بحث حول مفهوم الميتة الجاهليّة ومعنى الرواية «من مات ولم يعرف إمام زمانه»
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج3/ص23-27
2025-11-27
57
مفادها ودلالتها فممّا ينبغي التوقّف عندهما طويلًا. وينبغي قبل كلّ شيء أن نعرف ما معنى الميتة الجاهليّة؟ وما هي الدرجة التي كان عليها أهل الجاهليّة من الشقاء والتعاسة بحيث أنَّ الذي يموت بلا إمام، فإنَّه يموت كموتهم؟ ومع أنَّ هذا الشخصِ يتّبع القرآن والسنّة النبويّة، بَيدَ أنَّه في نفس الوقت لا يرى الإمام مربّياً له؛ ويقيم أحكام الإسلام وفق ما يمليه عليه هواه فهو كأهل الجاهليّة. وإنَّ أهل الجاهلية على نقيض أهل الإسلام، وهم وأهل الإسلام قطبان مختلفان متباعدان من حيث الشقاء والسعادة. وكانت جميع القبائح والرذائل الأخلاقيّة والمفاسد الاجتماعيّة والانحرافات العقائديّة موجودة عند أهل الجاهليّة، نحو القتل، وذبح الأطفال والناشئين قرابين أمام الأصنام، ووَأد البنات البريئات، وشرب الخمر، والسرقة وقطع الطريق، والقمار، والربا الفاحش، والزنا وهتك الأعراض، والشرك وعبادة الأصنام وسائر المفاسد الروحيّة، وقساوة القلب، والشغف بالماديّات، وفقدان الحميّة والإنصاف.
أما في التربية الإسلاميّة فإنَّنا نجد الرحمة والمروءة، والصفاء والوفاء، والإيثار والصفح، والحياء والعفّة، ومعرفة الله وعبوديّته والمعاملات حسب تراضي الطرفين، وحفظ الحقوق الفرديّة والاجتماعيّة، والتضحية من أجل هداية الكفّار والمشركين، واحتضان اليتامى والإحسان إلى الفقراء والمعوزين، والبصيرة، وحصول اليقين، وانشراح الصدر، وتجلّي الأنوار الملكوتيّة الإلهيّة في القلب، بحيث يمكننا أن نعتبر أصحاب هذه الفضائل من أهل العلم، واولئك من أهل الجهل، وهؤلاء من أهل النور. واولئك من أهل الظلمة، وهؤلاء من أهل الارتقاء والتكامل، واولئك من أهل الجمود والنقصان، وهؤلاء من أهل التحليق والوثبات، واولئك من أهل الوقوف والمراوحة في أماكنهم. وكلّ تلك الرذائل التي يتّصف بها اولئك التعساء هي بسبب جهلهم. وجميع الفضائل المذكورة لأهل الإسلام هي بسبب العلم ودفقات النور المكثّفة في أرواحهم. ولذلك أطلق القرآن الكريم على ذلك العصر: اسم الجاهليّة، وعلى هذا العصر: اسم الإسلام.
إنَّ المسلمين انضووا تحت لواء القطب الموجب بسبب اتّصالهم بالنبيّ الكريم وتلقّيهم التعاليم منه. أمّا الجاهليّون فإنَّهم صاروا في القطب السلبي بسبب عدم وجود الموجّه والمرشد، ونتيجة لتصرّم وشيجتهم مع الهدى الإلهيّ، لذلك أطلق القرآن المجيد عنوان الجهل على أهله بديلًا عن أكبر سبّ ولعن وفحش واستياء وتذمّر، وجعل عنوان الجاهليّة في هويّاتهم معرّفاً لهم ولانتمائهم معبّراً عن انبثاق جميع هذه المفاسد عن الجهل. والجهل أكبر ذنب لا يغتفر. ومتى ذكر عنوان الجهل والجاهليّة فإنَّه يستغني عن ذكر أيّ عيب آخر. وهذا العنوان وحده جامع لكافّة العناوين القبيحة. وعند ما يريد أن ينتقد عملًا أو عقيدة إلى الحدّ الأخير فإنَّه يطلق صفة الجاهليّة على ذلك العمل أو تلك العقيدة. قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}[1]، وقال: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ}[2].
وقال: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ}[3] وقال: {قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ}[4] وقال على لسان موسى في جواب قومه عند ما قالوا له: أ تَتَّخِذُنَا هُزُواً؟: {قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ}[5].
فاذا كانت ممارسات أحد المسلمين وأعماله طاعةً لهواه ومشتهياته وكان متمرّداً على الإمام الحيّ عاصياً له، فما الفرق بينه وبين أهل الجاهليّة؟ إنَّهم معاندون وهو معاند أيضاً، وعناد هم خاصّ، وعناده بنمط خاصّ أيضاً. فإذا لم يكن هناك انشداد حقيقيّ إلى الإمام، فما هو الفرق- إذاً- بين ذلك النمط وهذا النمط؟ لأنَّ حقيقة عدم الانشداد، حيث ظلمة الهوى والميل النفسانيّ، واحدة عند الاثنين. والكمال والسموّ الذي ارتقى إليه المسلمون كان بسبب الانشداد إلى النبيّ، ولو انفصم عقد الانشداد إلى الإمام بعد النبيّ، فتلك هي حقيقة الجاهليّة التي تجلّت بهذا النمط، لذلك فإنَّ الإنسان بلا إمام، ستكون حياته وموته كحياة أهل الجاهليّة وموتهم. فالإمام هو الذي يحيى الإنسان بالتعليم والتربية الخارجيّة، وعلى أثر إشراقات الأنوار الملكوتيّة يحيى الباطن، ويرتبط القلب المظلم بمبدأ النور والإشعاع، ويبلّ غليل الإنسان ويرويه.
روي عن كتاب «كنز الفوائد» للكراجكيّ بإسناده المتّصل عن سلمه بن عطا، عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قالَ: «خَرَجَ الْحُسَيْنُ بنُ عَلِيّ عليهما السّلامُ ذَاتَ يَومٍ على أصْحَابِهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ جَلَّ وعَزَّ والصَّلَاةُ على مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. يَا أيُّهَا النّاسُ! إنَّ اللهَ -وَاللهِ- مَا خَلَقَ الْعِبَادَ إلَّا لِيَعْرِفُوهُ؛ فَإذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ؛ فَإذَا عَبَدُوُهُ اسْتَغْنَوا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَن سِواهُ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بَأبي أنْتَ وامِّي يَا بنَ رَسُولِ اللهِ! مَا مَعْرِفَةُ اللهِ؟ قَالَ: «مَعْرِفَةُ أهْلِ كُلِّ زَمَانٍ إمَامَهُمُ الذي يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ»[6].
يلاحظُ هنا أنَّ الإمام عليه السلام اعتبر معرفة الله هي معرفة الإمام ذاتها؛ لأنَّ الطريق الوحيد لمعرفة الله هو معرفة الإمام. إذ تتحقّق التربية والتعليم وأخذ أحكام الدين بواسطة الإمام. هذا أوّلًا، وثانياً: أنَّ الإمام هو الاسم الأعظم لله، ومعرفته بالنورانيّة هي معرفة الله نفسها؛ لذلك فإنَّ معرفة الإمام لا تستقلّ عن معرفة الله ولا تقبل الانفصال عنها.
وفي هذا الضوء جاءت الرواية عن «قرب الإسناد» للحميريّ، عن ابن عيسى، عن البزنطيّ، عن الإمام الرضا عليه السلام أنَّه قَالَ: «قَالَ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلامُ: مَنْ سَرَّهُ أن لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ حتى يَنْظُرَ إلى الله ويَنْظُرَ اللهُ إليه فَلْيَتَوَالَ آلَ مُحَمَّدٍ ويَتَبَّرأ مِن أعْدَائِهِمْ ويَأتَمَّ بِالإمَامِ مِنْهُمْ، فَإنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ، نَظَرَ اللهُ إليه ونَظَرَ إلى اللهِ»[7].
يستفاد من هذا الرواية أنَّ مقام لقاء الله لا يتحقّق بدون اتّباع الإمام. وأنَّ عشّاق عِزّهِ والفانين فيه سوف لن ينالوا عزّ الوصول ومقام اللقاء ما لم يسلّموا خاضعين في حرم إمامه. لذلك نرى كثيراً من السالكين والعاشقين الذين حرموا من عالم التشيّع في بداية السلوك، لمّا كانت نيّتهم صادقة، وبَدأوا في عملية السلوك بلا عناد ولجاج، انكشف لهم الغطاء في آخر المطاف؛ فأقرّوا بمقام الولاية فأصبحوا من الشيعة المخلَصين، وعلى الرغم من أنَّهم كانوا يعيشون في عصر التقيّة، بَيدَ أنَّ المستفاد من الكلمات والإشارات، بل ومن بعض التصريحات هو أنَّ إرشادهم إلى مقام الحقّ كان مشهوداً.
والجهة الاخرى من البحث حول الحديث المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هي أنَّ الإنسان يجب أن يعرف الإمام الحيّ الظاهر لِئلّا يموت ميتة جاهليّة فالإمام الحيّ، هو المعلّم والمعين وصاحب الولاية الفعليّة المطلقة، والقادر على إفاضة الأنوار الملكوتيّة في قلب المؤمن، والمُسَيطر على عالم المُلك. وأنَّ اتّباع تعاليم الرسول الأكرم وسننه فقط، أو اتّباع الأئمّة الذين ماتوا، سوف لن يؤتي اكله بدون الرجوع إلى الإمام الحيّ، وتلقّى التعليم منه، والتربّي على يديه. وإلّا فما هي الحاجة إلى النبيّ الأكرم نفسه في حين يمكن السير على تعاليم إبراهيم الخليل عليه السلام الذي مات وكان صاحب شريعة؟! وما هي الحاجة إلى مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل الصلوات والسلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله؟! أ لَمْ يَقل ذلك الرجل: كَفَانَا كِتَابُ اللهِ نعمل به ولا نحتاج إلى إمام؟ إنَّ هذا الكلام ليس له قيمة عند أهل الاختصاص. فاتّباع التعاليم الصادرة عن النبيّ أو عن الإمام الذي مات دون الرجوع إلى الإمام الحيّ، هو اتّباع لهوى النفس والميول الشخصيّة. إذ استحسن تلك التعاليم، وأوّلَها كيفما تشتهيه نفسه، ثمّ عمل بها حسب هواه، ولكنّ اتّباع الإمام الحيّ في الحقيقة هو اتّباع الحقّ. مضافاً إلى ذلك فإنَّ الولاية والقدرة الروحيّة هي في الإمام الحيّ. ولذلك فإنَّ جميع استشفاعات أصحاب اليقين وتوسّلاتهم بأولياء الله والأئمّة الطاهرين عليهم السلام هي استشفاعات وتوسّلات بالإمام الحيّ.
[1] الآية 50، من السورة 5: المائدة.
[2] الآية 154، من السورة 3: آل عمران.
[3] الآية 26، من السورة 48: الفتح.
[4] الآية 64، من السورة 39: الزمر.
[5] الآية 67، من السورة 2: البقرة.
[6] «بحار الأنوار» ج 7، ص 18.
الاكثر قراءة في الامامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة