ترتيب الآيات
المؤلف:
الدكتور عبد الرسول الغفار
المصدر:
الميسر في علوم القرآن
الجزء والصفحة:
ص104 -107
2025-06-29
792
فيما اشتهر أن ترتيب الآيات كان توقيفيا من الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) قال القاضي أبو بكر: ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم فقد كان جبرائيل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا وقال مكي: وترتيب الآيات في السور هو من النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة [1].
وقال الأبياري: وكما كان ضبط الآيات بفواصلها توقيفا كذلك كان وضعها في مواضعها توقيفا دليل ذلك الآية {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] كانت آخر ما نزل فوضعها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) عن وحي من ربه بين آيتي الربا والدين من سورة البقرة وهكذا في سائر الآيات [2]. قال أبو الحسين أحمد بن فارس في كتاب (المسائل الخمس) جمع القرآن على حزبين:
أحدهما: تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا الضرب هو الذي تولاه الصحابة رضوان الله عليهم. وأما الجمع الآخر فضم الآي بعضها إلى بعض وتعقيب القصة بالقصة فذلك شيء تولاه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كما أخبر به جبرائيل عن أمر ربه عز وجل [3].
ومما يستدل على أن ترتيب الآيات توقيفي ما نقله البخاري بسنده عن ابن الزبير قال قلت لعثمان بن عفان {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] قال قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها - أي لماذا تبقيها مكتوبة في المصحف وأنت تعلم بأنها منسوخة - قال عثمان: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه [4].
ثم ذكر البخاري عدة روايات في آخر باب من تفسير سورة البقرة تؤكد أن ترتيب الآيات كان توقيفيا منها بسنده عن عائشة قالت لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا فرآها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) على الناس ثم حرم التجارة في الخمر [5].
وقد ثبت حرمة قراءة الآيات معكوسة أي من آخرها إلى أولها وهذا بإجماع المسلمين منهم الزركشي قال وفسر بعضهم قوله {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] أي اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم ولا تأخير وجاء النكير على من قرأه معكوسا [6]. وفي شرح المهذب قال: وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فمتفق على منعه لأنه يذهب بعض نوع الإعجاز ويزيل حكمة الترتيب. قال السيوطي: وفيه أثر أخرج الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود: أنه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا قال ذاك منكوس القلب [7].
أقول: وأخرج ابن حبان والنسائي والترمذي وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الإنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. . [8].
وعن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: أتاني جبرائيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] [9]
وقال مكي بن أبي طالب ترتيب الآيات في السور بأمر من النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة. وفي الانتصار قال القاضي أبو بكر الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه ولم ينسخه ولا رفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى ورتبه عليه رسوله من آي السور لم يقدم من ذلك مؤخر ولا أخر مقدم. وأن الأمة ضبطت عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ترتيب آي كل سورة ومواضعها وعرفت مواقعها كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة وأنه يمكن أن يكون الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) قد رتب سوره وأن يكون قد وكل ذلك إلى الأمة من بعده ولم يتول ذلك بنفسه [10].
لم يكن القاضي أبو بكر منفرداً في هذا الرأي بل أغلب علماء الجمهور على ذلك قديما وحديثا مفسرين ومحدثين، بل أصبح الأمر عند الجميع أن ترتيب القرآن توقيفي لا ينبغي للصحابة وغيرهم أن يؤخروا ما هو مقدم أو أن يقدموا ما هو مؤخر بل قال البعض أن ترتيبه وحي من الله سبحانه أنزله جبرائيل على الرسول وهذا ما يراه البغوي قال: فكتبوه كما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) من غير أن قدموا شيئا أو أخروا أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وكان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبرائيل أياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية: أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقاً عند الحاجة. [11].
أقول لا يخفى على اللبيب أن قراءة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لجملة من السور بالترتيب المعروف لهو دليل آخر في ترتيب الآيات والسور في آن واحد وأنه أمر توقيفي فمثلا في صحيح مسلم عن أبي الدرداء مرفوعا: من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف أو قال من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال. صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
وكان (صلى الله عليه واله وسلم) يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء والأعراف وهل أتى على الإنسان حين من الدهر وسورة الرحمن والنجم والجمعة والمنافقون والصف وسورغيرها كان يقرأها على ملأ من الصحابة بل وكان يقرؤهم ويعلمهم كل عشر آيات وما يجاوزونها إلى غيرها حتى يتعلموها وهذا يعني أن تعلم الصحابة وحفظهم للقرآن إنما كان بترتيب متسق أخذوه من الرسول مباشرة وهذا مما فيه من الترتيب التوقيفي ما لا يخفى على الفطن.
[1] البرهان الزركشي 1/ 256
[2] تاريخ القرآن - إبراهيم الإبياري ص 62 ظ 1965.
[4] صحيح البخاري - كتاب التفسير من سورة البقرة 5/ 160
[5] المصدر السابق 5/ 164ومما ذهب إلى أن ترتيب الآيات أمر توقيفي: ابن كثير انظر فضائل القرآن ص 76 ط 2 دار المعرفة بیروت 1987
[8] سنن الترمذي أبواب تفسير القرآن باب ومن سورة التوبة رقم 3086.
[9] مسند أحمد بن حنبل 4/ 218
[10] كتاب الانتصار - للقاضي أبي بكر.
[11] حكى القرطبي عن أبي بكر الأنباري في كتاب الرد أنه قال: فمن أخر صورة مقدمة إلى قدم أخرى مؤخرة كمن الفكد نظام الآليات وغير الحروف والآيات. وقال القاضي يحتمل أن ترتيب السور في المصحف على ما هو عليه من اجتهاد الصحابة وقال مكن في تفسير سورة براءة: فأما ترتيب الآيات والبسملة في الأوائل فهو من النبي ﷺ. انظر فضائل القرآن لابن كثير ص 76 و 78 و 87
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة