إحياء التراث القديم (الطور اللاتيني)
المؤلف:
أ. د. عبد العظيم رمضان
المصدر:
تاريخ أوربا والعالم الحديث من ظهور البرجوازية الأوربية الى الحرب الباردة
الجزء والصفحة:
ج1 ص 57 ــ 60
2025-12-08
31
وقد اتجه الاهتمام في المدن الإيطالية في بادئ الأمر إلى التراث الروماني - كما ذكرنا - ولذا عرفت هذه المرحلة الأولى من عصر النهضة بالطور اللاتيني لإحياء التراث القديم.
ويمثل فرانشيسكو بترارك Petrarch هذه المرحلة مرحلة الانتقال بين العصور الوسطى والنهضة بشكلها المتكامل، إذ يُعزى إليه الفضل الأول فى تنشيط الدراسات اللاتينية. وقد بالغ البعض في تقدير دور بترارك في إحياء الدراسات اللاتينية. فيصور أحيانا على أنه المنقذ للكتابات اللاتينية من النسيان. على أن الحقيقة أن اللغة اللاتينية، وكما هو معروف، كانت هي لغة الأدب والعلم في العصور الوسطى، ولكن المشكلة كانت تتمثل في أن أصحاب التفكير المدرسي من أساتذة العصور الوسطى كانوا منشغلين بالتفكير الفلسفي والديني. ومن ثم فلم يبذلوا أي جهد في التعمق في روح القدماء الذين كانوا يبدون لهم وثنيين ويعيشون في عالم غير مفهوم أو مكروه.
لذلك فإن فضل بترارك يتمثل في أنه اكتشف ما تحمله كتابات القدماء من اتجاهات إنسانية تفتح لها عقله، واستطاع أن يتذوقها، ذلك أن ما جعل هذه المؤلفات اللاتينية تجد طريقها إلى نفس بترارك، هو أنها كانت بمثابة التعبير الحر لمجتمع المدينة في مواجهته للمشاكل الإنسانية، فمجتمع المدينة في إيطاليا كان يمر في نفس التجارب التي مر بها أسلافه الرومان.
لهذا فإن الأدب اللاتيني القديم الذي كان يقرأ قبل بترارك لا باعتباره أدبا لذاته، وإنما لما يحتويه من حقائق ومعان، وبالتالي كان تأثيره الأدبي ضئيلا في كتابات العصور اللاتينية - قد أصبح منذ ظهور بترارك يلقى ترحيبا، لأنه يشمل فكرة جديدة في الحياة أكثر انطلاقا وحيوية من أفكار العصور الوسطى، فكرة تفتح مجالا واسعا للمشاعر الإنسانية لتذوق الجمال ولجميع أنواع النشاط الإنساني.
وهذا هو السبب في أنه أطلق على آدابها اسم الآداب الانسانية Litterae Humanae لأنها تدور حول حياة الإنسان وما يتصل بها، على العكس من ثقافة العصور الوسطى التي انحصر اهتمامها في الروحانيات والعالم الآخر.
وتتضح الروح الإنسانية في كتابات بترارك في وصفه الرقيق لجسد الإنسان على نحو تأباه تقاليد العصور الوسطى، كما تتضح في كلامه عن معشوقته لورا Laura. فهو يعبر عن حبه وعواطفه بصراحة ودون تحرج.
ونجد مثالا آخر لتحرر بترارك من روح العصور الوسطى في تفكيره السياسي. فقد شغل بأحوال إيطاليا السياسية وخلافاتها الداخلية التي لا تنقطع بين الإمارات، وبالفساد والفوضى فيها، فدعا إلى تغيير هذه الحالة متأثرا في ذلك بعهد الجمهورية الرومانية القديمة، وطالب بوحدة إيطاليا السياسية، مما تعد دعوة جديدة حتى بالنسبة لعصره.
لذلك أطلق على بترارك: «أبو الحركة الإنسانية»، وتوج كشاعر عظيم في الكابتول Capitol (1) في روما عام 1341م من أجل ملحمته اللاتينية الشهيرة «افريقية»، وأن لم يقدر له أن يكملها حتى وفاته.
ويعتبر جيوفاني بوكاشيو Boccaccio (1313 – 1375) أنشط تلاميذ بترارك، وقد خالفه في أنه كتب بالإيطالية إلى جانب اللاتينية، وترجع شهرته إلى مجموعة قصصه التي أنهاها عام 1358م تحت اسم «ديكاميرون» Decameron على طراز ألف ليلة وليلة، وتضم مائة قصة أظهر فيها سخريته من تقاليد وخرافات العصور الوسطى. وتشيع فيها نظرة باسمة للحياة الدنيا تعتبر نظرة جديدة على العصور الوسطى التي اتصفت بالتزمت واحتقار الحياة الدنيوية.
ولم يقتصر بوكاشيو على ذلك، فقد درس مؤلفات الرومان وذهب إلى القسطنطينية ينشد التعمق في الدراسات الإغريقية فكان أول إيطالي في النهضة استطاع أن يحرز بعض التقدم في دراسة اليونانية، وترجم الإلياذة وال أوديسة لهوميروس إلى اللغة اللاتينية من أجل أستاذه بترارك.
وقد بلغ من تحمس الناس للغة اللاتينية الفصحى والتراث الروماني أنهم أخذوا يسمون أبناءهم بأسماء رومانية. وحاولوا محاكاة الرومان في ملبسهم وطريقة كلامهم وخصالهم، حتى إن شاعر إيطاليا العظيم دانتي Dante الذي كان أول من كتب باللغة الإيطالية القومية الحديثة، درس اللاتينية وكتب بعض مؤلفاته الصغرى بها، مثل كتابه عن اللغة العامية»، وكتابه الآخر «عن الملكية».
.........................................................
(1) معبد للاله جوبيتر Jupiter وقلعة أقيمت فوق تل كابيتولين، أحد تلال روما
الاكثر قراءة في التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة