خرج النبي ( ص ) من مكة متجها إلى المدينة ومعه تلك الوفود التي لم تشهد لها مكة نظيرا في تاريخها الطويل يوم ذاك ، ولما انتهى إلى مكان قريب من الجحفة بناحية رابغ ، وقبل ان يتفرق الناس كل إلى ناحيته نزل في ذلك المكان في الصحراء وعلى غير ماء وكلأ بعد ان انزل اللّه عليه يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فعند ذلك لم ير بدا من تنفيذ ما امره به اللّه سبحانه ، لا سيما وقد ضمن له انه سيعصمه من الناس .
وبالطبع لا بد وان يكون هذا الأمر الذي يشدد اللّه على تنفيذه وامر بذلك رسوله بهذا الأسلوب الذي يشكل إنذارا له بأنه إذا لم يفعل يكون وكأنه لم يبلغ رسالة ربه هذا الأمر لا بد وان يكون مرتبطا بمصير الرسالة ومستقبلها ولا بد وان يصطدم مع ذلك بإطماع جماعة من المسلمين ومخططاتهم ، كما يشعر بذلك قوله واللّه يعصمك من الناس .
وروى ابن كثير في بدايته عن زيد بن أرقم ان النبي ( ص ) لما رجع من حجة الوداع ونزل غدير خم امر بدوحات فقممن ثم قال كأني قد دعيت فأجبت اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، ثم قال : اللّه مولاي وانا ولي كل مؤمن ومؤمنة واخذ بيد علي ( ع ) وقال من كنت مولاه فهذا علي وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأضاف إلى ذلك في البداية والنهاية ان الراوي قال قلت لزيد بن أرقم : أنت سمعته من رسول اللّه ، فقال ما كان في الدومات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه .
ورواه ابن كثير أيضا عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب ، وجاء في رواية البراء ان عمر بن الخطاب لقي عليا بعد ان فرغ النبي من خطابه وقال له : هنيئا لك يا ابن أبي طالب لقد أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة .
ورواه في البداية والنهاية عن جماعة غيرهما من الصحابة أيضا وقال إن صدر الحديث متواتر يعني بذلك قول النبي من كنت مولاه فهذا علي مولاه واما الزيادة وهي اللهم وال من والاه وعاد من عاداه إلى آخر الحديث فقوية الإسناد على حد تعبيره .
وروي عن رباح بن الحارث أنه قال : جاء رهط إلى علي ( ع ) بالكوفة فقالوا السلام عليك يا مولانا ، فقال ( ع ) كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب ، فقالوا سمعنا رسول اللّه ( ص ) يقول : يوم غدير خم من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، قال رباح فلما مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء قيل لي انهم نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري .
وروي أن أبا هريرة دخل المسجد فاجتمع الناس إليه فقام إليه شاب وقال : أنشدك اللّه أسمعت رسول اللّه يقول لعلي يوم غدير خم ، من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فقال اللهم نعم .
وفي رواية ثانية رواها عن أبي هريرة انه لما اخذ النبي ( ص ) بيد علي ( ع ) وقال من كنت مولاه فهذا علي مولاه انزل اللّه على نبيه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً .
وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال : شهدت عليا في الرحبة ينشد الناس ويقول انشد اللّه من سمع رسول اللّه يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فهذا علي مولاه الا قام وشهد ، فقام اثنا عشر بدريا كاني انظر إلى أحدهم فقالوا نشهد انا سمعنا رسول اللّه يقول يوم غدير خم : الست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم فقلنا بلى يا رسول اللّه ، فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .
وقد أورد في البداية والنهاية حديث الرحبة هذا بأسانيد مختلفة ولكنها متفقة من حيث مضمونها ، وكلها تنص على أن الذين شهدوا بصدور الحديث عن النبي ( ص ) اثنا عشر بدريا ، وجاء في بعضها انه شهد به سبعة عشر بدريا .
وجاء في البداية والنهاية ان ابن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ الف في حديث الغدير مجلدين جمع فيهما أسانيد الحديث وألفاظه وساق فيها الغث والسمين والصحيح والسقيم ، واستطرد يقول : ان الحاكم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة حول خطبة الغدير ونحن نورد عيون ما روي في ذلك وقد ذكرنا بعض ما أورده في كتابه من الأحاديث المروية حول هذا الموضوع .
وبالرغم من أن ابن كثير قد ضعف بعض الأحاديث الحاكية لموقف النبي يوم ذاك من حيث أسانيدها ، ولكنه اعترف أخيرا بأن الحديث متواتر ولا سبيل لإنكاره ومع ذلك فهو لا يفيد الشيعة على حد تعبيره[1].
وعلى اي الأحوال فقد روى حديث الغدير بنصه الذي ذكرناه كل من ابن ماجة في صحيحه واحمد في مسنده والحاكم في مستدرك الصحيحين بطرق مختلفة ، والسيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وأبي نعيم في حلية الأولياء والخطيب في تاريخ بغداد والنسائي في خصائصه ، وصاحب الرياض النضرة ، وابن حجر في الصواعق المحرقة ، وصاحب كنز العمال وابن الأثير في أسد الغابة ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة والطحاوي في مشكل الآثار ، والمناوي في فيض القدير ، والهيثمي في مجمع الزوائد .
كما نص كل من الإمام أحمد والفخر الرازي في تفسيره والبغدادي في تاريخه والمحب الطبراني في ذخائره وصاحب فيض القدير في شرحه ، وصاحب الرياض النضرة ، نص كل هؤلاء ان عمر بن الخطاب بعد ان انتهى النبي من خطابه هنأ عليا وقال له : أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة .
ونص جماعة من المحدثين ان أبا بكر قال له : أمسيت يا ابن أبي طالب مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة كما نص جماعة على أنه لما انتهى النبي من خطابه انزل اللّه عليه :
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ( المائدة 3 ) .
وجاء في تفسير الرازي وهو يتحدث عن أسباب نزول الآية :
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) .
جاء فيه العاشر من أسباب نزولها انها نزلت في فضل علي بن أبي طالب ، ولما نزلت اخذ النبي بيده وقال من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأضاف إلى ذلك أنه لقيه عمر بن الخطاب وقال هنيئا لك أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة[2].
وفي تاريخ اليعقوبي ان النبي خرج من مكة ليلا منصرفا إلى المدينة فانتهى إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له غدير خم لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة فنزل فيه وقام خطيبا واخذ بيد علي ( ع ) وقال :
ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم فقالوا بلى يا رسول اللّه ، قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، ثم قال ( ص ) أيها الناس اني فرطكم وأنتم واردون على الحوض واني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فقالوا وما الثقلان يا رسول اللّه ، فقال الثقل الأكبر كتاب اللّه فاستمسكوا به ولا تضلوا وتبدلوا وعترتي أهل بيتي .
وجاء في رواية المفيد والحاكم في المستدرك والحلبي في سيرته والنسائي في سننه أنه قال : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض .
وقد روى حديث الغدير بكامله صاحب السيرة الحلبية في سيرته وعقب عليه انه من الأحاديث الصحيحة ولا يلتفت لمن قدح في صحته كأبي داود وأبي حاتم الرازي .
وروى المفيد في الارشاد ان النبي ( ص ) بعد ان انتهى من خطابه افرد لعلي ( ع ) خيمة وامر المسلمين بأن يدخلوا عليها فوجا فوجا ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين ففعل الناس ذلك كلهم وامر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممن معه ان يفعلن ذلك ، وقال له عمر بن الخطاب يوم ذاك بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة .
وجاءه حسان بن ثابت يستأذنه ان يصف موقفه من علي في ذلك اليوم فأذن له فوقف على مرتفع من الأرض وتطاول المسلمون لسماع كلامه فأنشأ يقول :
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم واسمع بالنبي مناديا
وقال فمن مولاكم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي اماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
فقال له النبي ( ص ) لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك .
وجاء في الكافي بسنده إلى زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية عن أبي جعفر الباقر ( ع ) أنه قال : امر اللّه عز وجل رسوله بولاية علي ( ع ) وانزل عليه إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ، فلم يدروا ما هي الولاية فأمر اللّه محمدا ( ص ) ان يفسر لهم الولاية كما فسر الصلاة والزكاة والحج والصوم ، فلما اتاه ذلك من اللّه ضاق بذلك صدره وتخوف ان يرتدوا عن دينهم وان يكذبوه وراجع ربه فأوحى إليه :
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فصدع بأمر اللّه عز وجل وقام بولاية علي يوم غدير خم وانزل اللّه عليه بعد ذلك : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً .
وفيما يعود إلى الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فقد جاء في مجمع البيان بسنده إلى أبي ذر الغفاري رحمه اللّه أنه قال صليت مع رسول اللّه يوما صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد اني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا وكان علي راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى اخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين رسول اللّه ، فلما فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم ان أخي موسى سألك فقال : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي . هارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( طه 25 - 32 ) فأنزلت عليه سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا ( القصص 35 ) .
اللهم وانا نبيك وصفيك ، اللهم واشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري ، قال أبو ذر فو اللّه ما استتم كلامه حتى نزل عليه جبريل من عند اللّه تعالى فقال يا محمد اقرأ قال وما أقرأ ؟ قال اقرأ : إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ .
وأضاف إلى ذلك في مجمع البيان ان رواية أبي ذر هذه ذكرها الثعلبي في تفسيره ، ثم قال وروى أبو بكر الرازي في احكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه والرماني والطبري انها نزلت حين تصدق علي بخاتمه وهو راكع وهو قول مجاهد والسدي والمروي عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد اللّه الصادق وجميع علماء أهل البيت ( ع ) ونقل صاحب تفسير الميزان في تفسيره عن الجمع بين الصحاح الستة ومناقب ابن المغازلي الشافعي وعن الخطيب الخوارزمي ان الآية المذكورة نزلت في علي بهذه المناسبة .
وجاء عن حسان بن ثابت أنه قال :
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطيء في الهدى ومسارع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا * فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيد * ويا خير شار ثم يا خير بائع
فانزل فيك اللّه خير ولاية * وثبتها في محكمات الشرائع
هذا بالإضافة إلى حديث الدار الذي اعترف بصحته جماعة من كبار محدثي السنة ومؤرخيهم كالطبري وابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي والنسائي والثعلبي في تفسيره والسيوطي والبغوي وصاحب السيرة الحلبية وغيرهم وحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى الذي يقول فيه لا ينبغي ان اذهب الا وأنت خليفتي إلى كثير من المناسبات التي كان يصرح فيها تارة باستخلافه من بعده ، ويلوح فيها أخرى تلويحا يفهمه الكثير من الناس ، وقد ذكرنا سابقا عند الحديث عن دعوة النبي لأعمامه وبني عمه ان المسلمين بعد الرسول لو أنهم يوم ذاك ولوا عليا الخلافة وسلموه مقاليد السلطة لكان حديث الدار وحده كنصوص القرآن التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، ولكن لما اتجهت الخلافة الاسلامية غير وجهتها الشرعية ومضت بالشكل الذي انتهت إليه اتجه المسلمون والمحدثون وحتى الفقهاء إلى تحريف ما لا يقبل التأويل وتأويل ما يمكنهم تأويله ولو خالف الحق والواقع وعشرات القرائن المحيطة به من جميع الجهات تمشيا مع مبدأ الاعتراف بالأمر الواقع ولو قام الواقع على اشلاء الأبرياء والصلحاء كما هو الحال في كل عصر وزمان فيما لو تغلب القوي على الضعيف والمبطل على المحق ، فالرأي العام يقف دائما إلى جانب القوي الظالم عملا بالمثل القائل ( الحق للقوة ) ولأم المخطل الهبل ، متجاهلا الشرعية والعدالة والحق وغير ذلك مما يعبر عن إرادة السماء ، وكأنها ألفاظ لا مدلول لها .
بل يحاول الرأي العام في الغالب تحوير هذه المفاهيم بما يتفق مع رغبات القوي الظالم والمستبد الغاصب ، ولا تفسير لذلك الا اتباع الأمر الواقع وترك العقل والشرع والحق قال العلامة مغنية في كتابه فلسفة التوحيد والولاية في مقام تقريبه لهذا المبدأ الفاسد وانصراف الناس إليه مع أنه لا يرتكز على العقل والعلم ، قال : لقد بايع نفر قليل من المسلمين في بداية الأمر أبا بكر بالخلافة وساعدته الظروف والأوضاع على استجلاب الجماهير وتمت له السلطة دون غيره من الصحابة وأصبح هو الآمر الناهي باسم خليفة رسول اللّه ، فاستدل السنة بخلافة أبي بكر على صحة تلك البيعة لا بآية أو رواية ولا باجماع أو عقل .
استدلوا وابتدعوا أصلا عاما هو ان الخلافة الاسلامية الكبرى تنعقد شرعا وتصح عقلا وعرفا ببيعة نفر قليل من المسلمين ، في حين انه كان من الأجدر بهم بحسب منطق العقل والشرع ان يستدلوا على فسادها ببيعة النفر القليل ومضى يقول :
قال المارودي في أول كتابه الأحكام السلطانية ! أقل ما تنعقد به الإمامة خمسة أنفار لأن بيعة أبي بكر قد انعقدت بعمر بن الخطاب وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وبشر بن سعد وسالم مولى حذيفة ، ولأن عمر بن الخطاب جعل الخلافة في ستة من الصحابة لاتمام خلافة أحدهم برضا الخمسة الباقين ، وأضاف الماوردي إلى ذلك ان هذا هو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة .
وقال آخرون من علماء الكوفة انها تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ، وقالت طائفة أخرى تنعقد البيعة بواحد .
وجاء في كتاب المواقف وشرحه باب الإمامة ، الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف في ثبوت الإمامة على أهل الاسلام ، لأن الصحابة على حد تعبيره قد اكتفوا في عقد الإمامة بعقد عمر لأبي بكر ، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ومضى يقول مؤلف فلسفة التوحيد والولاية ، ومعنى هذا ان عمر بن الخطاب أو اي انسان آخر لو بايع عليا وتمت له الخلافة لكان أولى بها من جميع الصحابة بما فيهم أبو بكر ، وتصبح بعد ذلك جميع النصوص على خلافته وولاية المعصومين من أولاده قطعية السند والدلالة .
واستطرد يقول لقد وقعت الحرب بين علي ( ع ) ومعاوية بن أبي سفيان وشاءت الأقدار والظروف ان يحكم معاوية كما حكم الأول والثاني والثالث ، فتبنى السنة حكم ابن أبي سفيان واعترفوا به ودافعوا عنه لا لشيء إلا لأنه قد أصبح حاكما وهم يعلمون كل العلم بأن معاوية وأباه لم يخلصا للاسلام ولو ساعة واحدة .
وكان قد تواتر عن الرسول أنه قال : ان عمارا تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، لقد تواتر عن الرسول هذا الحديث حتى أصبح وكأنه آية قرآنية وبخاصة بعد ما رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة باب التعاون في بناء المساجد ، وقد قتله معاوية ، ومع ذلك فقد رفض السنة ان ينعتوه بالبغي كما نعته من لا ينطق عن الهوى ورفضوا ذلك وهم على يقين من قول الرسول ، بل قالوا إن معاوية قد اجتهد وأخطأ وهو معذور ومأجور بقتل عمار وسب علي ( ع ) على المنابر .
ومما لا شك فيه ان معاوية قد فشل في حربه مع علي ولم يستتب له الحكم لنعته السنة بالطاغية الباغي لنفس هذا الحديث المتواتر .
بعد ان انهى الرسول ( ص ) المهمة التي امره اللّه بأدائها في غدير خم وتفرق عنه الألوف من الناس كل باتجاه وطنه سار بمن بقي معه إلى المدينة حتى إذا بلغها أقام فيها بقية ذي الحجة ، ودخلت السنة الحادية عشرة بدخول المحرم وهو مطمئن لانتشار الاسلام في شبه الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها واتجه يفكر في البلاد الخاضعة للروم والفرس كبلاد الشام ومصر والعراق وغيرها .
وفيما هو يخطط لنشر دعوته خارج الحجاز ، وإذا بالأخبار تحمل إليه نبأ وفاة باذان الذي ولاه امر اليمن بعد ان اسلم هو وجماعته ، وكان قبل اسلامه عاملا لكسرى عليها كما ذكرنا خلال الفصول السابقة ولما انتهى إليه نبأ وفاته بعد رجوعه من حجة الوداع وزع البلاد التي كان يحكمها باذان بين جماعة من الصحابة وترك صنعاء لولده شمر بن باذان ، وأرسل إلى مأرب ابا موسى الأشعري ، وجعل على الجند يعلى بن أميّة ، وعلى همدان عامر بن شمر الهمداني ، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة وهكذا فقد ارسل إلى كل منطقة رجلا من أصحابه ليتولى إدارة شؤونها ويجبي صدقاتها .
وكان عبهلة بن كعب المعروف بالأسود العنسي كاهنا مشعوذا يفعل الأعاجيب ويستجلب الناس بحسن حديثه ، فادعى النبوة واجابه خلق كثير من مذحج وغيرها من القبائل واحتل أكثر المناطق في اليمن ، ومضى في سبعمائة فارس إلى صنعاء ، فخرج إليه عاملها شهر بن باذان فتغلب عليه الأسود فقتله وتزوج بامرأته ونشر سلطانه في بلاد اليمن وتحاشاه المسلمون وارتد جماعة منهم عن الإسلام ، ولم يثر استفحال امره عناية النبي ، ولا استدعى من اهتمامه أكثر من أن بعث إلى عماله باليمن ان يحيطوا به ويقتلوه .
ولما استفحل خطره في اليمن استخف بقيس بن عبد يغوث وبفيروز ودادويه ، وكانت ازاد التي تزوجها الأسود بعد مقتل زوجها شهر بن باذان ، ابنة عم لفيروز والتجأ عمال النبي إلى هؤلاء الثلاثة ، وهمّ الأسود بقتلهم ففروا منه والتجئوا من حيث لا يعلم إلى زوجته ( أزاد ) فوضعتهم في بيت وأخفت امرهم ، فلما دخل عليها الأسود ، دخل عليه فيروز ومعه قيس بن عبد يغوث فقتلاه في بيتها كما جاء في رواية ابن خلدون في تاريخه .
وقيل إنها هي التي تولت قتله انتقاما لزوجها ، ولما قتل الأسود هاج اتباعه ولكنهم استسلموا أخيرا وعاد أكثرهم إلى الاسلام ورجع أصحاب النبي إلى اعمالهم وتنافسوا على صنعاء بعد ان قتل عاملها ، ثم اتفقوا على أن يصلي بهم معاذ بن جبل وكتبوا إلى رسول اللّه ( ص ) بما جرى ، وكان قد اخبره جبرائيل بقتل العنسي ساعة قتله فأخبر المسلمين بذلك ولما جاء الرسول بخبر العنسي إلى المدينة كان النبي ( ص ) قد توفي فقص عليهم حديث العنسي وتاريخ قتله فاتفق خبره مع اخبار النبي ( ص ) لهم ساعة قتله .
[1] انظر البداية والنهاية الجزء الخامس ص 209 وما بعدها طبع مكتبة المعارف بمصر .
[2] انظر فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 350 وما بعدها إلى ص 386 .
الاكثر قراءة في مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة