كانت هذه الغزوة بعد ان فتح النبي مكة واستقام له أهلها ملتفين حوله حيث أقام وحيث ذهب ونفوسهم مطمئنة إلى أن ما بقي من العرب على الشرك سيدخلون في الاسلام طائعين خلال اشهر معدودات وانهم لكذلك يعيشون في هذا الجو من الاطمئنان والهدوء والتطلع إلى غد أفضل ، والنبي ( ص ) لا يزال في مكة يبعث السرية تلو الأخرى إلى القبائل المجاورة لمكة ليطهر المنطقة من عبادة الأوثان ويجمعهم على الإيمان باللّه ورسوله ، وفيما هم يعيشون في هذا الجو من الغبطة ، وإذا بالاخبار تترامى إليهم بأن هوازن واحلافها كثقيف وجشم ونصر قد ساءهم انتصار النبي في مكة وقدروا ان الدائرة ستدور عليهم ، وان المسلمين سيقتحمون عليهم بلادهم وديارهم ان عاجلا أو آجلا ، فاجتمعوا بقيادة مالك بن عوف لمهاجمة محمد ولصده عن ديارهم وبلادهم إذا هو فكر في غزوهم .
وكانوا حينما خرج النبي من المدينة ظنوا انه متجه إليهم فاجتمعوا لمقابلته ، وتبين لهم بعد ذلك أنه قاصد لمكة ، ولم يبق لديهم من شك بعد ان خضعت له مكة واقبل أهلها وهم الأعداء الألداء لرسالته يتهافتون على الدخول فيها انه سيغزوهم في بلادهم فأعدوا العدة لذلك وتكتلوا مع احلافهم لمهاجمته بجموع لم يشهدها من قبل ، ولم يتخلف عنهم سوى قبيلتي كعب وكلاب ، فلم يستجب منهما أحد لطلب مالك بن عوف .
وكان دريد بن الصمة أحد بني جشم شيخا كبيرا قد حملوه معهم ليستفيدوا من رأيه وخبرته بالحروب ، كما اشترك معهم زعماء تلك القبائل ولكن القيادة العامة كانت لمالك بن عوف ومضت تلك الحشود التي قدرها المؤرخون بثلاثين ألفا أو تزيد بقيادة مالك بن عوف لغزو محمد حيث كان ، ونزلت بسهل أوطاس المعروف بحنين ، ولما نزلوا قال لهم دريد : بأي واد أنتم قالوا بأوطاس ، فقال نعم مجال الخيل : لا حزن ضرس ولا سهل دهس[1]، ثم قال لهم ما لي اسمع رغاء البعير ونهاق الحمير ، وثغاء الشاة وبكاء الصغير ، فقال له مالك بن عوف لقد حملنا مع الناس النساء والأطفال حتى لا يطمع أحد بالفرار ، فقال له دريد ، وهل يرد المهزوم شيء انها ان كانت لك لم ينفعك الا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك .
ثم قال له دريد : ما فعلت كعب وكلاب ، فقال لم يشهد معنا منهم أحد ، فقال غاب الجد والحد ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب ، ولوددت انكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب ، ثم سأله من شهد منكم فأجابه عمرو بن عامر وعوف بن عامر ، فقال ذانك الجذعان لا ينفعان ولا يضران ، ودار حوار بينهما لم يتفقا فيه على رأي واحد ، وأخيرا قال له مالك : انك قد كبرت وكبر علمك ، والتفت إلى تلك الجموع وقال واللّه ان عصيتموني لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري وكان شابا في الثلاثين من عمره قوي الإرادة ماضي العزيمة فتبعه الناس ، ومضى دريد معهم لا يرد لهم رأيا بالرغم من كبر سنه وخبرته بالحروب والمعارك ، وامر مالك أصحابه ان ينحازوا إلى قمم حنين ومنعطفاتها .
ولما بلغ رسول اللّه ( ص ) خبر تلك الحشود التي خرجت لحربه ارسل عبد اللّه بن حدرد الأسلمي وامره ان يدخل بين الناس متنكرا ويأتيه بخبرهم ، فذهب ودخل بينهم واطلع على عدتهم وعددهم وإصرارهم على حرب رسول اللّه ، والنبي يعد العدة ويحرض المسلمين على قتالهم والصبر والثبات ، ورجع عبد اللّه إلى النبي واخبره بحالهم ، فدعا رسول اللّه عمر بن الخطاب واخبره بما رجع به عبد اللّه بن حدرد ، فقال له عمر ان عبد اللّه بن حدرد يكذب عليك يا رسول اللّه ، فقال له عبد اللّه كما جاء في رواية ابن هشام والطبري وغيرهما ان تكذبني فطالما كذبت بالحق يا عمر ، فقال له عمر الا تسمع ما يقول ابن حدرد يا رسول اللّه وأراد النبي ان يلطف الجو بينهما ، فقال لقد كنت ضالا فهداك اللّه إلى الاسلام يا عمر .
ولما أتم النبي تجهيز جيشه واستعار بعض الأعتدة من صفوان بن أميّة كما ذكرنا خرج من مكة في اثني عشر الف مقاتل ، منهم الفان من مكة وعشرة آلاف كانوا معه يوم دخل مكة فاتحا ، وتحرك ذلك الجيش من مكة وفي مقدمته الفرسان والإبل تحمل الذخيرة لثلاث خلون من شوال في السنة الثامنة من الهجرة ، والمسلمون قد اخذهم الغرور بهذا العدد الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ حروبهم مع المشركين ، وقال أبو بكر كما جاء في بعض المرويات : لا نغلب اليوم من قلة .
وبعث مالك بن عوف ثلاثة من اتباعه وامرهم ان يندسوا بين أصحاب النبي ويأتوه بأخبارهم ، فذهبوا وما لبثوا ان رجعوا إليه كالمدهوشين قد استولى عليهم الخوف ، وقالوا له : رأينا رجالا بيضا على خيل بلق ، فو اللّه ما تماسكنا ان أصابنا ما ترى ، ولكنه مضى في طريقه مصمما على قتال المسلمين وإبادتهم إذا وجد سبيلا لذلك .
وجاء في كتب السيرة عن الحارث بن مالك أنه قال : خرجنا مع رسول اللّه ( ص ) إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية ، وكانت لقريش وغيرهم من العرب سدرة عظيمة يسمونها ذات أنواط يجتمعون تحتها في كل عام فيذبحون تحتها ويأكلون ويستريحون ويسمرون ، فلما رأيناها تنادينا يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فرد عليهم النبي وقال لقد قلتم كما قال قوم موسى :
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، ثم قال لتركبن سنن من كان قبلكم وبلغ النبي ( ص ) حنينا مع المساء فنزلوا على أبواب واديها وأقاموا بها حتى الفجر وعبأ النبي أصحابه ووزع الألوية والرايات ، فأعطى لواء المهاجرين لعلي ( ع ) واعطى الراية لسعد بن أبي وقاص ، واعطى لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج لسعد بن عبادة ، ووزع على بقية القبائل الرايات والألوية ، وركب بغلته البيضاء ، ولبس درعين ومغفرا .
قال جابر بن عبد اللّه الأنصاري لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة وذلك في عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه ، واننا لكذلك ، فما راعنا ونحن نسير الا كتائب هوازن ومن معها من العرب قد شدوا علينا شدة رجل واحد فانهزم الناس عن رسول اللّه ( ص ) لا يلوي أحد منهم على أحد قد اخذهم الخوف والفزع ، وانحاز رسول اللّه ( ص ) إلى ذات اليمين ، ثم قال أيها الناس إلي انا رسول اللّه محمد بن عبد اللّه فلم يجبه أحد من المنهزمين ، وقال ابن قتيبة في المعارف : ان الذين ثبتوا مع رسول اللّه يوم حنين علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وأسامة بن زيد بن حارثة .
وجاء عن العباس بن عبد المطلب أنه قال في ذلك الموقف :
نصرنا رسول اللّه في الحرب سبعة * وقد فر من قد فر منهم واقشعوا
وثامننا لاقى الحمام بسيفه * بما مسه في اللّه لا يتوجع
وقال الشيخ المفيد في ارشاده لم يبق مع النبي الا عشرة نفر تسعة من بني هاشم ، والعاشر أيمن بن أم أيمن فقتل أيمن وثبت التسعة ، حتى رجع إلى رسول اللّه من كان قد انهزم .
وجاء في تاريخ الخميس وفي رواية انه لم يبق معه الا أربعة ثلاثة من بني هاشم علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وكان قد اخذ بعنان بغلته والرابع عبد اللّه بن مسعود ، وأضاف إلى ذلك ان عليا والعباس كانا يحفظانه من قبل وجهه وعبد اللّه بن مسعود يحفظه من جانبه الأيسر وكان كل من يقبل على رسول اللّه يقتل[2] ونص على ذلك أيضا في السيرة الحلبية وقد وصف اللّه حالة المسلمين في ذلك اليوم بقوله :
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ( التوبة 25 - 26 ) .
وجاء في ارشاد المفيد ان الآية تعني بالمؤمنين عليا ومن ثبت معه من الهاشميين كما جاء في تاريخ اليعقوبي المجلد الثاني ان المسلمين قد انهزموا عن رسول اللّه وبقي في عشرة من بني هاشم وقيل تسعة وهم علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد اللّه بن الزبير بن عبد المطلب ، وأضاف إلى ذلك وقيل إن أيمن بن أم أيمن كان معهم .
وعلى اي الأحوال فلقد اتفق المؤلفون في سيرة النبي ان عليا وأكثر بني هاشم قد ثبتوا مع النبي ، وبعض الروايات الشاذة تنص على أن أبا بكر وعمر قد ثبتا معه ولكن تاريخهما في حروب النبي مع المشركين يؤكد انهما ليسا ممن يثبتون في الأزمات ولم يرو لهما ذكر مع المقاتلين في أكثر حروب النبي وغزواته وكانا أول المنهزمين في أحد كما ذكرنا في ذلك المقام .
واتفق المؤلفون في سيرة النبي ( ص ) على جماعة تظاهروا بالإسلام في مكة اظهروا الشماتة وأسفروا عن واقعهم .
قال الطبري في تاريخه وابن هشام في سيرته والشيخ حسين الديار بكري في تاريخ الخميس وغيرهم انه لما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول اللّه من جفاة مكة الهزيمة قال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، هذا والأزلام في كنانته وكان مستبشرا بتلك الهزيمة وقال شيبة بن طلحة : اليوم أدرك ثأري من محمد وتقدم منه ليقتله فرأى عليا ومن معه من بني هاشم قد أحاطوا به من كل جانب يدافعون عنه .
وجاء في رواية الطبري عن شيبة ان الذي منعه منه شيء تغشاه فلم يعد يطيق ذلك فعلم أنه قد منع منه ، هذا مع العلم بأن النبي قد كرمهم بالأمس في مكة ورد عليهم مفتاح الكعبة . وقال كلدة بن حسل أخو صفوان بن أميّة لأمه الآن بطل السحر ، ولما سمع صفوان من أخيه ذلك ورأى أبا سفيان مستبشرا قال لهما : لأن يملكني رجل من قريش أحب إلي من أن يملكني رجل من هوازن ، يعني بذلك ان انتصار محمد أحب إليه من انتصار مالك بن عوف ، وقد بدا عليه الانزعاج من شماتة أبي سفيان وغيره ممن اعجبتهم هزيمة المسلمين في حين انه كان لا يزال على شركه .
ومهما كان الحال فلقد كان موقف المسلمين في حنين أسوأ من موقفهم في أحد في بداية الأمر وبعد ثبات النبي ( ص ) ومن معه من بني هاشم بدأ الموقف يتحول لصالح المسلمين . ويصف العباس بن عبد المطلب الموقف في ذلك اليوم بقوله : اني لمع رسول اللّه آخذ بزمام بغلته البيضاء ، وكنت امرأ جسيما شديد الصوت ورسول اللّه ( ص ) يقول حين رأى من المسلمين ما رأى : إلى اين أيها الناس وهم لا يلوون على شيء ، فقال لي يا عباس : صح يا أهل بيعة الرضوان يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة إلى اين تفرون عن رسول اللّه ، فناديت في الناس وكنت جهوري الصوت فأخذوا يتراجعون إلى أن اجتمع إليه نحو من مائة رجل فاستقبلوا بسيوفهم ورماحهم القوم .
وبرز جرول وكان معه راية هوازن يصنع بالمسلمين ما يصنع على حد تعبير الطبري وغيره فتحاماه الناس فبرز إليه علي بن أبي طالب فقتله كما جاء في رواية اليعقوبي والمفيد وغيرهما ، وفي رواية ابن هشام والطبري ان عليا اقبل فضرب عرقوب جمله فوقع إلى الأرض فتناوله رجل من الأنصار وقتله واشتدت عزيمة المسلمين بذلك وتجالد الفريقان والنبي يتقدم ببغلته رويدا رويدا ويضرب بسيفه ويقول الآن حمي الوطيس .
وفي رواية ثانية انه نزل عن بغلته وقال انا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب وتقدم نحو تلك الجموع يقارع الأبطال ويصرع الشجعان فما رئي في الناس أشد منه ، هذا وعلي ( ع ) مرة يظهر عن يمينه وأخرى عن شماله يحصد بسيفه الرؤوس ويصرع الأبطال حتى قتل أربعين من ابطالهم ، وعاد أكثر المسلمين إلى المعركة مسرعين حتى أن الرجل منهم كان إذا ابطأ به بعيره أو التوى به من شدة الزحام وثب عنه واتجه إلى حيث ينادي العباس يريد ان يدفع عنه عار الفرار والهزيمة ، وبعضهم لم يرجع الا بعد ان أيقن ان المعركة تتجه اتجاها صحيحا لصالح المسلمين .
ولم تتضح معالم الصباح حتى كانت ارض المعركة تهتز لوقع القتال ، واخذ النبي حفنة من التراب تناولها بيده ، وقيل ناوله إياها أبو سفيان بن الحارث فألقاها في وجوه الأعداء ، وقال : شاهت الوجوه هم لا ينصرون وتقدم نحو القوم وقد تكاثر المسلمون خلفه فما تعالى النهار حتى كانت الكرة للمسلمين يضربون ويطعنون في صدور المشركين حتى انتقضت صفوفهم وتفرقت كتائبهم وصدتهم المسالك والزحام عن الفرار ، ولم يكن لهم بد من الهزيمة والمسلمون في اثرهم يقتلون ويأسرون ، وقد اخذهم الحماس حينما رأوا النبي يباشر الحرب بنفسه ببسالة لم يسمع بمثلها ومن حوله علي وبنو هاشم الذين ثبتوا معه في الساعات الأولى من المحنة التي حلت بهم في ظلمة الفجر ، ولولاهم لانتهت المعركة بنتيجة لم يكن الشرك ليحلم ببعض منها ، ودب الذعر والخوف في صفوف المشركين وأصبح كل انسان يفكر في الطريق إلى الخلاص بعد ان أيقنوا ان المقاومة لا تجديهم وانهم معرضون للفناء عن آخرهم فما هو إلا أن انكشفت المعركة وأسفرت عن هزيمتهم تاركين نساءهم وأولادهم وأموالهم تحت رحمة المسلمين .
وفيما هم يطاردون فلول هوازن واحلافهم أدرك ربيعة بن رفيع السلمي دريد بن الصمة وكان شيخا كبيرا قد حملوه معهم ليستفيدوا من رأيه وتجاربه ، ولقد نصحهم قبل المعركة وحذرهم مما انتهت إليه نتائجها ، وأبى مالك بن عوف ان يأخذ برأيه وبقي معهم في هودج على بعير له ، ولما ادركه ربيعة بن رفيع ظنه قبل ان يكشف الهودج امرأة من اشرافهم ، فلما أناخ بعيره وجده رجلا فسأله من أنت ؟ قال انا دريد بن الصمة وما تريد مني قال : أريد ان أقتلك ، ثم ضربه بالسيف فلم يصنع شيئا فقال له دريد بئس ما سلحتك أمك خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل ثم اضربني به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ ، فإني كذلك كنت اقتل الرجال ، وإذا اتيت أمك فأخبرها انك قد قتلت دريد بن الصمة ، فرب يوم قد متعت فيه نساءك ، ثم قتله .
ولما رجع إلى أمه وأخبرها قالت : واللّه لقد اعتق لك ثلاث أمهات في غداة واحدة انا وأمي وأم أبيك .
وتتبع المسلمون هوازن حتى بلغوا اوطاسا وهناك أوقعوا بهم شر هزيمة وسبوا من حملوه معهم من النساء حتى بلغ عدد الأسرى ستة آلاف أسير ، واحصوا الغنائم فكانت اثنين وعشرين ألفا من الإبل ، وأربعين ألفا من الشياه ، وأربعة آلاف أوقية من الفضة وغير ذلك مما حملوه معهم من الأمتعة .
وكانت الشيماء بنت الحارث بن عبد اللّه بن عبد العزى أخت الرسول من الرضاعة مع السبي فقالت للمسلمين : اني واللّه أخت صاحبكم من الرضاعة فأتوا بها رسول اللّه ( ص ) فلما رأته قالت اني أختك من الرضاعة يا رسول اللّه كما جاء في رواية الطبري ، قال وما علامة ذلك ، قالت عضة عضضتنيها في ظهري وانا مدركتك ، فلما عرفها رسول اللّه ( ص ) قام وبسط لها رداءه واجلسها عليه وقال لها ان أحببت ان تقيمي عندي محببة مكرمة ، وان أحببت امتعتك وترجعين إلى قومك ، قالت بل متعني وردني إلى قومي ، فأعطاها وردها على قومها معززة مكرمة .
ثم جمع السبي والأموال فجمعت في محل واحد ، وجعل على حراستها بديل بن ورقاء وجماعة من المسلمين ، وامرهم ان ينتقلوا بها إلى الجعرانة ويقوموا بحراستها إلى أن يعود من مطاردة العدو ومن حصار الطائف ، وكان مالك بن عوف قد فر مع ثقيف إلى الطائف ، فأمر النبي أصحابه ان يسيروا إلى الطائف ليحاصروا أهلها ، طمعا في اسلامهم ، وكانت الطائف مدينة محصنة لها أبواب تغلق عليها ، وأهلها مع ذلك ذوو خبرة بالحرب وثروات طائلة مكنتهم ثرواتهم ان يجعلوا حصونهم من امنع الحصون .
وسار المسلمون في طريقهم إلى الطائف تاركين وراءهم اسرى حنين وغنائمها تحت الحراسة ريثما يرجعون من الطائف وفي طريقهم إلى الطائف في مكان يدعى ليه مروا بحصن لمالك بن عوف فهدموه وفي مكان يدعى نخب نزل النبي بمن معه تحت سدرة يقال لها الصارة ، وإلى جانبها حائط لرجل من ثقيف ، فأرسل إليه رسول اللّه اما ان تخرج وإما ان نخرب عليك حائطك فلما امتنع من الخروج امر رسول اللّه بتخريبه ، ومضى رسول اللّه حتى نزل على مقربة من الطائف ، وجمع أصحابه ليفكروا بما يصنعون ، ولكن ثقيفا ما لبثت حين رأت تلك الجموع قد نزلت على مقربة من حصونها ما لبثت ان امطرتهم بوابل من النبال ، فأصابت جماعة من المسلمين ، مما دعا النبي ( ص ) ان يتخذ للمسلمين مكانا ابعد عن مرمى النبال والسهام ، فانتقلوا إلى مكان آخر وضربوا فيه خيامهم .
وأقام المسلمون أياما ينتظرون ان يواجههم العدو ، ولكن ثقيفا لم تكن على استعداد للمواجهة بعد تلك الهزيمة التي منيت بها مع احلافها في حنين ، وأدركت انها لا تستطيع ان تثبت في وجه محمد وأصحابه أكثر من ساعات قلائل ، ولما ذا تعرض نساءها وأموالها لخطر الغنيمة والأسر وهي تملك من الذخائر والمؤن ما يكفيها لأمد طويل ، وتعلم أن أسلحة المسلمين لا تمكنهم من اجتياح تلك الحصون المنيعة ، وما عليهم الا ان ينتظروا والانتظار قد يطول ، وهو لصالحهم أكثر منه لصالح المسلمين .
وأشار عليهم سلمان الفارسي كما في بعض الروايات باستعمال المنجنيق ، ولم يكن معروفا عند العرب قبل ذلك فصوره لهم وصنعوه وقذفوا به الصخور إلى ما وراء الحصون ، وكان قليل الجدوى لم يكن يؤثر على حصونهم ولا على اعصابهم فاستعملوا نوعا آخر من الأسلحة كان لبعض القبائل المقيمة بأسفل مكة علم بها وهو الدبابة وهي آلة يدخلون في جوفها تقيهم النبال والسيوف ، ثم يندفعون بها إلى الحصون ومنها ينفذون إلى ما وراءها ، ولكن رجال الطائف كانوا من المهارة بحيث اكرهوا هؤلاء على أن يلوذوا بالفرار ، فقد حموا قطعا من الحديد بالنار وقذفوا الدبابة بها فأحرقتها ولاذ من بها بالفرار ولما خرجوا منها رشقوهم بالنبال فأصابوا رجالا منهم .
ولم يبق للنبي من وسيلة للضغط عليهم الا الالتجاء إلى تقطيع الكروم والأشجار وكانت الطائف غنية بالكروم ومختلف أنواع الأشجار المثمرة عساهم يستسلمون عندما يرون املاكهم قد تعرضت للخطر ، وبدلا من أن يستسلموا ارسلوا إلى النبي ( ص ) يناشدونه ان يكف عنها لأصحابها أو يأخذها لنفسه ، فأمر عند ذلك أصحابه بالكف عنها .
ثم نادى مناديه أهل الطائف انه سيعفو عن كل وافد إليه منهم ، ففر إليه جماعة ، منهم أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة فأخبر النبي انهم يملكون من المؤن والذخائر ما يكفيهم زمنا طويلا ، فاستدعى رسول اللّه نوفل بن معاوية الدؤلي واستشاره في امرهم ، فقال نوفل : يا رسول اللّه ان ثقيفا كثعلب في جحر فإن أقمت عليه اخذته وان تركته لم يضرك ، وكان قد مضى على النبي نحو من خمسة عشر يوما أو تزيد ، وقد أصبحوا على أبواب ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم ، وقد حرم فيه الإسلام القتال ، فآثر النبي ( ص ) ان يرفع الحصار عنهم ويرجع بمن معه إلى الجعرانة حيث الأسرى والغنائم ، ومنها إلى مكة ثم إلى المدينة على أن يعود إلى الطائف بعد انقضاء الأشهر الحرم ، فيما لو أصرت القبائل المتحصنة بالطائف على موقفها المعادي للإسلام ، وانصرف عنهم ومعه المسلمون إلى الجعرانة حيث تركوا غنائمهم وأسراهم .
وأدركت هوازن حراجة الموقف ، وان نساءهم وأموالهم ستصبح غنيمة لمحمد ومن معه من المسلمين وفيهم الكثير ممن التحقوا فيه طمعا في الغنيمة ، ولو كانت الأموال وحدها لكان بإمكانهم ان يتجاهلوها ويتغاضوا عنها ، ولكنها النساء والأطفال ستة آلاف بين امرأة وطفل قد أصبحوا غنيمة للمسلمين والمتظاهرين بالإسلام ، وبنتيجة التداول فيما بينهم اتفق رأي الأكثرية منهم على أن يستسلموا للنبي ويدخلوا في الاسلام الذي كاد ان يصبح بين عشية وضحاها دين الجزيرة بكاملها ، فأرسلوا وفدا منهم إلى النبي ( ص ) يعتذرون إليه ويعلنون إسلامهم بين يديه ليرد عليهم نساءهم وأطفالهم ، فبلغ الوفد الجعرانة والنبي يوزع الغنائم بعد ان اختص بخمسها ، وكان الوفد مؤلفا من أربعة عشر رجلا من شيوخهم كما في بعض المرويات وفيهم رجل يدعى ابا ثردان ، أو أبا برقان عم رسول اللّه من الرضاعة ، ورئيس الوفد زهير بن صرد فقال له عمه من الرضاعة : يا رسول اللّه ان في هذه الحظائر من كن يكفلنك من عماتك وحالاتك وحواضنك وقد حضناك في حجورنا وارضعناك بثدينا ، ولقد رأيتك رضيعا فما رأيت رضيعا خيرا منك ، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك ، ثم رأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك وقد تكاملت فيك خلال الخير ، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك فامنن علينا منّ اللّه عليك .
وقال زهير بن صرد : يا رسول اللّه انا أهل وعشيرة وانما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وخواضنك ولو انا رجعنا إلى أبي شمر الغساني ، أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه وأنت خير الناس أجمعين ، ثم انشد قائلا :
امنن علينا رسول اللّه في كرم * فإنك المرء نرجوه وندخر
امنن على نسوة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهر ما غير
ومن غير المعقول ان يضيق عطف النبي عنهم ويتسع لأبي سفيان وزوجته هند ، ولقريش التي لم تترك وسيلة من وسائل العنف الا وجربتها ولغير قريش من العشرات هنا وهناك ، فلا بد وان يتسع لهوازن التي جاءت تعلن الطاعة وتطلب العفو وفيها بنو سعد وقد عاش بينهم النبي ( ص ) أكثر من اربع سنوات كان فيها المجتبى عند الجميع ، وهو الذي حث على المعروف وكافأ عليه وكان جزءا من رسالته .
وهل من المعقول ان ينسى لهم تلك المواقف وبالأمس القريب جاءته الشيماء أخته من الرضاعة فبسط لها رداءه واجلسها عليه وأغناها من عطائه ، لقد كان عرفان الجميل من ابرز خصاله والعفو عند الظفر من أحب الأمور لديه ، فقال لهم : نساؤكم وابناؤكم أحب إليكم أم أموالكم ، فقالوا يا رسول اللّه لقد خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا ونحن لا نختار على نسائنا وأولادنا شيئا .
فقام خطيبا في المسلمين وكان مما قال : ان اخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين ويرغبون ان تردوا عليهم سبيهم ، الا وإن ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لهم والتفت إلى هوازن وقال : إذا انا صليت الظهر فقوموا وقولوا : انا نستشفع إلى رسول اللّه بالمسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول اللّه في أبنائنا ونسائنا ، فلما فرغ من صلاة الظهر نفذت هوازن ما قاله النبي ، فأجابهم اما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وقام المهاجرون فقالوا ما كان لنا فهو لرسول اللّه ووقف الأنصار نفس الموقف .
ووقف الأقرع بن حابس وقال اما انا وبنو نعيم فلا نترك حقنا ووقف عيينة بن حصن عن بني فزارة نفس الموقف ، وقام العباس بن مرداس فقال اما انا وبنو سليم فلا نرد عليهم شيئا ، ولكن بني سليم رجعوا فقالوا ما كان لنا فلرسول اللّه ووقف رسول اللّه ، وقال للذين تمسكوا بحقهم في السبي : ان هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين وكنت خيرتهم بين السبي وبين الأموال فاختاروا نساءهم وأبناءهم ، الا ومن تمسك بحقه في هذا السبي فليتركه لهم وله بكل انسان ست فرائض[3] فطابت نفوسهم بذلك وترك الجميع حقهم واسترجعت هوازن النساء والأبناء بعد ان اعلنوا اسلامهم . وسأل النبي ( ص ) وفد هوازن عن مالك بن عوف الذي قاد تلك الجموع ، فقالوا هو بالطائف وقد التجأ إليها مع ثقيف ، فقال لهم أخبروه ان اتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل ، فلما أخبروه بمقالة الرسول خرج متخفيا وجاء إلى النبي ( ص ) فأسلم فرد النبي عليه أهله وماله وأعطاه ما وعده به ، واستعمله على قومه وعلى من اسلم من القبائل حول الطائف .
ولما انتهى النبي ( ص ) من هوازن ورد عليهم نساءهم وأموالهم ركب وأراد ان يسير بالناس باتجاه مكة فالتف حوله المسلمون وقالوا يا رسول اللّه اقسم علينا فيئنا وخافوا ان يهب الغنائم لمن يفد عليه من الأعراب مسلما كما صنع مع مالك بن عوف ، وما زالوا يتدافعون عليه حتى ألجئوه إلى شجرة هناك واختطف عنه رداؤه ، فقال ردوا علي ردائي أيها الناس فو اللّه لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ، ثم ما الفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ، ثم قام إلى جانب بعير واخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها وقال أيها الناس :
واللّه ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة الا الخمس والخمس مردود عليكم .
واتجه إلى توزيع الغنائم وبدأ بالمؤلفة قلوبهم ، فأعطى أبا سفيان وابنيه معاوية ويزيد وحكيم بن حزام والعلاء بن جارية الثقفي والحارث بن هشام وصفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وعيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ومالك بن عوف النصري لكل واحد منهم مائة بعير ، واعطى دون ذلك لآخرين منهم مخرمة بن نوفل الزهري وعمير بن وهب وهشام بن عمرو واعطى سعيد بن يربوع وعامر بن مخزوم وجماعة غيرهما لكل واحد خمسين بعيرا ، وقيل أقل من ذلك ، واعطى العباس بن مرداس أربعين بعيرا ، فلم يرض بهذا المقدار بعد ان أعطي لغيره أكثر من ذلك ، فقال في ذلك معاتبا لرسول اللّه ( ص ) وقيل أعطاه أربعة اباعر :
كانت نهابا تلافيتها * بكدي على المهر في الأجرع
وايقاظي القوم ان يرقدوا * إذا هجع الناس لم اهجع
فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع[4]
وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع
وجاء في رواية المفيد في الإرشاد ان النبي ( ص ) لما سمع قوله : قال لعلي ( ع ) قم يا علي واقطع لسانه ، فقال العباس بن مرداس : واللّه لهذه الكلمة كانت أشد علي من يوم خثعم حين اتونا في ديارنا ، فأخذ بيدي علي بن أبي طالب وانطلق بي ولو كنت أدري أحدا يخلصني منه لدعوته ، فقلت يا علي انك قاطع لساني فقال إني لممض فيك امر رسول اللّه ، فما زال بي حتى ادخلني الحظائر فقال لي اعتد ما بين أربعين إلى مائة ، فقلت بأبي أنتم وأمي ما أكرمكم واحلمكم وأعلمكم ، ثم قال : ان رسول اللّه أعطاك أربعين وجعلك مع المهاجرين ، فان شئت فخذها وان شئت فخذ مائة وكن مع أهل المائة ، قلت أشر علي ، فقال إني آمرك ان تأخذ ما أعطاك رسول اللّه وترضى فقلت اني افعل .
واقتصر أكثر المؤلفين في السيرة على القول بأن رسول اللّه لما سمع شعره قال اذهبوا واقطعوا لسانه فاعطوه ما يريد .
ولما تم توزيع الغنائم على هذا النحو وكان القسم الأكبر لأولئك الذين لا يزالون يبطنون الشرك كأبي سفيان ومعاوية وعكرمة وأمثالهم ، وكان الحرمان من نصيب الأنصار عز ذلك عليهم ، وقال بعضهم : ليست هذه القسمة بعادلة ، وقال آخرون منهم : لقد لقي محمد قومه وما يصنع بنا بعد ذلك إلى غير ذلك مما بدر منهم من الكلمات التي تدل على أنهم لم يرتاحوا لتوزيع الغنائم بالنحو الذي تم توزيعها عليه .
وجاء سعد بن عبادة إلى النبي ( ص ) واخبره بموقف الأنصار ، فقال له النبي ( ص ) فأين أنت من ذلك يا سعد ، قال فما انا إلا من قومي فقال له اجمع لي قومك يا سعد في هذه الحظيرة فجمعهم فجاء النبي ومعه علي ( ع ) وجاء آخرون من المهاجرين فردهم النبي والتفت إلى الأنصار وقال : يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ، ألم آتكم ضلالا فهداكم اللّه وعالة فأغناكم اللّه وأعداء فألف بين قلوبكم اللّه قالوا بلى يا رسول اللّه ، ثم قال الا تجيبونني يا معشر الأنصار قالوا بما ذا نجيبك يا رسول اللّه ولرسوله المن والفضل ، فقال ( ص ) اما واللّه لو شئتم لقلتم وصدقتم ، اتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك ، فارتفعت أصواتهم بالبكاء ، وقام شيوخهم وساداتهم إليه وقبلوا يديه ورجليه وقالوا رضينا باللّه ورسوله وهذه أموالنا بين يديك ، فإن شئت فاقسمها على قومك ، وانما قال من قال منا على غير وغر في صدر وغل في قلب ، ولكنهم ظنوا سخطا عليهم وتقصيرا منهم وقد استغفروا اللّه من ذنوبهم فاستغفر لهم يا رسول اللّه .
فقال رسول اللّه : اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار ، يا معشر الأنصار أما ترضون ان يرجع غيركم بالشاء والنعم وترجعون برسول اللّه ، قالوا رضينا فقال رسول اللّه ( ص ) عند ذلك : الأنصار كرشي وعيبتي لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، فطابت نفوسهم بهذه السياسة الرشيدة الحكيمة .
وخرج النبي ( ص ) بمن معه من الجعرانة متجها إلى مكة في شهر ذي القعدة فأتم عمرته وحل من احرامه واستخلف على مكة عتاب بن أسيد ومعه معاذ بن جبل يفقه الناس بالدين ويعلمهم القرآن وخرج منها متجها إلى المدينة بمن معه من المهاجرين والأنصار ودخلها في الأيام الأخيرة من ذي القعدة بعد انتصارين من أعظم الانتصارات التي حققها في حروبه وغزواته وهما فتح مكة وهزيمة جيش مؤلف من ثلاثين الف مقاتل في حنين هزيمة لم تعرف هوازن واحلافها أسوأ منها ، وتركت هذه الانتصارات المتتالية اثرا بليغا في نفوس عظماء العرب وقادتهم الذين كانوا لا يتصورون ان تضطرهم الأيام للخضوع لمحمد والإقرار له بالطاعة .
وجاء في كتب السيرة انه بعد رجوع النبي من الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى لأخيه الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى يخبره فيه ان محمدا قتل رجالا بمكة ممن كانوا يهجونه ، وان من بقي من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا على وجوههم خوفا من القتل ، فإن كان لك في نفسك حاجة فاقدم على رسول اللّه فإنه لا يقتل من جاءه تائبا ، وإن أنت لم تفعل فانج إلى محل ينجيك منه .
فلما بلغ كعبا كتاب أخيه ضاقت به الأرض واشفق على نفسه من القتل وارجف به من كان معه فأيقن كعب صدق أخيه وإخلاصه في نصيحته له ، وانه ان لم يأت محمدا سيبقى طريدا مشردا ما دام حيا ، فأسرع إلى المدينة ونزل على صديق له ليفاوض له النبي في العفو عنه ، فغدا به على رسول اللّه ( ص ) فجلس كعب بين يدي رسول اللّه ووضع يده في يده ورسول اللّه لا يعرفه ، فقال له يا رسول اللّه : ان كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما ، فهل أنت قابل منه ان انا جئتك به ، فقال رسول اللّه نعم : فعندها قال له كعب بن زهير :
انا كعب بن زهير يا رسول اللّه ، فأسلم وعفا عنه وانشده قصيدته التي يقول في مطلعها :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم إثرها لم يفد مكبول[5]
وما سعاد غداة البيت إذ رحلوا * إلا أغن غضيض الطرف مكحول
ويقول فيها :
نبئت ان رسول اللّه أوعدني * والعفو عند رسول اللّه مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة * القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم * أذنب ولو كثرت في الأقاويل
وقد مدح فيها المهاجرين وتجاهل الأنصار ، فلما أتمها قال له النبي ( ص ) هلا ذكرت الأنصار بخير فإنهم لذلك أهل ، فنظم الأبيات التي يقول فيها :
من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالح الأنصار[6]
ورثوا المكارم كابرا عن كابر * ان الخيار هم بنو الأخيار
الناظرين بأعين محمرة * كالجمر غير كليلة الإبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم * للموت يوم تعانق وكرار
فأكرمه رسول اللّه ونزع بردة كانت عليه وألبسه إياها .
وجاء في تاريخ الطبري ان رسول اللّه خلال الأيام القليلة من رجوعه إلى المدينة تزوج من فاطمة بنت الضحاك بن سفيان فاختارت الدنيا عندما خير رسول اللّه نساءه ، وأضاف إلى ذلك انها استعاذت باللّه منه ففارقها .
وجاء في بعض المرويات ان عائشة قالت لها : ان النبي يعجبه إذا دخل على نسائه ان يقلن له : أعوذ باللّه منك فأخذت بقولها وقالت له ذلك فطلقها قبل ان يتصل بها .
[1] يعني بذلك انه مكان صالح للحرب لا كثير الاصحار ولا كثير التراب .
[2] تاريخ الخميس في أصول أنفس نفيس للشيخ حسين الديار بكري ص 102 .
[4] بشير بذلك إلى تفضيل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في العطاء عليه .
[6] المقنب : الجماعة من الخيل ويريد به القوم على ظهور جيادهم .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة