خطبة أمير المؤمنين في أنّ الأئمة في أعلى درجات القرآن
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج4/ص55-58
2025-12-06
36
نجد الإمام في إحدى خطبه التي يحذّر الناس فيها من اتّباع علماء السوء الذين يخدعون الناس بظاهرهم، ويرغّبهم في اتّباع عترة الرسول الأعظم، يصرّح بأنّه الامتداد الطبيعيّ لرسول الله، ويريد أن يفهم الناس بأنّ النبيّ لم يمت، وهو (الإمام) موجود بينهم. وبعد أن يشرح الصفات التي يتحلّى بها أولياء الله، يقول: "وَ آخَرُ قَدْ تَسَمّى عَالِماً ولَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهائِلَ مِنْ جُهّالٍ وأضَاليلَ مِنْ ضُلّالٍ، ونَصَبَ لِلنّاسِ شِرَكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ على آرائِهِ وعَطَفَ الْحَقَّ على أهْوَائِهِ، يُؤَمِّنُ مِنَ الْعَظَائِمِ ويُهَوِّنُ كَبيرَ الْجَرائِمِ، يَقُولُ: أقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، وفِيهَا وَقَعَ، وأعْتَزِلُ الْبِدَعَ، وبَيْنَها اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إنسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيْوَانٍ، لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، ولَا بَابَ الْعَمى فَيَصُدَّ عَنْهُ، فَذَلِكَ مَيِّتُ الأحْيَاءِ، فَأيْنَ تَذْهَبُونَ وأنّى تُؤْفَكُونَ؟ والأعْلامُ قَائِمَةٌ والآياتُ وَاضِحَةٌ والْمَنارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ بَلْ كَيْفَ تَعْمَهُونَ؟ وبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ[1] وهُمْ أزِمَّةُ الْحَقِّ وأعلَامُ الدِّينِ وألْسِنَةُ الصِّدْقِ، فَأنْزِلُوهُمْ بِأحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرآنِ، ورِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ. أيُّهَا النَّاسُ خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنّا ولَيْسَ بِمَيِّتٍ، ويَبلى مَنْ بلى مِنّا ولَيْسَ بِبَالٍ» فَلا تَقُولُوا بِمَا لا تَعْرِفُونَ فَأنّ أكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ، وأعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وأنَا هُوَ".[2]
وقد ارتبك ابن أبي الحديد في معنى الفقرتين الأخيرتين من الخطبة، فَشَطَّ في شرحهما وذهب بعيداً عن معناهما وحقيقتهما. إذ يقول: أنّ (كلام رسول الله) هذا يمكن أن يحمل على وجهين: الأوّل: أنّ أمواتنا لا يموتون بل يرفعهم الله إلى ملكوت سماواته. وعلى هذا لو قدرنا أنّ محتفراً احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دفنها، لم يجد الأبدان في الأرض، إلّا أنّ هذا الاحتمال لا يتلاءم مع الفقرة الثانية من كلام النبيّ، إذ يقول: مَنْ بلى مِنّا، فلا بدّ في هذه الجملة من تقدير، وهو: ويَبلى كَفَنُ مَنْ بلى مِنّا.
الثاني: أنّ في وجود كلّ إنسان ذرّات أصليّة. وأنّ الله تعالى يأخذ تلك الذرّات الأصليّة من قبور النبيّ والأئمّة تكريماً وتعظيماً لهم، فيرفعها إليه بعد أن يخلق لها من الأجزاء الفاضلة عنها نظير ما كان لها في الدنيا فتصير إنساناً كاملًا، وهو نفس ذلك الإنسان الميّت من أهل البيت، لذلك فهم لم يموتوا.[3]
بَيدَ أنّ نظرة عابرة نلقيها على هذا الكلام تفيدنا أنّ الشارح قد شَطَّ في إدراك معناه، فأمير المؤمنين لا يريد في هذه الخطبة أن يبيّن حديثاً من أحاديث الرسول الأكرم، بل أنّه لمّا طلب من الناس الرجوع إلى العترة المتمثّلة به حينئذٍ، فقد ذكر ذلك الحديث شاهداً ودليلًا على كلامه، فهو يريد أن يقول للناس: إن لم تقبلوا منّي، فاسمعوا كلام النبيّ إذ يقول ما مضمونه: نحن لا نموت بل نحن أحياء دائماً، أي كأنّ وجودي (وجود الإمام) هو وجود النبيّ، واستمرار لحياته. أيّها الناس، أنّ النبيّ لم يمت وإن كان قد مات، لأنّني أنا بنفسي حيّ بينكم، وحياتي هي حياة النبيّ. وبكلمة بديلة، فأنّه يريد القول بأنّه مرآة تامّة الظهور لتلك الحقيقة التي كان النبيّ مرآة تامّة الظهور لها من جميع الجهات، وتلك الحقيقة هي الولاية الإلهيّة المطلقة الكبرى التي ظهرت في النبيّ أيّام حياته فكان.
مظهراً تامّا للأسماء الإلهيّة، واليوم قد ظهرت فيّ. فمعنى كلام الرسول الأكرم هو أنّ موت أبدانها وبِلاها تحت الثرى لا يفضي إلى موت وبلى تلك المعارف الإلهِيّة والعلوم الربّانيّة، والتصرّف في عالم الكون وبالتالي تلك الولاية. فهي حيّة وخالدة دائماً لأنّ روحنا حيّة، وأنّ تلك الحياة هي روحنا التي تجلّت في وصيّنا. وهذا في الحقيقة هو معنى الميراث الذي ورثه أمير المؤمنين عليه السلام من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}.
والشاهد على هذا هو أنّ الإمام نفسه قد صرّح، بعد ذكر هاتين الجملتين، نقلًا عن خاتم المرسلين فقال: "فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ فَأنّ أكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ، وأعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وأنَا هُوَ".
[1] ومراده من عترة النبيّ نفسه المقدّسة، فهو يريد القول أنّهم لا بدّ وأن يرجعوا إليه لحلّ الأزمات والمشاكل الدنيويّة والاخرويّة ولفتح أبواب السعادة والتمتّع بالمواهب الإلهيّة.
[2] الخطبة 85، من «نهج البلاغة» ص 153 و154، طبع عبدة، مصر.
[3] «شرح نهج البلاغة» ج 6 ص 377 و378. وبالطبع فقد نقلنا كلامه هنا موجزاً.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة