العمليات العسكرية السلجوقية
المؤلف:
أ.د. محمد سهيل طقوش
المصدر:
تاريخ السلاجقة في خراسان وإيران والعراق
الجزء والصفحة:
ص 87 ــ 92
2025-09-09
312
نفذ السلاجقة إلى الجهات الشمالية الغربية من إيران وقاموا بغارات ضد الكرج والأرمن والبيزنطيين سالكين الطرق التقليدية للغزو (1)، ولا يبدو أن الحملات الأولى التي قاموا بها اتخذت طابعاً مفاجئاً ؛ لأن الدولة البيزنطية تعرضت سابقاً، وعلى مراحل متقطعة منذ القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، لغارات كان يقوم بها بعض المغامرين من الأتراك، غير أنها لم تُشكل تهديداً فعلياً للإمبراطورية البيزنطية إذ كان هدفها استطلاع أوضاع المنطقة ونهبها، ولم تتعرض بيزنطية لغارات خطيرة من قبل السلاجقة إلا منذ عهد الامبراطور قسطنطين التاسع مونوماكوس (433 - 447هـ / 1042 - 1055م) حيث بدأ التهديد الفعلي الذي انتهى بفتح السلاجقة القسم الأكبر من آسيا الصغرى.
ارتكب الامبراطور قسطنطين التاسع مونوماكوس خطأ فادحاً عندما استبدل الخدمة العسكرية في المناطق الحدودية الشرقية لآسيا الصغرى بضريبة سنوية؛ لأن ذلك قلل. من عدد الرجال في جيش الحدود، واضطر أن يلجأ في معالجة أمر السلاجقة إلى الأسلوب نفسه الذي لجأ إليه أسلافه في درء الخطر الفاطمي من قبل وهو الامتناع عن مقاومة الغزاة (2).
وقام السلاجقة في عهد الامبراطور المذكور بغارتين كبيرتين على الأراضي البيزنطية قاد الاولى إبراهيم ينال في عام (440هـ / 1048م)، في حين قاد الثانية السلطان طغرلبك في عام (446هـ 1045م)، ونتيجة لهاتين الغارتين تهيأت الفرصة للمغيرين القيام بخطوات مستقبلية، بهدف الاستيطان. أغار إبراهيم ينال على الأبخاز (الكرج) وأرمينية فوصل إلى ملازكرد(3)، وتابع إلى أرزن(4)، وقاليقلا (5) ، وبلغ طرابزون(6) على شاطئ البحر الأسود(7)، ودمر خلال غاراته القرى والضياع والقلاع وسبى وغنم كثيراً، غير أن الكارثة الكبيرة حلت بأرزن المدينة المعروفة بثرائها، ذلك أن إبراهيم ينال حاول انتزاع هذه المدينة التجارية الغنية غير أنه جوبه بمقاومة ضارية من جانب أهلها، فأضرم النار فيها فاحترقت بكاملها، وهلك عدد كبير من سكانها وأسر الباقون الذين بيعوا في أسواق الرقيق، وشكل خراب المدينة أفدح كارثة حلت بأرمينية، وتُعد بداية انهيار الوطن الأرمني(8).
تردَّد الولاة البيزنطيون في بادئ الأمر في اتخاذ أي إجراء ضد المغيرين، غير أنه لما انحاز إليهم أمير الكرج ليبارتس، الذي يُعدُّ من أتباع الامبراطور، نهضوا لقتال إبراهيم ينال فاشتدت الحرب بين الطرفين وأحرز المسلمون السلاجقة النصر، وألحقوا الهزيمة بالجيش البيزنطي، في معركة كابوترو (9)، وكان يساند الجيش البيزنطي في هذه المعركة حكام أرمينية البيزنطية مثل كاميناس وأهارون البلغاري وغريغوار، أحد الأمراء الأقوياء، بالإضافة إلى الأمير الكرجي ليبارتس الذي وقع في الأسر أسر مع جماعة من قادته وغنم المسلمون من الدواب والبغال والغنائم والأموال ما لا يقع عليه إحصاء(10).
ويبدو أن السلطان طغرلبك لم يكن راغباً في فتح باب العداء آنذاك القسطنطينية، ولعله أراد إظهار قوة السلاجقة وأن بإمكانه تهديد الأراضي البيزنطية في الوقت الذي يريد أو أنه أراد التفاهم مع البيزنطيين وتحييدهم في الصراع الذي كان ينوي فتحة مع الفاطميين في بلاد الشام، لذلك أطلق سراح القائد الكرجي ليبارتس بعد مفاوضات جرت بين الجانبين السلجوقي والبيزنطي، والواضح أن الامبراطور بدوره لم يجد حلاً لإطلاق سراح الأمير الكرجي ووقف الغارات السلجوقية على الأراضي البيزنطية، سوى الدخول في مفاوضات مع السلطان السلجوقي(11) .
وطلب السلطان طغرلبك من الامبراطور قسطنطين التاسع مونوماكوس في عام (444هـ / 1052م) السماح له باجتياز أراضي بلاده للوصول إلى بلاد الشام ومصر، لكن الامبراطور رفض الطلب بحجة وجود هدنة بينه وبين المستنصر الفاطمي، ثم طلب منه مقاطعة الفاطميين فأجابه: صاحب مصر مجاور لنا وبيننا وبينه هدنة وقد بقي منها سنتان ولا يمكن فسخها (12).
ويبدو أن الدولة البيزنطية لم تكن راغبة في السماح للسلاجقة المندفعين بقوة بالتمركز على حدودها؛ لأنهم قد يشكلون خطراً عليها وفضَّل البيزنطيون التعاون مع الفاطميين الضعفاء للوقوف في وجه الزحف السلجوقي. وهكذا فشلت محاولة السلطان التفاهم مع البيزنطيين للتفرغ للقضاء على الدولة الفاطمية، ولا شك بأن هذا الرفض لمشروع المشاركة في تدمير الفاطميين كان من الأسباب التي حملت السلطان طغرلبك على مباشرة الحرب بنفسه على جبهة أرمينية قبل أن يتوجه إلى بغداد، وأذن لأتباعه التركمان بمهاجمة إقليم قارص. والواقع أن غارات هؤلاء لم تنقطع، واستمر المغامرون منهم يشعلون نار الحرب (13)، وكان اجتياح الإقليم المذكور مقدمة للحملة الكبيرة التي سيقوم بها السلطان طغرلبك ضد الأراضي البيزنطية.
وفعلاً قاد السلطان في عام (446 هـ / 1054م) الحملة الكبيرة الثانية إلى داخل الأراضي الأرمنية وقد تجهَّز بالفيلة والعربات وآلات الحصار، فأغارت عساكره على المناطق الواقعة بين بحيرة فان وسهل أرزن والجبال الواقعة خلف طرابزون بالإضافة إلى أنحاء متفرقة من أرمينية، وفتحت مدينة باركري الواقعة على الطريق بين أرجيش وخوي شمال غربي بحيرة فان، ثم سارت نحو أرجيش القريبة من خلاط، فطلب أهلها الأمان لقاء فدية وقد شملت كميات كبيرة من الذهب والخيول والبغال، توجهت بعدها إلى ملازكرد وحاصرتها وضيَّقت على أهلها، ولكنها فشلت في اقتحامها، فرفع السلطان الحصار عنها، وأرسل بعض فرقه العسكرية لتغير على أنحاء متفرقة من أرمينية، وتوجه مع بقية الجيش نحو مدينة أرزن الواقعة إلى الشمال الغربي من إقليم باسيان فاستولى عليها ثم عاد أدراجه إلى ملازكرد ليضع عليها الحصار مرة أخرى إلا أنه اضطر للمرة الثانية إلى رفعه والعودة إلى أذربيجان ولعل لذلك علاقة بمقتل أبسجود - زام والد زوجته وتدمير أكبر منجنيق لديه أثناء الحصار والمعروف أن باسيليوس حاكم المدينة قاد عملية التصدي للقوات السلجوقية بنجاح، ودمر السلطان أثناء انسحابه ما صادفه من قرى ومزارع مجاورة ونهبها، وذلك بهدف تدمير البنية الاقتصادية للبلاد وإضعاف قدرة السكان والدولة على المقاومة، وترك في المنطقة جماعة من أتباعه الرواد لمواصلة الغارة(14).
كانت نتيجة التوغل السلجوقي في عمق الأراضي البيزنطية، ونجاح السلاجقة في تنفيذ غارات ناجحة أن عرض السلطان على الامبراطور مشروعاً للتحالف موجه ضد الفاطميين، فرفض الامبراطور العرض وأخبر الفاطميين بذلك (15).
تغيَّر الموقف العسكري لصالح السلاجقة بدءاً من عام (449 هـ / 1057م) حينما تقرر سحب العساكر البيزنطية من المناطق الأرمنية لمساندة إسحاق كومنين في ثورته ضد ميخائيل السادس (16) فشعرت المراكز الحدودية من أي مقاومة جدية ما أغرى السلاجقة فاجتاحوا كبادوكيا وهاجموا ملطية وأغاروا على الأقاليم الواقعة عند ملتقى فرعي نهر الفرات، وتوغل قُتُلُمُش بن إسرائيل في جوف آسيا الصغرى، ففتح قونية (17)، وأقسرا (18) ونواحيهما (19).
وجدد السلاجقة هجماتهم على الأملاك البيزنطية في عهد الامبراطور قسطنطين العاشر دوكاس (451 - 459هـ / 1059 - 1067م)، فتوغلوا في العام الأول من حكمه في عمق الأراضي البيزنطية، فبلغوا مدينة سيواس، وقتلوا جماعة من أهلها ممن قاومهم وعادوا محملين بالغنائم بعد أن أحرقوا المدينة (20).
.............................................................
(1) Cahen, C: Pre-Ottoman Turkey p23
(2) رستم، أسد: الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، جـ2 ص 69، 70.
(3) ما نزيكرت أو منازكرد أو ملاز کرد بلد مشهور بين خلاط وبلاد الروم، يُعد من أرمينية وأهله أرمن الحموي: جـه ص 202.
(4) ارزن أو أرزن الروم: مدينة مشهورة قرب خلاط ولها قلعة حصينة، وكانت من أعمر نواحي أرمينية المصدر نفسه: ج1 ص 150.
(5) قاليقلا بأرمينية العظمى من نواحي خلاط ثم من نواحي منازجرد المصدر نفسه: جـ 4 ص 299.
(6) طرابزون ميناء بآسيا الصغرى يقع على البحر الأسود.
(7) ابن الأثير: جـ 8 ص 68، 69.
(8) Chamician: History of Armenia II p138. Finlay. G: History of the Byzantine Empire p522.
(9) كابوترو: قلعة تقع في إقليم أردشوفيد الواقع بالقرب من سهل باسيان.
(10) ابن الأثير: جـ 8 ص 69.
(11) المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 ص 139.
Grousset, R: Histoire de L'Armenic pp588 - 590.
(12) المقريزي: جـ 2 ص 224.
Grousset: pp 596, 597. Finlay: p533. (13)
(14) ابن الأثير: جـ 8 ص 116، 117.
Chamician: II pp 142 - 146.
(15) سيرة المؤيد في الدين داعي دعاة الدولة الفاطمية: ص 125.
(16) دخلت الامبراطورية البيزنطية عقب وفاة الامبراطور باسيل الثاني عام (416 هـ / 1025م)
= مرحلة اضطراب سياسي، وشهدت تغييرات مستمرة فيمن تولى العرش من الأباطرة. وفي عام (448هـ / 1056م) اشتد ضغط رجال البلاط على الامبراطورة تيودورا كيما تختار من يلي الحكم من بعدها، فاختارت ميخائيل السادس ولما توفيت اعتلى العرش، غير أنه لم يحكم سوى سنة واحدة، فقد نادى الجيش المرابط في آسيا الصغرى بالقائد إسحاق كومنين امبراطوراً، فزحف إلى العاصمة فدخلها وتولى الحكم.
العريني: ص 822، 823
Grousset: pp596, 597.
(17) قونية من أعظم المدن بالروم وبها وبأقسرا سكنى ملوكهم الحموي: جـ4 ص 415.
(18) آقسرا مدينة مشهورة بالروم.
(19) ابن خلدون، عبد الرحمن ... تاریخ ابن خلدون جـه ص 162.
(20) Psellus: Chronographia: pp 277 302. Grousset: p608.
الاكثر قراءة في التاريخ
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة