أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-11-2016
![]()
التاريخ: 8-4-2021
![]()
التاريخ: 24-4-2020
![]()
التاريخ: 16-11-2016
![]() |
سياسة معاوية
كان معاوية ذا مواهب سياسية كبيرة، وكان داهية ذَهِنًا بعيد مدَى العقل، مالكًا قياد أهوائه، كان (ذا مكر وذا رأي وحزم في أمر دنياه، إذا رأى الفرصة لم يُبق ولم يتوقف، وإذا خاف الأمر توارَى عنه، وإذا خوصم في مقال ناضَل عنه وقطع الكلام على مُناظره)، كان يعمل جُهده ليشتري ضمائر القبائل العربية، وكان كثير البذل في العطاء.
وقد ذكر الطبري حادثة نستطيع أن نستنبط منها نظر معاوية إلى المال وإلى مبلغ استعماله إياه ليملك به ضمائر أهل المكانة والنفوذ من معاصريه — ذكر أن أبا مُنازِل قال له حينما أعطاه معاوية سبعين ألفًا بينما أعطى جماعة من الزعماء ممن في مرتبته مائة ألف: فضحتني في بني تميم، أما حسَبي فصحيح! أوَلَستُ ذا سنٍّ؟! أوَلَستُ مُطاعًا في عشيرتي؟! فقال معاوية: بلى، قال: فما بالك خسست بي دون القوم؟! فقال: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتُك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفان — وكان عثمانيًّا — فقال: وأنا فاشترِ مني ديني، فأمر له بتمام جائزة القوم.
كان سياسيًّا بطبيعته، مِعطاء وهُوبًا بسجيته، وقد صدق في صفته أبو الجهم الشاعر إذ قال:
نميل على جوانبه كأنا *** نميل ولا نمين على أبينا
نُقلِّبــــه لنخبر حالتيـه *** فنخبر منهمـا كرمًا ولِينا
وإنا نستطيع أن نفهم فهمًا صحيحًا: أكانت ثورة معاوية لقتل عثمان ثورة مصدرها إخلاصه العميق في العثمانية، وأنه كان يريد بها أن يُجريَ حكم الشرع في قتلة عثمان، أم ثورة مصدرها طموحه إلى الملك ليغتصبه لنفسه؟ نستطيع أن نفهم ذلك من حديث جرى بينه وبين عائشة بنت عثمان؛ فإن التاريخ يحدثنا أن معاوية لما قدم المدينة دخل دار عثمان، فقالت عائشة بنت عثمان: وا أبتاه! وبكت، فقال معاوية: «يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا وأعطيناهم أمانًا، وأظهرنا لهم حلمًا تحت غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عُرْض المسلمين.»
وقد لا نجد تصويرًا أدق لسياسة معاوية وطريقة حكمه من قوله: «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها.»
فهذا القول يبين حلمه وطول باعه في السياسة وهدوء أعصابه إذا جابهته المشكلات، أو نزلت بساحته الكوارث والمعضلات، ويظهر سعة عطنه وحزمه، ولقد قال له يزيد يوم بويع له على عهده فجعل الناس يمدحونه ويقرظونه: «يا أمير المؤمنين، والله ما ندري: أنخدع الناس أم يخدعوننا؟!» فقال معاوية: «كل من أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته.»
ثم انظر إلى مختلف تصرفات معاوية في حياته السياسية وغيرها؛ فإنك لتقتنع بصدق حكم الشعبي الذي قال فيه: «كان معاوية كالجمل الطبِّ إذا سُكت عنه تقدَّم، وإذا رُدَّ تأخر.»
مميزات معاوية
ولقد امتاز معاوية إلى جانب إلمامه التام بميول كل من له به علاقة من الناس، وصادق تقديره مع ثقوب بصيرته بما فيهم من نواحٍ للضعف يستطيع التسرب إليهم منها، امتاز إلى جانب هذا كله بصفات ثلاث لها مكانتها السامية في تكوين الدهاة من ساسة الوقت الحاضر، تلك الصفات الثلاث هي:
أولًا: إيقاع أعدائه في مشكلات لا تقوم لهم من بعدها قائمة بأفانين طريفة طالما عمد إليها الكثير من ساسة اليوم، مثال ذلك طريقته في إيقاع بطارقة الروم الذين يكيدون للإسلام، وذلك بمهاداتهم ومكاتبتهم بطريقة مكشوفة؛ لإغراء الملك بهم.
الصفة الثانية: من مميزات معاوية الخلقية هي: حلمه، وهناك مئات الأمثال أترعت بها كتبنا الأدبية والتاريخية مُشيدةً بحلمه مُطنبة في فضائل سعة صدره، على أنا نجتزئ هنا بمثل عادي، ذلك أنه لما ألحق زيادًا بأبيه دخل عليه بنو أمية وفيهم عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم الأموي، فقال له: يا معاوية، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرتَ بهم علينا قلة وذلة؛ فأقبل على أخيه مروان وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق، فقال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمتَ أنه يُطاق! ألم يبلغني شعره فيَّ وفي زياد! ثم قال لمروان: أسمعنيه، فقال:
ألا أبلـغ معـاوية بن صخر *** لقد ضاقت بما تأتي اليدانأ
تغضب أن يقال أبوك عفٌّ *** وترضى أن يقال أبوك زاني
الصفة الثالثة هي: نعومته السياسية، وهي غير الحلم، وقد تعتبر إلى حد ما من نوع المغالطات السياسية، مثال ذلك ما كان بينه وبين الحسن بن علي (عليه السلام) في شأن نزوله عن الخلافة له، إذ كتب إليه معاوية كتابًا قيمًا جاء فيه: «أما بعد، فأنت أولى بهذا الأمر وأحق به لقرابتك، ولو علمتُ أنك أضبط له وأحوط على حريم هذه الأمة وأكيدُ لبايعتُك، فسَلْ ما شئتَ»، وبعث إليه بصحيفة بيضاء مختومة في أسفلها: أن اكتب فيها ما شئت .... .
أضف إلى هذه الصفات ما كُتب لمعاوية من توفيق وسداد في اختيار أكبر دهاة الولاة؛ كعمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة، ممن عملوا معه على توطيد الملك له، والذين ارتسموا — إلى حد غير قليل — خطوات زعيمهم السياسي في شراء الضمائر، وسعة العطن، ورجوح حصاة العقل. وهذا زياد المعروف بشدة الوطأة بلغه عن رجال يكنى أبا الخير من أهل البأس والنجدة أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جُنديسابور(2) وما يليها، ورزقه أربعة آلاف درهم كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: «ما رأيت شيئًا خيرًا من لزوم الطاعة، والتقلُّب بين أظهر الجماعة»، كذلك فعل المغيرة بن شعبة حين حصَبه حجر بن عدي وهو على المنبر في خطبة الجمعة، فإنه نزل مسرعًا ودخل قصر الإمارة وبعث إلى حجر بخمسة آلاف درهم ترضَّاه بها، فقيل للمغيرة: لم فعلت هذا وفيه عليك وهن وغضاضة؟! فقال: «قد قتلتُه بها!» إلى جانب هذه العناصر المكوِّنة لتلك الشخصية البارزة التي اعتمدت في تأسيس ملكها على ما اعتمدت عليه من ترضِّي الأحزاب بالمال وعامة الناس بالطعام، واستغلال العصبيات العربية، والتساهل في إقامة الحدود الدينية إذا دعت إلى ذلك طبيعة الأحوال السياسية، فإن معاوية يصف بنفسه سبب نجاحه على علي بقوله: «أُعنتُ على علي بن أبي طالب بأربع خصال: كان رجلًا ظُهرةً عُلنة لا يكتم سرًّا، وكنت كتومًا لسري؛ وكان لا يسعى حتى يُفاجئه الأمر مفاجأة، وكنت أُبادرُ إلى ذلك؛ وكان في أخبث جند وأشدهم خلافًا، وكنت أحبَّ إلى قريش منه، فنِلتُ ما شئتُ؛ فلله من جامع إليَّ ومفرق عنه.»
معاوية والسياسة المكايلة:
وبعد، فإن السياسة الحديثة قد أباحت لرجالاتها في سبيل تحقيق غاياتهم أن ينتهجوا من الوسائل ما يكفل لهم نُجْحهم السياسي، ويجب علينا أن نثبت أن جلهم — ولو أنهم يتظاهرون بنفورهم من مدرسة «مكيالي» التي تضحي بكل شيء تسويغًا للوصول إلى الغاية السياسية — يأخذون في الواقع بتعاليمها ويعملون على برنامجها. هذه السياسة الإيجابية في نجاحها العملي، السلبية في إرضائها المناحي الخلقية هي التي أخرجت لنا «ماترنيخ» و«كافور» و«دزرائلي» و«بسمرك» و«پت»، وهي التي كان من أبطالها «جلادستون» ذو المواقف الغريبة في الإقناع واكتساب ثقة الجمهور ولو تنحَّل من الشواهد واختلق من السابقات ما ليس له من وجود.
كذلك كان معاوية، في جلِّ تصرفاته، يحفل كثيرًا بتحقيق غاياته في تشييد الملك، فهو يُدبِّر أمور الناس لهذه الوجهة، وهو ينتهج من الوسائل السياسية ما يكفل نجاحه في هذه الوجهة. وإنه لخليق بنا وبسوانا ألا نعدو بعيدًا عن هذه الوجهة حين نظرِنا إلى معاوية في كتابه إلى مروان بن الحكم بشأن حدِّه شاعرَه الكبير ابن سيحان، وحين حكم لابن الزبير بثمن داره المحترقة، وحين أرضى عقيلًا، واحتملَ من الأحنف بن قيس ما احتمل، وحين تخلَّص من الأشتر النخعي ومن عبد الرحمن بن خالد، وحين فصل في منازعة عمرو بن عثمان بن عفان وأسامة بن زيد مولى رسول الله ﷺ في حكاية الأرض التي قيل: إن الرسول ﷺ أقطعها أحدهما، وحين كان يبذل المال طبقًا لمناهجه السياسية. وإنا نبيح لأنفسنا حين ننظر إلى قول زين العابدين (عليه السلام): «إن عليًّا كان يقاتله معاوية بذهبه»، أن نقول: «إن معاوية كان يقاتل عليًا بذهبه وذهنه.»
____________
(١) ثأره: قاتل حميمه.
(٢) مدينة بخوزستان بناها سابور بن أردشير فنسبت إليه، وأسكنها بني الروم وطائفة من جنده، انظر: معجم ياقوت.
|
|
التوتر والسرطان.. علماء يحذرون من "صلة خطيرة"
|
|
|
|
|
مرآة السيارة: مدى دقة عكسها للصورة الصحيحة
|
|
|
|
|
نحو شراكة وطنية متكاملة.. الأمين العام للعتبة الحسينية يبحث مع وكيل وزارة الخارجية آفاق التعاون المؤسسي
|
|
|