضوح الى الأفكار وثاني السببين هو ان الشاعر سيشكل من هذه الكلمات والجمل صورا متلاحقة تمسك الواحدة بالأخرى في نسيج تصويري غريب ، وأظن أن ليس بين الشعراء العراقيين من يضاهي خالدا في ولعه بخلق الصور كما أن ليس في قصيدته التي بلغت أربعا وثمانين صفحة الا بضع عبارات تنأى عن التصوير أو الاستخدام المجازي منها لست ابنا لكم فاذا كانت المفردة عنده مجازية دائما أو رمزية
96
فكيف ستكون تلك الصور التي هي مجموعة كلمات ؟ انها وبلا شك ستأتي لغزية – صح التعبير - وستقدم لنا ايحاءات لا غير ولا بأس أن نقرأ شيئا منها هلم يا رفيقي كل المفاتيح التي تركتها أثارت في المياه مذبحة وعندما التقى صهيل النار بالأعشاب أرسلت الطريق من يحتطب الفيء الذي أسفر عنه الباب فارتعدت فرائص الرياح أنشبت جذورها في جمرة المياه أجنحه كيف استطاع الليل أن يمتص شاطيء الوجوه ؟ أن يستقبل النهار في عرينه المسقوف بالدمن حين تبارت جمرة المياه والزمن في دارنا(38)أو رفع البرق سيفا من تراب أضاء الجماجم ، عين سقط الليل فيها ، يد غادر الجمر أطرافها ، قدم طرد الدرب أشواطه . وضلوع هربت ساعة العشق عنها - كلها التمت الآن ، وجها غريبا لطفل بلا أبوين . صهرته البروق باثدائها ، البسته شارة من وشاح الضحايا وأعطته نارا فتقدم صوب الينابيع مبتهجا(39)
97
هذان نموذجان لتركيب الصور الذي يميز سفر بين الينابيع ويغلفها بغلاف الغموض والصعوبة التي تتعب القارئ وتجعله يحار في تلمس المعاني الواضحة ولا أظن أن هذا النمط من الصور يستطيع أن يخدم القصيدة ، ويسمو بها ، بل قد يسيء اليها ويقتل احساس القارئ بحيرة الشاعر وقيمة موضوعه ويضيع عليه قدرته على مشاركة الفنان أزمته وصراعه واحتدام مأساته ، كما انه يبدو متكلفا منحوتا ، ومصنوعا بالكد والجهد الشديد ، وربما تتبادر إلى أذهاننا ان الصور المستمرة على هذه الشاكلة من الانغلاق ليست الا موقفا متطرفا من الشاعر ازاء ما يسمى بالوضوح والسهولة في الشعر وقد لا نكون مغالين اذ نحن قلنا ان تلك الصور - وبعضها على درجة عالية من الاتقان والجمال - ما هي الاستار منسوج بذكاء لاخفاء بساطة الأفكار التي وراءها ولا شك أن القصيدة لو جردت من هذا الرداء التصويري لبدت عادية الرؤى وخلوا من الأفكار العظيمة أو العميقة ولصارت امتدادا للعديد من المألوف في موضوعات الشعر العراقي الحديث الذي يستلهم محنة الانسان العربي المعاصر ازاء قضاياه الكبيرة كالحرية والثورة وفلسطين ونضيف الى هذا كله اننا ازاء قصيدة طويلة ، ذات حدث وأشخاص ومواقف يطمح القارئ الى تبين دلالاتها فاذا استمرت القصيدة على انغلاقها بسبب هذا الأداء المجازي المستمر ضاعت بالتالي القيمة الموضوعية التي يريد الشاعر كشفها أو التي يحرص القارئ على تلمسها وليس ثمة قصيدة تقرب من سفر بين الينابيع في غياب الوضوح غير قصيدة بلند الحيدري الطويلة ( حوار عبر الابعاد الثلاثة ) (40) ولكن غياب الوضوح هنا لا يبلغ . حد التعقيد المستعصي على الفهم ولا يتأتى هذا من غرابة الصور أو التواء التركيب اللغوي ولا من الدلالات الرمزية والمجازية الدائمة كما هي عند خالد علي مصطفى اذ أن شعر بلند الحيدري عموما لا ينحو هذا المنحى وان لم يخل منه أحيانا وانما يجيء الغموض في حوار عبر الأبعاد عن طريق الرؤى
98
و الأفكار الفلسفية وتشابكها واستلهام المواقف الرمزية المتضادة التي تحيط بالانسان معاصر والمحاصر بالموروث المتخلف من التقاليد والقوانين والأنظمة ، وبهذا فان قصيدة بلند الحيدري لا تنأى عن مجمل الموضوعات التي قدمتها القصيدة العراقية طويلة وأعني بها الاهتمام بقضايا الثورة ورؤية الانسان العربي ثائرا طامحا للتغيير انها تنتمي الى تلك الأفكار الثورية دون أن تكون تكرارا لها ، فهي تتبنى الثورة كمفهوم مطلق دون أن تخوض في جزئيات الفعل الثوري وممارساته لمألوفة ، أو ملامحه ونتائجه كما يطرحها الشعر العراقي في القصائد التي مرت بنا ، ذلك ان مفهوم الثورة في قصيدة بلند الحيدري هذه هو التجاوز الدائم للقديم والبالي من الاعتقادات التي تحكم المجتمع والتطلع الحقيقي الى حياة انسانية مشرقة جديدة ولعل ادراك هذه الصفة هو ما يميز قصيدة بلند الحيدري عن جملة القصائد الطويلة التي كان موضوع الثورة العربية ميدانها وفكرة حوار عبر الابعاد الأولى هي قتل الأب » ولقد صدر الشاعر قصيدته بعبارة « دستييفسكي » الشهيرة التي وردت في روايته « الجريمة والعقاب » حذار فان قتل الأب أكبر جريمة في التاريخ ومن يتفحص القصيدة جيدا سيجد أن الفكرة بهذا المعنى الضيق تبدو غائمة ، ان لم تكن غير موجودة أصلا ، وستحل محلها فكرة أخرى تستند اليها ، وهي أن قتل الأب انما يعني محاولة الانتصار عليه وتخطيه وتجاوزه ، باعتبار ان الصراع الدائب بين الآباء والأبناء يحمل دائما خصائص التطلع نحو الجديد والايجابي ، بديلا عن القديم الذي غالبا ما يراه الأبناء سلبيا ومتخلفا يؤدي بلند الحيدري فكرة الصراع بين البطل والآخرين ، من خلال مجموعة من الأصوات المتضادة ، وتبدأ بصوت الشخص الأول أنا هنا أموت من سنين أزحف من سنين خيطا من الدماء بين الجرح والسكين(41)
99
وكلمات بطل القصيدة توحي بأنه في سجن أو محكمة ، أما الصوت الآخر ، صوت اللامبالاة ، فيرد كاجابة على لسان مجموعة أخرى- نم أيها المجنون نريد أن ننام(42) ومن يتابع كلمات هذين الصوتين ، سيدرك أن المحاكمة لما تأت بعد وان القاعة ما هي الا الحياة كلها التي أصبحت سجنا وان هؤلاء الذين يتهمون البطل بالجنون هم صورة أخرى له انهم سجناء مثله غير أنهم لا يمتلكون قدرته على الفعل وربما يتحولون الى شهود ضده -ويجيء الصوت الثالث الذي هو صوت الشاعر الرافض ، والمعلق على المأساة من خلال وصف قاعة المحكمة ، الزائفة ، والمتخلفة القاعة ذات القاعة بكراسيها ، وبصوت مناديها بعيون كلاب الصيد المغروزة في لحم أضاحيها صه لا تحك واللوحة ما زالت منذ العهد التركي العدل أساس الملك صه ، لا تحك ماذا ؟ العدل أساس الملك كذب كذب كذب الملك أساس العدل ان تملك سكينا ، تملك حقك في قتلي(43)
100
والواقع أن صوت الشاعر سيتوزع بين ثنايا الأحداث دون أن يخصص له المؤلف مقاطع مميزة وخاصة وما دام هذا الصوت دفاعا وانتصارا للبطل فانه كثيرا ما يختلط بصوته ويتحد معه في مشهد المحاكمة يقترب الحدث من نهايته المبيتة ، ويسأل قضاة المحكمة الحاضرين ماذا قلتم فيجيبون بطريقة تذكرنا بشهود مسرح صلاح عبد الصبور الذين أطلق عليهم صفة ظرفاء العصر وأوباشه (44) قائلين فليعدم يعدم باسم الرب وباسم الشعب وباسم القانون ولعل أهم عناصر الصراع في قصيدة بلند الدرامية هذه تتضح - اضافة الى ما تقدمه الأصوات الثلاثة - من خلال كورسين متضادي الموقف باستمرار الأول هو كورس النساء الذي يرمز الى الحياة المتجددة والفكر المعاصر الذي يقف الى جانب البطل أو هو صوت الأم الملتصق بولدها يحتضنه أبدا ويدفع عنه یارب لقد أسقطه حقدهم في الغربة هجرته مسافاتهم ، سحبوا أرضهم من بين خطاه فكان انت وكنت القاتل والمقتول به والثاني هو كورس الرجال الذي يحاصر البطل بما فيه من تقاليد بائدة وهو صوت من يتشهى مصرعه ويطالب بذبحه واراقة دمه ربنا ربنا باركهم في القتل يا رب قتل الأب أكبر من كل خطاياهم ماذا يبقى من اسمك ان ثار الأبناء على الآباء ان كنت ستعفو فلماذا أوجدت الذنب(45)
101
وأخيرا تنتصر القيم السائدة ، فأوباش العصر وكورس الرجال ، ولجان المحكمة تقرر أن يعدم الابن ، ويفهمونه طريق قتله تحرق في مفارق الطرق ولن تكون شارة القرية أو مرتجى مدينة ولن تكون ملتقى دروبنا(46)ويتم الصلب ، وتحدث في النهاية المفاجأة ، اذ يعلن الكورس المشترك من الرجال والنساء بأنهم شاهدوا شيئا لم يفهموه ، فلقد أبصروا وجه امرأة محفورا في جبل قرب المفرق الذي صلب فيه الابن واحرق ، ورأوا في عيني تلك المرأة نبعى ماء ، ورأوا الجسد العاري ، رغم الصقر الجائع والريح والليل الداجي رغم المسمار ورغم النار ، يتحول أرضا خضراء كما انهم سمعوا صوت المرأة « الأم أو الحياة » يقول ابني لم يشنق ، ابني ما مات وهكذا تنتهي قصيدة بلند الحيدري بانتصار الانسان الجديد وبعثه لخلق حياة تطمح الى الكمال والى دفن التقاليد المتخلفة ، وشهود الزيف والقوانين القاسية التي تحاصر الفرد المتطلع الى النقاء ، وتفرح بمراه مراق الدم مذبوحا ان القصيدة «حوار عبر الأبعاد الثلاثة » لهي من النماذج الرفيعة في الشعر العراقي والعربي الحديث ، وتبدو متفردة عن القصائد الغنائية التي تتعمق وتتغلغل فيها معطيات الفن الدرامي بأجلى صوره ، فابتعاد الشاعر عن صوته الخاص الصارخ الى خلق الموضوع والحدث المتطور الذي يكتمل من خلال الصراع والتضاد والحركة الدائمة التي تضج بها القصيدة ، هذا الابتعاد عن الغنائية لهو احدى الالتفاتات الفنية القديرة التي يتميز بها عمل بلند الحيدري هذا ، واذا كنا لم نقل ان حوار عبر الأبعاد تكوين مسرحي ، فانها لتقترب جدا من هذا ، ذلك ان صناعة الحوار الرصين الملتحم بالحدث الذي ينمو بدقة لتصوير ملامح الأزمة والأشخاص
102
وخلق الجوقتين الأساسيتين اللتين تحملنا عبء النهوض بمهمات الصراع الفكري هو من الأمور المميزة للبناء المسرحي ومن الضروريات التي ينبغي أن تتوافر لأي عمل شعري يراد له الاقتراب من الفن الدرامي الأصيل
(3)
ويخطو الشاعر خطوات جديدة لاثراء قصيدته الغنائية بمعطيات فن المسرح ، ويهتدي الى ما أطلق عليه الشعراء والنقاد معا «قصيدة القناع » التي هي « وجود مستقل للقصيدة عن الشاعر يتخلص به من مشكلة الذاتية في التعبير (47) ، كما يقول عبد الوهاب البياتي وتنتمي قصيدة القناع الى الآداء الدرامي ذلك أن الشاعر فيها يستطيع أن يقول كل شيء دون أن يعتمد شخصه أو صوته الذاتي بشكل مباشر لأنه سيلجأ الى شخصية أخرى يتقمصها أو يتحد بها ، أو يخلقها خلقا جديدا وسيحملها اراءه ومواقفه ، تماما كما يفعل المسرحي الذي يختفي وراء أشخاص من صنعه ، يتولون نقل كافة ما يريد أن يقوله أو يوحي به واذا كانت قصيدة القناع افادة من بعض فن الدراما فان الشخصية في هذا النمط من القصائد ، ليست شخصية مسرحية متكاملة ولم يرد لها أن تكون كذلك ، ولعل الفارق المهم بين هذين النمطين من الشخصيات الفنية ، هو أن الشخصية المسرحية مستقلة عن المؤلف ، أي أن لها مواقفها المتفردة، التي لا تطابق مواقف كاتبها بالضرورة ، لأن تصرف الشخصية المسرحية وأقوالها انما تنبع من ظروفها الخاصة داخل الحدث المسرحي ، وربما يقال ان المؤلف المسرحي يطل علينا أحيانا من خلال بعض الشخصيات التي تبدو قريبة منه ، حاملة شيئا من أفكاره ، الا أن الغالب في أشخاص المسرح هو انهم ذوو وجود متكامل ومستقل عن المؤلف . أما الشخصية التي تخلق في قصيدة القناع فانها غير مستقلة عن الشاعر المعاصر لأنها - بتعبير لاخر - اتحاد الشاعر برمزه اتحادا تاما، ولذا ينبغي أن تتوفر في القناع تلك المواقف والخصائص التي تشبه الى حد بعيد مواقف الكاتب المعاصر ، وأفكاره ،
103
وأزماته .وعندها سيكون شخصا القصيدة الشاعر وقناعه شيئا واحدا انهما بمثابة
لن أكون حتى تكون أنت أنا (48) ولقد أتاحت فكرة القناع للشاعر المعاصر أن يغوص في التاريخ ، ويستلهم الأحداث الايجابية فيه ، وينتقي من خلال مواقف الأفراد الفاعلين والمؤثرين في الماضي ، ما يلائم مواقفه المعاصرة ، مما يكسب قصيدته أبعادا شمولية ورحابة انسانية عامة ، ويرى البياتي ان اعتماد أبطال التاريخ كأقنعة شعرية هو العملية الحقيقية المقصودة باحياء التراث (49) بمعنى الجانب المضيء والانساني فيه ، والقادر على منح حياتنا نسغا جديدا وتطويرا مستمرا ، فالعودة الى الماضي بهذا المعنى ليست ردة أو انكفاءة في مسيرة الحياة ، بل هي كما يقول بورا تعبير آخر عن الاهتمام بها ، وطريق أخرى لرؤية القضايا الدائمة بكل أبعادها وأهميتها (50) ويلاحظ قارئ أهم قصائد الأقنعة كما هي عند أدونيس والبياتي وعبد الصبور أنها تتجه دائما الى شخص فاعل في التاريخ، أو شخص متفرد ذي قيمة ايجابية ، ولسنا ندري لم تقتصر مثل هذه القصائد على أفراد تأريخيين ، وتنسحب عن الأفراد المعاصرين والمؤثرين أيضا ، ولا شك أن في حياتنا المعاصرة نماذج انسانية استطاعت أن تكتسب بفعلها الانساني الخلود ، وشيئا من هيبة التاريخ وقدسيته ، وهم بالتالي يصلحون لأن يكونوا أبطالا لقصائد شعرية ، أو أقنعة للشاعر ، فلماذا يعزف الشاعر المعاصر عنهم أ لأن التاريخ يقدم للشاعر مادة متكاملة مرت عليها العصور وتكاملت واتفقت عليها وجهات النظر ، واذا صح هذا أيمكن أن نعتبر توجه الشاعر الى التاريخ وانتقاء شخص منه تعبيرا عن القصور وعدم استطاعة الشاعر لأن يخلق موضوعه ويبتكره من خلال شخصية معاصرة ألأن التاريخ يقدم له المادة الأولية . أي الحدث والشخصية والموقف أم ماذا ؟
104
واذا كان البياتي أحد الشعراء الذين كرسوا هذا النمط من القصائد فانه يخبرنا قائلا انني لم أكتشف القناع أو اخترعه ذلك أن كثيرا من الشعراء في الشعر العربي الحديث استخدموا القناع (51) وهو وان تحدث عن قصيدة الصقر (52) لأدونيس معتبرا قناع عبد الرحمن الداخل غير مبرر والقصيدة تجربة ذاتية وليست موضوعية ، فانه لم يشر اطلاقا الى قصائد صلاح عبد الصبور التي استخدم فيها الأقنعة كقصيدتيه مذكرات الصوفي بشر الحافي » و « مذكرات الملك عجيب بن الخصيب (53) وهما من القصائد العربية المهمة ، والمبكرة في هذا المجال ولعل قصيدتي بدر شاكر السياب تموز جيكور و«المسيح بعد الصلب » (54) هما البدايات الناضجة الأولى ، والمميزة أيضا ، لفكرة القصيدة القناع ، ففيهما يتوحد الشاعر مع رمزه، وسيقول كل شيء من خلاله ويكتشف فيه القدرة التامة على المشاركة وتحمل المواقف المعاصرة ، جاعلا من أسطورة موت تموز الاله البابلي وبعثه قضية معاصرة يموت من خلالها الشاعر وقريته جيكور ثم يبعثان وينبغي أن لا تفهم تجربة السياب في تموز جيكور على أنها تجربة ذاتية بحتة وضيقة ، تعنيه وحده وتفصح عن مشكلته ، وانما هي تجربة ذات أبعاد موضوعية . فالشاعر هنا ليس السياب ذاته وانما هو المواطن المضطهد الكامن في شخص الفنان ، كما أن جيكور ليست القرية الجنوبية التي تستلقي تحت ظلال سعف نخيل البصرة وحسب، بل هي البصرة والعراق كله والواقع العربي الذي يعاني من الاختناق وفي قصيدته « المسيح بعد الصلب » يتنبه الشاعر الى معاني التضحية والفداء
التي يشارك فيها السيد المسيح ويتعمقه رمزا ويتحد به ويطرح محنته من خلال شخصه وصوته بعدما أنزلوني سمعت الرياح في نواح طويل تسف النخيل والخطى وهي تنأى اذن فالجراح والصليب الذي سمروني عليه طوال الاصيل لم تمتنى مت كي يؤكل الخبز باسمي ، لكي يزرعوني مع الموسم كم حياة سأحيا ففي كل حفره صرت مستقبلا صرت بذرة صرت جيلا من الناس في كل قلب دمى قطرة منه أو بعض قطرة هكذا عدت فاصفر لما رآني يهوذا فقد كنت سره وبصدور مجموعة البياتي سفر الفقر والثورة تبدأ مسيرة الشاعر مع الأقنعة وتنمو وتتطور عبر مجاميعه الشعرية الأخرى لتصير منهجا شعريا مميزا ، كما أن فكرة القناع لم تعد عنده عملية احياء للتراث فقط وانما غدت حلولا في التاريخ وجزءا من سفره الدائم في مدن العالم الجديد والقديم، بحثا عن الحرية والحب والخلاص والمدينة الفاضلة هنا يغدو الماضي كما يقول ستيفن سبندر « بمثابة نهر هائل يروي الحياة كلها » ويحمل الينا وجوه الخيام والحلاج والمعرى والمسيح وسقراط وعائشة وعشتار لارا واوفيليا الفرات والنيل بابل ونينوى واور ونیسابور ان قصيدة موت المتنبي (55) يمكن أن تعد البداية في توجه الشاعر الى أشخاص التاريخ ، وجعلهم أبطالا لقصائده ومع أن القصيدة تفيد بشكل أو بآخر من انجازات الفن الدرامي كبلورة المواقف المتصارعة والمتضادة وتشابك
106
الأصوات الشعرية وتعددها والاهتمام بنمو الحدث وتطوره الا أنها تظل بعيدة عن فكرة القصيدة القناع ، وذلك لغياب صوت المتنبي غيابا يوشك أن يكون تاما ، وعلو نبرة صوت الشاعر المعاصر التي جاءت في أغلب المقاطع تعبيرا عن أفكار البياتي التي تكررت في العديد من قصائده أي أنها ليست الأفكار والمواقف التي يمكن أن تكون نتاجا للبطل ضمن ظروفه التاريخية ومواقفه في الماضي ويبدو قول الشاعر عن قصيدته هذه صورت فيها قصة حياته - المتنبي - الفاجعة ، بطريقة درامية وتأثرية (56) غريبا فالقصيدة تخلو من ملامح قصصية أو قصة حياة واذا كان الشاعر قد لامس حدود القصة حين أشار الى بعض الأحداث التاريخية أنا شججت جبهة الشاعر بالدواة کافور كان سيد الخليقة(57) فانه لم يقدم لنا قصة حياة فاجعة وانما مجموعة من اللوحات المتداخلة التي تشكل في النهاية صورة انطباعية عامة للحدث ، محنة الشاعر كفكرة مطلقة وليس المتنبي ذاته - الثائر وحصاره في المدن الملعونة التي تعج بالجلادين والعبيد و ماسحو أحذية الخليفة السكران (58) وجدير بنا في هذا الموضع من البحث أن نتلمس الفارق بين ما هو قصيدة قناع وبين أية قصيدة أخرى تلجأ الى توظيف الشخصية التاريخية أو تتحدث عن سيرة بطل تاريخي ، أو شخصية من الماضي فاعلة ومهمة ومؤثرة أما توظيف الشخصية التاريخية في القصيدة ، فقد يجيء رمزا مثيرا للدلالات في الأفكار والمواقف ، تنسحب من الماضي لتلامس الواقع المعاصر وهذا الرمز قد لا يكون عاما ومنتشرا في القصيدة كلها ، أو متحولا الى نسيج شعري متكامل يغطي عمل الأدبي كله ، فهو اشارة عابرة تهدف الى اضاءة موقف أو جزء ما من لقصيدة وليس القصيدة كلها ويجمع هذه الشخصية التاريخية الموظفة ، ببطل السيرة ، حين تكون القصيدة سيرة لبطل تاريخي جامع مهم هو انهما وجود خارج ذات الشاعر أي أنهما منفصلتان عنه ، ومستقلتان أما الشخصية في قصيدة القناع فهي رمز الشاعر المتحد به ، البطل هو الشاعر والشاعر هو البطل وليس ثمة انفصال ولا وجود لأي منهما بمعزل عن الآخر ولقد مر بنا قول البياتي من أن الشاعر وقناعه بمثابة لن أكون حتى تكون أنت أنا ويقودنا الوجود المنفصل والمستقل للشخصية الموظفة ولبطل السيرة عن ذات الشاعر الى تلمس فارق مهم آخر أيضا يكمن في طريقة الأداء اللغوي في القصيدتين ، ففي قصائد السيرة يكون الشاعر هو المتحدث عن بطله ، يصفه ويشير اليه ويشرح أفعاله أما في قصيدة القناع فان صوت الشاعر يذوب في صوت الشخصية - البطل - كما يتحول صوت القناع - هو الآخر ـ الى صوت الشاعر المعاصر فهما مثلما اتحدا موقفا يتحدان لغة ، ولعله من عيوب بعض قصائد القناع أن يعلو صوت الشاعر على صوت بطله ، قناعه ، لأن القناع في مثل هذه الحالة يصير ثانويا وتابعا وشيئا واقعا في الظل من الحدث ، وليس هو الحدث نفسه ، ونضيف الى كل ما تقدم هو أن ما يميز قصيدة القناع عن مثل تلك القصائد انها تخلو من عناصر الحكاية أو تقديم الحدث أو الرمز بشكل قصصي وأول قصيدة قناع : ناضجة هي عذاب الحلاج التي اختار فيها البياتي صوت الحسين بن منصور الشاعر والصوفي المصلوب الذي اتهم مرة بالزندقة ومرة أخرى بأنه نزاع الى الثورة (59) ليعبر من خلال أزمة الحلاج في الماضي عن أزمته ومواقفه هو في الزمن الحاضر ولا شك أن بين البياتي وقناعه أكثر من صلة فقد كان الحلاج شاعرا ومفكرا وهكذا هو البياتي وتغرب الحلاج في بيئته كثيرا وحورب وطورد ولم يسلم البياتي من شيء كهذا والحلاج ثوري النزعة وكان يبث كلماته بين الناس عن الحق والعدل والسلطان الجائر وهذه صفة أخرى يلتقي فيها الشاعر المعاصر بالشاعر القديم واذا كان الحلاج ضحية عصر قاس ملتاث وضنين كما يقول صلاح عبد الصبور في مسرحيته مأساة الحلاج (60) فلاشك أن البياتي عاش محنا ورأى أياما صعبة ولهذه الأسباب كلها تكون عملية الالتقاء الفني والتوحد الفكري ممكنة بل طبيعة في القصيدة صوتان غير منفصلين مع أن أحدهما أساسي والآخر ثانوي والأساسي هو صوت الحلاج أما الثانوي فيبدو لنا مدخلا للشخصية الأولى لا غير وهو حيلة فنية ابتكرها البياتي ليدلف من خلالها الى بطله ولكي لا تكون لهجة واضحة فقد اختار لهذا الصوت صفة المريد والواقع ان المريد هنا ليس الشاعر المعاصر نفسه طرقت بابي بعد أن نام المغني بعد أن تحطم القيثار من أي لي ؟ وأنت في الحضرة تستجلي وأين انتهى موعدنا الحشر من أين لي ونارهم في بد الصحراء تراقصت وانطفأت وها أنا أراك في ضراعة البكاء(61) وحين نطمئن الى أن صوت المريد الذي يبوح بأحزانه وحيرته هو حالة المعاصر وصوته أيضا فان البياتي لجأ في هذا المقطع الى لغة عمادها الوصف خطاب لشخصية البطل وهاتان الصفتان من الأداء اللغوي تضعان الشاعر في موقف المشارك لبطله وليس المتحد به أي أن البياتي وقع في مأزق الشخصية القناع واستقلالها عن ذاته
109
أما المقطع الثاني فهو البداية الحقيقية للقصيدة انه صوت البطل وبوحه عن مشكلته هنا يضعنا البياتي أمام بداية الأزمة ، ومفتتح رحلة العذاب ما أوحش الليل اذا ما انطفأ المصباح وأكلت خبز الجياع الكادحين زمر الذئاب وخربت حديقة الصباح السحب السوداء والأمطار والرياح (62)هذه الكلمات تشير الى قدرة البياتي على التقاط الضوء المشع من الماضي أو الخيوط الأساسية التي . ستلف القناع وصانعه برداء واحد ، وكانت وسيلة الشاعر الى هذا تلك العبارة المكثفة والمليئة بالدلالة والمعنى وأكلت خبز الجياع الكادحين زمر الذئاب لقد اختار البياتي من صفات الحلاج ، اذن ، الصفة الأكثر قدرة على الحياة والخلود تلك هي الثورة ورفض الواقع غير السوي ، أي أنه نقي شخصية بطله من كل ما نسج عنها من خرافات وأساطير شعبية وأفعال ، واكتفى بالفكرة التي تضيء موقف الشاعر المعاصر ، انها فكرة ماسينيون عن الحلاج كان نزاعا الى الثورة والواقع ان مقطع البياتي المتقدم لا يقدم لنا من الموقف الثوري الا النزوع اليه أي أنه بداية الفعل وليس الفعل ذاته غير أن هذا النزوع الى الثورة الذي ترافقه حيرة الشاعر وقناعه سيقود الى احتدام الصراع الداخلي عند البياتي وبطله من أجل الوصول الى المرحلة الحاسمة وهي « ماذا أفعل » ازاء هذا الواقع المخرب وخربت حديقة الصباح السحب السوداء والأمطار والرياح » ثم أين سأكون ؟ ويعلن الحلاج الفقراء منحوني هذه الأسمال وعلموني هذه الأقوال
110
والعبارة هي بدء الاختيار والانتماء الى الناس الفقراء وهي بدء القدرة على الفعل أيضا ، أو القول من أجل التغيير، لقد اختار الحلاج الكلمة ، ورضي بها البياتي كذلك ، أداة فاعلة مغيرة ويهرع البطل الى « الحق » وهنا يمزج البياتي بين الرؤية الواقعية والوجدان الصوفي (63) يا مسكري بحبه محيري بقربه فمد لي يديك عبر سنوات الموت والحصار والصمت والبحث عن الجذور والآبار (64) ولا شك أن هذه الأبيات هي استغاثة البياتي وصرخته الدامية ، وبحثه عن خلاص من سنى النفي والحصار ، بقدر ما هي صرخة الحلاج في الماضي وينمو الحدث في القصيدة بشكل يقرب من نمو حياة الحلاج ، وحياة البياتي ايضا ، ونصل الى المحاكمة التي هي الجزء الرابع من « عذاب الحلاج » وفي هذا جزء يتحدد موقف البطل ،وتنحل تلك الثنائية والحيرة الداخلية والصراع بين نذات والآخرين ، ويختفي ذلك التساؤل ، ماذا أفعل ، وهنا يقول البطل معلنا بحت بكلمتين للسلطان قلت له جبان ويصلب ويتحول الى بطل أسطوري ، وقديس ، حمل عبء المعاناة والعذاب في عصر قاس اندفع فيه الأوباش والقضاة والسياف لاحراقه ، وينهي الشاعر قصيدته بالمقطع « رماد في الريح » اذ ينثر رماد أوصال البطل بعد أن احترقت فيصير رمزا للثورة المحبطة ، وتكمن فيه امكانات البعث والعودة عن طريق الحلول في لأشياء هذه الفكرة التي سترافق معظم أعمال البياتي القادمة أوصال جسمي أصبحت سماد في غابة الرماد ستكبر الغابة يا معانقي
111
وعاشقي ستكبر الأشجار (65)
في قصيدة ثانية يتخذ البياتي من أبي العلاء المعري قناعا ، وبطلا لقصيدته محنة أبي العلاء ولنا هنا أن نلاحظ أن أغلب أقنعة البياتي من الشعراء بخلاف أدونيس في قناعه عبد الرحمن الداخل وصلاح عبد الصبور « بشر الحافي الصوفي » و « مذكرات الملك عجيب بن الخصيب »ولم يفلح البياتي تماما هذه المرة في صنع قناعه كما أفلح من قبل وظل صوته يعلو على صوت بطله ، الى الحد الذي صار فيه أبو العلاء ثانويا ، والبياتي وصوت آخر هو « غاليليو » شخصين أساسيين ، وبدا أبو العلاء مجبرا على أن ينطق بما لم يكن مهيئا له أو قادرا عليه في حدوده التاريخية وتكوينه المعروف ، هذا اذا اعتبرنا القصيدة عن «محنة أبي العلاء » وما كذلك هي وأغلب الظن أن هذا النقص الذي منع القناع من أن يكون تلبسا أو اتحادا تاما بالشاعر الحديث هو غياب أوجه اللقاء المهمة التي ينبغي أن : توجد بين الشاعر وقناعه ، فاذا كان الحلاج قريبا جدا من البياتي أو أنه استطاع أن يخلق فينا القناعة بهذا التقارب ، بحيث بدا البياتي حلاجا معاصرا فانه لم يستطع اقناعنا بالتوحد التام مع أبي العلاء ، لأنه التقاه من خلال حالات معدودة محددة ، وأهمها غربته في بغداد ، وتوقه الى معرة النعمان التي وجدها خرابا حين عاد اليها وواضح أ أن نقطة المشاركة هذه بين الشاعر وأبي العلاء لا يمكن أن تخلق قناعا متكاملا يختص بالمعري وحده ، كما انها لم تتعمق فتكتسب أبعادا موضوعية أخرى تؤدي لأن تكون الحالتان - الماضي والحاضر - حالة واحدة ولسنا ندري كيف غاب عن ذهن البياتي المتقد أن تكون قصيدته هذه عن محنة غاليليو بديلا عن محنة أبي العلاء ، لأن اللقاء بينه وبين غاليليو أكثر احكاما مما هو بينه وبين الشاعر القديم، وغاليليو قناع درامي من الطراز الأسمى بين رجال العصر الحديث الذين اكتسبوا شيئا من جلال الماضي، وهيبة التاريخ ، وكمال الفعل الانساني الأكثر نبلا ان اللحظة التي وقف فيها غاليليو أمام قضاة عصر النهضة لحظة وأجبر فيها على أن يقول ان الأرض لا تدور حفاظا على دمه من الهدر لهي درامية هائلة ، وصراع نفسي دام ومرير قاده لأن يعلن في اللحظة ذاتها وبعد خروجه من باب المحكمة مباشرة كلمة الانسان الحديث والثائر الحقيقي ولكن الأرض تدور لقد صدر البياتي قصيدته بكلمة غاليليو الشهيرة وجاء المقطع العاشر منها بعنوان « ولكن الأرض تدور » تكريسا وتأكيدا لها لأن فكرة الأرض تدور فكرة ثورية وتقدمية والنطق بها يكون ملائمها للبياتي أكثر من ملاءمته لأبي العلاء ، والقصيدة بعد هذا مبنية على هذه الفكرة دون غيرها وحين نقرأ القصيدة سيتبين لنا ب صوت غاليليو أكثر وضوحا من صوت أبي العلاء الذي جاء باهتا وواهيا ، أو أنها يتقاسمها صوتان أساسيان هما صوت البياتي وغاليليو ، وصوت ثالث خافت تبدأ القصيدة بالمقطع فارس النحاس الذي هو تصوير لخواء المدينة ووحشتها ، وضياع أهلها لمن تغني هذه الجنادب ؟ لمن تضيء هذه الكواكب ؟ لمن تدق هذه الأجراس ؟ وأين يمضي الناس ؟ هذا بلا أمس ، وهذا غده قيثارة خرساء داعبها فانقطعت أوتارها ولاذ بالصهباء وذا بلا وجه بلا مدينة بلا قناع وذا بلا شراع
(66) وهذه الأبيات هي مجموعة من تأملات الشاعر الفكرية العامة ، يؤكد من خلالها خراب المدينة ، وحيرة ساكنيها ، ويبدو صعبا جدا أن ترتبط بأبي العلاء دون غيره ، لأنها أفكار البياتي التي رأينا لها مثيلا فيما مضى من شعره غير أن هذا المقطع
113
ينتهي بإشارة الى أبي العلاء ثلاثة منها أطل في غد عليك مقبلا يديك لزوم بيتي وعمادي واشتعال الروح في الجسد (67) وليس خطأ أن نقول مادمنا افترضنا الوجود غير المباشر لغاليليو ان هذه الكلمات اشتعال الروح في الجسد وقبلها ثقل غياب الكلمات وعذاب الصمت والبكاء تحمل الاشارة الى موقف غاليليو أمام قضاته بقدر ما تشير الى تشخيص جزء عابر من سيرة أبي العلاء أما المقطع الثاني العباءة والخنجر الذي يبدأ بقوله شربت من خمر الأمير ورأيت في نهار ليله النجوم أكلت من طعامه المسموم والمقطع الثالث المغني والأمير كان على الحصيرة ممددا مناجيا أميره يا قمر الزمان والمقطع الرابع سقط الزند مجلسه كان يعج بدواب الأرض والهوام من كل صعلوك شويعر دعي داعر نمام كانوا اذا ما أنشدوا أشعارهم ينام(68) هذه المقاطع كلها تبدو واهية العلاقة ببطل المعرى موقفا وسيرة لأنها مواقف البياتي نفسه ومضمونه الشعري الدائم وثورته التي لا تهدأ أمام السلاطين والجلادين والشعراء المنافقين والدجالين الذين يكيلون المدح المرائي للسلطان المتخم الغبي ولعل المقطع الثاني سيكون أشد التصاقا بغاليليو
114
من غيره حين اضطر لإعلان أن الأرض لا تدور فكان كمن يحابى ويجامل القضاة والسلاطين على حساب الحقيقة ويعيش مرارة المجاملة شربت من خمر الأمير أكلت من طعامه المسموم أصبحت في بلاطه حجر صفرا يدور آلة تدار يدي التي تحجرت وأصبحت من دون أدري الى الأمير خنجره وصوته - صوتي أنا الكسير(69)غير أن غاليليو لم يستكن ، ويرتض القناعة البائسة التي تفرح السلطان وتجعله هادئا رضيا بل انتفض وثار وقال كلمته واستعاد صوته يدي التي استرجعتها أمدها ، لتفتح الحياة في الجماد لتزرع الأوراد أمدها لأخوتي البشر(70) وحين يقول البياتي في المقطع الرابع كان زمانا داعرا يا سيدي ، كان بلا ضفاف الشعراء غرقوا فيه ، وما كانوا سوى خراف وكنت أنت بينهم عراف شاهد عصر ساده الظلام فاننا ندرك قسوة العصر الذي حاول اجبار غاليليو « العراف الأمثل » على التزييف ، وسنتلقى أولئك اللئام الذي وضعوه في خضم تلك المحنة ، أكثر مما نلتقي ابا العلاء أو القرن الرابع للهجرة أو علاقة الشاعر القديم بالدولة والسلطان والشعب
115
المقطعان « حسرة في بغداد » و « قمر المعرة هما الأقرب الى أبي العلاء الذي جاء الى بغداد فرأى ماء دجلة معتكرا وهما شوق البياتي الى وطنه وظلال نخيله وشوق أبي العلاء الى معرة النعمان التي لم تكن بأفضل حالا من بغداد أما المقطع الثامن « لتكن الحياة عادلة » والتاسع « الضفادع » فهما تأكيد آخر على صوت البياتي وأفكاره وغياب لصوت القناع ويأتي الجزء الأخير من القصيدة تكريسا واضحا لصوت غاليليو واشارة صريحة الي موقفه أمام قضاته اذا أردتم سادتي فالأرض لا تدور ولا يغطي نصفها الديجور(71) وتنتهي القصيدة، بانتصار الفكر الانساني الجديد فعصر كم مضى الى الأبد والأرض رغم حقدكم تدور واذا كان البياتي قد اختار » محنة أبي العلاء » عنوانا لقصيدته فمما لا شك فيه انه كان يزاوج في بنائها بين شخصيتين اضافة الى شخصيته هو الأولى أراد لها أن تكون واضحة وأساسية ولم يفلح في هذا والثانية غائبة ولكنها دائمة الوجود تطل علينا من خلال العمل الشعري كله وبدون الانتباه الى عملية المزاوجة هذه ستبدو القصيدة مفككة وان الالتفات الى هذه الناحية سيهدي الكثيرين من ا الى تبين ملامح جديدة في القصيدة وسيغنيهم عن التساؤل المستمر عما اذا كان قناع أبي العلاء قادرا على تحمل مواقف البياتي المعاصرة (72) كما انه سيقودهم الى ادراك جديد لبناء القصيدة وهندستها التي هي ليست عرض لوحات لا يؤدي كل
116
منها الى الآخر ولا يرتبط به ارتباطا ضروريا ) (73) أو أن الحدث فيها « يولد من نوع التتابع الكيفي » كما يقول صبري حافظ (74)بعد « سفر الفقر والثورة » الذي قرأنا فيه عذاب الحلاج « ومحنة أبي العلاء » تتعدد الأقنعة في شعر البياتي ، وتصير المادة الشعرية في كل ما يكتب وتأتي مجاميعه « الذي يأتي ولا يأتي » و « الموت في الحياة » و « الكتابة على الطين » تأكيدا هذه الظاهرة التي وجد فيها ضالته بعد لأي وبحث عن الأشكال الشعرية الجديدة واذ تتعدد الأقنعة ، وتصير منهجا شعريا عند البياتي ، فان من يتأملها كلها يجد أنها تتكرر من قصيدة الى أخرى فالشاعر قد اهتدى الى قناع جديد ذلك هو عمر الخيام في ديوانيه الذي يأتي » و « الموت في الحياة »واذا كان الخيام « قد قدم للبشرية المعرفة والحب والشعر يحارب ويحاكم ويتهم بالزندقة ويعيش منفيا مطرودا خارج أسوار نيسابور ويكون بالتالي وجها آخر للبياتي فهو أيضا طورد ونفي وعاش وراء أسوار مدينته رغم انه قدم للبشرية عطاءه كشاعر وانسان (75) اذا كان الخيام على هذه الصورة فأي فرق كبير بينه وبين القناع السابق الذي هو الحلاج ، مثلا ؟ ، وأية قضية موضوعية جديدة حاول البياتي أن يكتشفها في قناعه الجديد واذ تتكرر الأقنعة وتتوحد ، ويصير الحلاج هو المعرى ، والمعري خياما ، وتصير الموضوعات والأفكار المطروحة من خلال هذه الأقنعة واحدة ، فأين هو التفرد الشخصي والموضوعي الذي ينبغي أن يتوافر في كل قناع على حدة ؟ لأننا نعرف أن الحلاج ليس هو الخيام تماما ، ولا صورة دقيقة تمام الدقة من أبي العلاء وان هناك فروقا فردية بينهم ، في الأفعال والمواقف ، واذ يلغي الشاعر أو يحاول أن يغض الطرف عن ادراك مثل تلك الفروق ، ويجعل من أقنعته كلها شيئا واحدا فانه
117
يوحي للقارئ هنا بأنه يحاول أن يعمم أفكاره ويسقطها على الشخصية التاريخية أو أنه يود أن ينطق الشخصية التاريخية بما لم تنطق به أو لم تكن مهيأة ضمن حدودها التاريخية لان تنطق بمثل آراء الشاعر المعاصر حقا اننا قد نجد توافقا بين آراء ومواقف رجل في الماضي وموقف كاتب معاصر ويقودنا هذا التوافق للإفادة من الشخصية التاريخية كقناع فني نعبر من خلاله عن شيء من همومنا وقضايانا ان هذا هو الممكن لكن الاكيد هوانه ليس صوابا أن نسقط كل أفكارنا وطموحاتنا ورؤانا التي هي وليدة عصر جديد وعالم مغاير على تلك الشخصيات التي تتوحد بشكل يجعل الخيام حلاجا والمعري لوركا بل وهوميروس أيضا ويبدو أن البياتي كان يتعمد بعد سفر الفقر والثورة ألا يكون قناعه ذا صفات محددة تشعرنا بوجود معينة ذات فعل محدد معروف بل أخذ يميل لأن يجعل من قناعه رمزا جماعيا وعالما منفتحا تطل من خلاله وجوه متعددة وملامح كثيرة لا تنتمي لقناع واحد وإنما تشترك كلها من أجل ابراز فكرة الفعل الانساني الطامح لإغناء واضاءة القضية التي حملها البياتي رسالة وأعني بها فكرة الانتظار والثورة والتغيير انتظار ما هو آت بالبشارة وبعبور سنوات النفي والموت والحصار
___________________
(1) الشعر العربي المعاصر 250
(2) أصوات الشعر الثلاثة ، اليوت، مجلة الفصول الأربعة ، ص 66 ، وينظر أيضا مقدمة في نظرية الأدب » ، د عبد المنعم تليمه 139 ، دار الثقافة للطباعة والنشر القاهرة ، 1976
(3) الأديب وصناعته 236
(4) وينظر لهذا النمط من القصائد الطويلة أوراق على رصيف الذاكرة لعبد الرزاق عبد الواحد ، 35 وما بعدها و 119 وما بعدها والخيمة الثانية له أيضا 143 وما بعدها والنشيد لياسين طه حافظ والمفكر لصلاح نيازي
(5) أنشودة المطر ، 279 وما بعدها
(6) السياب 37 – 38
(7) وسنؤجل الحديث عنها الى موضع آخر من هذا البحث
(8) صدرت ببغداد مطبعة الأديب 1973
(9) اعترافات مالك بن الريب 49
(10) الكتاب المقدس نشيد الانشاد الاصحاح الثاني 8
(11) نفسه الاصحاح الثاني وينظر لمزيد من التفصيلات عن علاقة القصيدة بنشيد الانشاد وافادتها من مسرحية شكسبير «هملت» مجلة الأقلام العدد العاشر 1973 مقال ملامح مالك بن الريب لمحمد حسين الأعرجي ص 63 وما بعدها
(12) اعترافات مالك بن الريب 51
(13) نفسه 61
(14) الرحلة الثامنة 142 جبرا ابراهيم جبرا المكتبة العصرية بيروت 1967
(15) الشعر والتأمل ، روستريفور هاملتون 99 ترجمة الدكتور محمد مصطفي بدوي
منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي القاهرة 1963
(16) اليوت ، الناقد والشاعر ، مائیسن 98 ، ترجمة الدكتور احسان عباس ، المكتبة العصرية بيروت 1965
(17) اعترافات مالك بن الريب 67
(18) نفسه 75
(19) اعترافات مالك بن الريب ، 74
(20) اعترافات مالك بن الريب ، 53 - 58
(21) تنهدات الأمير العربي 42
(22) تنهدات الأمير العربي ، 43 وينظر 55 ، 62
(23) ـ(24)ـ(25)ـ (26) نفسه ، 44 ، 60 ، 114، 116
(27) هموم مروان و حبيبته الفارعة، دار الآداب ، بيروت ، 1974 ، ص 23
(28) الخيمة الثانية ، 182
(29) الخيمة الثانية ، 185
(30) الخيمة الثانية 199
(31) الخيمة الثانية 201 - 206
(32) صدرت ببغداد عام 1972 عن مطبعة الأديب البغدادية
(33) سفر بين الينابيع 6
(34) نفسه 7
(35) مقال البناء الجدلي في قصيدة سفر بين الينابيع ، ملحق بالقصيدة
88
(36)Tindal, W.Y."The Literary Symbol, Columbia.University Press-New York, 1955, P.17.
(37) سفر بين الينابيع 17
(38) سفر بين الينابيع 17 - 18 و البيت كل المفاتيح متعثر موسيقيا لورود تفعيله الهزج في سياق الرجز
(39) نفسه ، 50 - 51
(40) صدرت ببغداد عام 1972، مطبعة الأديب البغدادية
(41) حوار عبر الأبعاد 9
(42) حوار عبر الأبعاد 10
(43) نفسه ، 25
(44) تنظر مسافر ليل ، دار العودة ، بيروت 1969 ص 92 ، ومأساة الحلاج دار الآداب بيروت ، 180 وما بعدها
(45) حوار عبر الأبعاد ، 35 ، 41 ، 42 ، 63 ، 66
(46) نفسه ، 114
(47) مجلة الجامعة ، العدد الرابع لسنة 1977 ، ص 21 ، وينظر أيضا ، تجربتي الشعرية لعبد الوهاب البياتي ، دار العودة ، بيروت ، 1971 ص 39 وما بعدها
(48) مجلة الجامعة ، العدد الرابع لسنة 1977 ص 21
(49) دراسات نقدية في النظرية والتطبيق ، 150
(50) ينظر التجربة الخلاقة ، س ، م ، بورا ، ترجمة سلافة حجاوي، دار الحرية للطباعة ، بغداد 1977 ، ص 98
(51) دراسات نقدية في النظرية والتطبيق ، 146
(52) القصيدة في مجموعة ادونيس كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل المكتبة العصرية ، بيروت 1965 ص 25
(53) القصيدتان في ( ديوان صلاح عبد الصبور » ، دار العودة ، بيروت 1972 وينظر أيضا حياتي في الشعر » لعبد الصبور ، دار العودة ، بيروت 1969 ص 101 وما بعدها
(54) القصيدتان في مجموعة السياب ( أنشودة المطر ، 99 و 145 105
(55) ديوان البياتي 1/698
56) تجربتي الشعرية 41
57)ديوان البياتي 1/701
58) نفسه 1/699
(59) شخصيات قلقة في الاسلام، مقالة ماسينيون ، ترجمة عبد الرحمن بدوي ، مكتبة النهضة القاهرة 1946 ص 67
(60) مأساة الحلاج 53
(61) ديوان البياتي 2/146
(62) ديوان البياتي 2/146
(63) المنفى والملكوت في شعر البياتي، شوقي خميس، دار العودة، بیروت 1971، ص 39
(64) ديوان البياتي 2/148
(65) ديوان البياتي 2/156 112
(66) ديوان البياتي 2/162
67- نفسه 2/164
68- ديوان البياتي 2/168
(69) ديوان البياتي ، 2/ 165
(70) نفسه
(71) ديوان البياتي ، 2/179
(72) ينظر البياتي ومحنة أبي العلاء مدني صالح مجلة الكلية العدد الرابع النقاد لسنة 1969 ص 7 - 20 والدكتور احسان عباس في اتجاهات الشعر العربي المعاصر الكويت 1978 ، ص 159 وملك عبد العزيز في مقالها سفر الفقر والثورة المنشور في كتاب مأساة الانسان العربي في شعر البياتي الدار المصرية للطباعة القاهرة 1966 263
(73) المنفى والملكوت في شعر البياتي ، 39
(74) الرحيل الى مدن الحلم ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق 1973 ص 57
(75) معالم جديدة في أدبنا المعاصر فاضل ثامر دار الحرية للطباعة ، بغداد 1975 ص 272
![]() |
|
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
![]() |
|
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
![]() |
|
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
التوتر والسرطان.. علماء يحذرون من "صلة خطيرة"
|
|
|
|
|
مرآة السيارة: مدى دقة عكسها للصورة الصحيحة
|
|
|
|
|
نحو شراكة وطنية متكاملة.. الأمين العام للعتبة الحسينية يبحث مع وكيل وزارة الخارجية آفاق التعاون المؤسسي
|
|
|