التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
نظام الحكم في عهد الدولة الحديثة من الوجهة السياسية
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج8 ص 517 ــ 531
2025-06-14
66
وسنحاول الآن أن نضع أمام القارئ هنا صورة مختصرة شاملة عن نظم الحكم في عهد الإمبراطورية، منذ تولى «أحمس الأول» حوالي عام 1580ق.م إلى أن تولى «حريحور» عرش ملك الفراعنة حوالي عام 1085ق. وقد تحدثنا في الجزء الخامس عن الإمبراطورية المصرية في آسيا بشيء من التفصيل. ولكنا هنا سنتحدث عن نظم الحكم عامة في داخل مصر وخارجها مدة خمسة القرون التي مكثتها الدولة الحديثة، وكانت في خلالها بين مد وجزر. وهذا العصر يبتدئ بطرد «الهكسوس»، وإعادة وحدة مصر تحت حكم أمراء «طيبة»، وينتهي بتقسيم مصر ولايتين مستقلتين إلى حد ما؛ إحداها في الجنوب تحت حكم «حريحور» وعاصمته «طيبة»، والأخرى في الشمال تحت حكم «سمندس» وزوجه «تنتآمون» وعاصمتها «تانيس». وهذا العهد يشمل عصر أعظم قوة وثروة تمتعت بهما مصر، وهو العصر الذي كانت تدين فيه لمصر بلاد الشرق قاطبة. ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إنه كان العصر الذهبي للإمبراطورية المصرية. وقد انتهى هذا العصر كما ابتدأ بعصر طويل ظهرت فيه مصر بمظهر الضعف والركود مشفوعًا بانشقاق داخلي.
ولا نزاع في أن المجهود القومي الضخم الذي بذله المصريون في طرد «الهكسوس» قد أعطى المصريين قوة ساعدتهم على متابعة غزوهم حتى نهاية الحدود الشمالية من «سوريا». وعلى قدر ما وصلت إليه معلوماتنا كان الجيش المصري في باكورة الأسرة الثامنة عشرة يتألف من جنود مصريين أصليين وهذا هو السر في مد سلطان مصر وعظم فتوحها، وقد كان الفرعون الغازي في أثناء عهد الفتوح الأولى للإمبراطورية يكافئ البارزين من رجال جيشه المدرَّبين بالأراضي وبالعبيد من الأسرى وبأنواعٍ أخرى من الغنائم التي حصل عليها من تلك الأصقاع، وكذلك كانوا يهبون معابد الآلهة العظام الأراضي والعبيد والغنائم، وقد استمرت عادة منح المعابد الهبات العظيمة خلال كل عهد الدولة الحديثة.
وأخذ فراعنة العهود المتأخرة لهذا العصر يعتمدون على القوَّات الحربية، وعلى رجال الشرطة الذين كانوا ينتخبون من بين الأجانب وبخاصة النوبيين واللوبيين، وإن كانت نسبة العناصر المصرية قد بقيت عالية بين القوات المسلحة، وقد وصل بعض الأجانب إلى أعلى الرتب في خدمة الحكومة المصرية، حتى إننا رأينا في عهد الفوضى التي وقعت في نهاية الأسرة التاسعة عشرة سوريًّا من المخاطرين كان في مقدوره أن يقبض على زمام الأمور في مصر، ويعتلي أريكتها. وهكذا نرى في مصر الموحدة السكان نسبيًّا أن المصريين الذين طردوا «الهكسوس»، قد نما بينهم في العهد الذي نتحدث عنه عدد مميز قوي من الطوائف، التي كانت لها منافعها وميولها المتضاربة. ويمكن أن نميز من بين هذه الطوائف بوجه خاص طائفة الموظفين المدنيين، وطائفة الكهنة، وعلى وجه أخص التابعين للمعابد الكبيرة، وضباط رجال الجيش، والجنود المرتزقة، وكل هذه الطوائف كانت تتصادم بعضها مع البعض الآخر إلى حد ما من أجل الوظائف المدنية، ولم يشذ في ذلك ضباط الجيش أو الكهنة.
ونحن نعلم من «المتون المدرسية» التي عثر عليها في عهد الأسرة التاسعة عشرة أن الموظفين المدنيين، وهم الكتاب ورجال الإدارات الحكومية كانوا ينظرون نظرة احتقار إلى كل من رجال طائفة الجندية ورجال طائفة الكهنة، وهؤلاء الرجال كانوا بلا شك يشعرون بأن لهم منافع طائفية مختلفة عن منافع طائفة الجيش أو طائفة الكهنة، ومن المعقول أن نزعم أن رجال الجيش، ورجال الكهنة كانوا يتبادلون الود فيما بينهم، وقد كان يبدو غريبًا في بادئ الأمر أنه لم تنشب معارك لاكتساب السلطان أحيانًا بين الطوائف الثلاثة السالفة الذكر، غير أن البراهين على وجود مثل هذه المعارك ضئيلة جدًّا، هذا فضلًا عن أن الدعاية قد صبغتها بصبغة براقة، حتى إننا قد نرتكب أفظع الأخطاء وأغربها إذا حاولنا أن نجد لها مبرِّرات، ولدينا مثال حديث بارز جدا يوضح الخطر الذي يقع فيه المؤرخون في مثل هذه الأحوال؛ وذلك أن الفرعون «حريحور» مؤسس الأسرة الواحدة والعشرين — وهو الذي كانت توليته عرش الملك عام 1085ق.م تعد الخاتمة الرسمية لعهد الإمبراطورية، الذي نحن بصدده الآن — كان يشغل وظيفة الكاهن الأكبر «لآمون» عدة سنين قبل أن يستولي على الألقاب الملكية. وعندما تولى «حريحور» عرش الملك نجد فعلًا لقب «الكاهن الأكبر لآمون» لقبًا ملكيًّا له ووضعه في طغرائه الأول، ثم وضع اسمه «حريحور» مضافًا إليه «ابن آمون» في طغرائه الثاني. وقبل أن يتولى «حريحور» الملك بفترة، أي عندما كان الكاهن الأكبر «لآمون» ولم يكن بعد فرعونًا، تجاسر أن يصوِّر نفسه على جدران المعبد بنفس حجم صورة الفرعون الحاكم وقتئذ، وهو «رعمسيس الحادي عشر»، أي إنه كان يعدُّ نفسه معادلًا له في المكانة. وهذه الحقيقة وغيرها من الحقائق التي لا شك فيها تدل في ظاهرها على أن ارتقاء «حريحور» عرش الملك يعدُّ انتصارًا مبينًا لكهنة معبد «آمون» «بالكرنك». وقد أعدها كذلك كل علماء الآثار حتى عام 1936، عندما برهن «هرمان كيس» في مقاله الذي أشرنا إليه آنفًا أن التفسير الحقيقي هو العكس من ذلك؛ لأن «حريحور» كما قلنا لم يكن في بادئ أمره كاهنًا أول قط، بل يحتمل أنه كان من رجال الجيش مثل سالفه الملك «آي». وقد كان توليه وظيفة الكاهن الأول «لآمون» في الجزء الأخير من عهد «رعمسيس الحادي عشر» يمثل هزيمة ساحقة لحزب كهنة «آمون»، أو على الأقل هزيمة منكرة لأسرة الكهنة العظام السابقة له، وهي التي بدأت «برعمسيس نخت»، وانتهت «بأمنحتب».
وهذه الأسرة نفسها على ما يظهر لم تكن تضرب بأعراقها في الكهانة، ولم يكن إذن تتويج «حريحور» فرعونًا بعد ذلك ببضع سنين نصرًا للكهنة، وقد استولى «حريحور» على الوظائف الدنيوية ذات السلطان؛ فتولى نائبًا على بلاد «كوش»، وتقلد وزارة الوجه القبلي حوالي نفس الوقت الذي تولى فيه رياسة كهنة «آمون» «بالكرنك». ومن المتحمل أنه خلع فيما بعد وظيفة الوزارة على موظف آخر من الموالين له بطبيعة الحال من حزبه؛ غير أنه مما لا نزاع فيه أن الخطوة التالية التي خطاها في تنفيذ سياسته، وهي الاستيلاء على عرش الملك كانت ترتكز على قوة حربية لا على قوة الكهنة، وقد أبرز علاقته «بآمون» وكهنة «آمون» لنفس السبب الذي أبرزت من أجله الملكة «حتشبسوت» ولادتها الخارقة لحد المألوف وذلك لأجل أن يعرض أمام الشعب اغتصابه الملك بلون ديني كاذب تمامًا.
ويجب أن يكون هذا الرأي المضاد تمامًا للرأي الذي كان يظهر أمام المؤرخين بدهيًّا عن «حريحور» وتوليه العرش، وهو بلا نزاع يساعدنا على أن نكون على حذر؛ فلا نجزم عند تفسير التيارات الخفية في السياسات المصرية القديمة، وأن الظواهر شيء والحقائق الواقعة شيء آخر، وهذا ما نشاهده الآن في سياسة الدول الكبرى.
أما من حيث نظام الحكومة وقواها، فإن كل إنسان يعلم أن الفرعون كان ملكًا مستبدًّا، وأن سلطته كانت ترتكز نظريًّا على زعم ألوهيته، إذ نجد أنه على الدوام كان يدعى «الإله الطيب». وكذلك كان يتصف بلقب من أكثر ألقابه شيوعًا، وهو «ابن إله الشمس رع»، ونحن نعلم من جانبنا أن ادِّعاءه أنه من نسل إلهي لم يكن مجرد استعارة لفظية، بل كان المقصود أن يفهم ذلك بمعناه الحرفي، وكذلك كان يحافظ دائمًا على بقاء دم الأسرة نقيًّا من أي دم أجنبي، مما أباح لهم زواج الأخت والبنت ، ويقول لنا كتاب البلاط الملكي أن الفرعون الإلهي كان يفعل كل شيء لازم لسعادة شعبه بما لديه من قدرة لا حد لها، وهي تلك القدرة التي يتميز بها الآلهة، فيقصون علينا أنه كان يحصد أعداءه بعشرات الألوف في ساحة القتال، وأنه قد كشف بنفسه عما هو خطأ في كل أنحاء إمبراطوريته، وأنه بنفسه وضع القوانين اللازمة والقواعد التي تضع كل شيء في موضعه الصحيح. وكذلك حدثونا أن الملوك الأجانب سعوا إليه في الحال من بلادهم النائية حاملين جزيتهم على ظهورهم، وراجين الفرعون نفس الحياة الذي لا يعطيه أحد سواه، كما يقصون علينا أشياء أخرى كثيرة لا يمكن تصديقها، ولا يمكن أن تتأتى إلا على أيدي الآلهة، كما جاء في لوحة «أمنحتب الثاني»، التي كشف عنها المؤلف حديثًا.
وكذلك نجد في نقوش تراجم الموظفين العظام والكهنة نفس المغالاة في مدح أنفسهم، وإظهار فضائلهم، كل على حسب مستواه، كما كان للبلاط مادحون يطرون الفرعون وأنفسهم على السواء، فكثيرًا ما نجد في النقوش أن فلانًا كان مثال الفضيلة والمهارة، ولكن معلوماتنا عما فعله فلان هذا كانت في العادة تقتصر على قائمة ألقاب محدودة، والألقاب قد لا تعني دائمًا ما هو ظاهر منها.
والواقع أن معلوماتنا الحقيقية عن كيفية سير الإدارة الحكومية الفرعونية، وعن الأثر الذي كانت تحدثه في حياة الرعية قليلة جدًّا بكل أسف، وكثير من الوثائق الخاصة بذلك يمكن تفسيرها بأكثر من وجه واحد، وعلى ذلك فإن الصورة الناتجة التي نستنبطها من ذلك تحتوي أحيانًا أمورًا كثيرة غير مؤكدة.
وقد ذكرنا عند الكلام على الوزير «رخ مي رع» أن الأثري «دافيز» قد عارض بشدة في أن الأربعين «شسم»، التي خصصت بجلد وهي التي وجدت موضوعة على رقعة قاعة المحاكمة التي يجلس فيها الوزير للحكم بأنها ليست ملفات جلد تشمل متن مواد القانون، ولكنها على ما يظهر قضبان مرنة مقطوعة من جلد. وبعبارة أخرى أسواط سلطة كانت توضع في أيدي موظفي الأقاليم بمثابة تصريح لتنفيذ القانون كما تفعل العمد في القرى بعصيهم الآن. وقد فسرت هذه العصا بأنها آلات لتوقيع العقاب، وهي بهذه الكيفية لا يمكن أن تكون لها الميزة التي منحتها الأربعون «شسم» في كل من الصورة والمتن، وأن هذا الشكل البسيط جدًّا الذي مثل به الأربعون إلهًا هذه يظهر من الصعب جعلها تتفق مع أسواط التعذيب التي كانت توضع في أيدي موظفي الأقاليم، وليس هناك مانع في الرأي القائل: إن كلمة «شسم» كانت تعني في الأصل «سير» أو شريط جلد، أو أن كليهما أصبح يعني «سوطًا» ما جاء في متن: «أنه ضرب بخمسين سوطًا.» (راجع Revue d’Egyptologie I 1933 p. 63) أو تعني واحدًا من مجموعة من المخطوطات الجلدية. ويلاحظ أن الكلمة الإنجليزية Code، وهي من اللاتينية Codix Caudex ومعناها «جذع الشجرة» أو قطعة من الخشب، أو لوحة للكتابة تعني غالبًا مجموعة صور قوانين، أو حتى تعني مجموعة معينة للقوانين. مثال ذلك قوانين «جوستنيان». أما عن الشكل الطويل الرفيع الذي تتخذه الأربعون شيئًا، فإن عدم الاعتماد على النسب في رسم الصور المصرية معروف تمامًا. هذا إلى أن عدم وجود حبال حولها لتربط كلًّا منهما يمكن أن يبرهن على شيء من الحقيقة في أنها ملفات بردي؛ وذلك لأن هذه الملفات كان من المحتمل أنها قد فُكت؛ لتكون على استعداد للرجوع إليها. ولكن موضوع وجود كتاب قانون فرعوني لا يمكن أن ينظر إليه على أنه حقيقة مؤكدة إلا إذا ظهرت لنا براهين جديدة؛ لأن موضوع الأربعين قطعة (شسم) لا يزال فيه شك، ويجب أن يبقى معلقًا مؤقتًا إلى أن يظهر ما يؤكد تفسيره بهذه الصورة.
ولا نزاع في أن حكم الفرعون كان حكمًا مطلقًا بكل معنى الكلمة. فقد كان القانون مجرَّد إرادة الفرعون التي كان يعبر عنها بصفة رسمية. وإذا كان القانون قد شرع فإنه كان من الواضح أن أية مادة منه يمكن الفرعون الجالس على العرش أن يغيرها أو يلغيها في أي وقت. ومن بين الوثائق القليلة جدًّا التي وصلت إلينا من عصر خمسة القرون التي نبحث فيها الآن واحدة فقط، فقد اقتبست مباشرة بوصفها أمرًا قانونيًّا دالًّا على السلطة. وفي هذه الحالة الوحيدة نجد أن الاقتباس قد تقدمه الكلمات البسيطة «إن الفرعون قد قال» (والقول ما قالت حزام) والقوانين القليلة التي وصلت إلينا مثل منشور «حور محب» (راجع مصر القديمة ج5) ولوحة «نوري» (راجع مصر القديمة ج6) تظهر لنا نفس هذه النظرية القانونية، فنجد أن متن منشور «نوري» يبتدئ بالكلمات التالية: «إن جلالته قد أمر.» وقانون «حور محب» يبتدئ بما يأتي: «إن الملك نفسه قد قال.» وعلى ذلك فإن ما قاله الفرعون هو القانون.
ويلاحظ بطبيعة الحال أن حق الفرعون في الحكم كان يرتكز نظريًّا على أنه إله؛ وذلك لأن إله الشمس «آمون رع» قد أنجبه، وأنه عندما فعل ذلك قد اتخذ صورة الملك السابق لهذا الغرض (أي عندما اجتمع بأم الملك الحاكم). وعلى ذلك فإن «آمون رع» كان يضعه بموافقة الآلهة الآخرين المتحمسين له على عرش الملك، ويقرر له حكمًا طويلًا مزدهرًا. ولا نزاع في أن هذه الأساطير الدينية والتقاليد الفرعونية كانت تساعد على توطيد مكانة الفرعون. ولكن القواعد الحقيقية الثابتة التي كانت تعتمد عليها قوته هي سيطرته على أداة الحكم، بما في ذلك الجيش والشرطة، فنجد الملكة «حتشبسوت» المغتصبة للملك بعد أن بقيت عدة سنين وصية على عرش الملك الشرعي «تحتمس الثالث»، الذي لم يكن قد بلغ أشده بعد؛ قد دفعت به إلى الوراء وأقصته عن الحكم عندما شعرت أنها قد أصبحت موطدة القدمين، وفي قبضتها زمام الحكم، وقد بقي الملك الشرعي في عزلة طوال مدة حكمها. ويلاحظ أن «حتشبسوت» لم يكن في مقدورها أن تعلن نفسها «بنت آمون رع» إلا بعد أن أصبح زمام الحكم في يدها، ولا نزاع في أنه لم ينكر أي إنسان حقها علنًا في أنها إلهة مدة حياتها، غير أن الإنسان يتساءل بشيء من العجب والدهشة: كم من معاصريها كان يعتقد فعلًا في إلاهيتها؟ إن النفاق والخوف والأحزاب قد لعبت دورًا عظيمًا في ذلك، ولكن في نهاية الأمر تمكن الفرعون الشرعي «تحتمس الثالث» من أن يستولي على العرش؛ لا لأنه كان صاحب الحق الأعلى في ادَّعاء الإلهية؛ بل في الواقع لأن موت «حتشبسوت» قد أزال من أمامه العقبة الإنسانية الحقيقية. وأهم من ذلك موضوع الملك المصلح «إخناتون»، الذي كان في مقدوره أن يمحو عبادة الأوثان التقليدية، ثم غير لقبه الإلهي بطريقة تخطئها المعرفة وينكرها الشعب. ولكن مع ذلك بقي يحكم حتى يوم مماته. والواقع الذي لا لبس فيه أن إلاهية الفرعون كانت ترتكز على قوته هو على الحكم على الرغم من أن النظرية الرسمية كانت على العكس مما فعله «إخناتون».
وقد كان بجانب الفرعون الإلهي الذي كانت قوته ترتكز على الخدمة المدنية والجيش، ورجال الشرطة بطبيعة الحال عدد عظيم من الآلهة الآخرين في مصر، وكان بعضهم — أو كهنتهم — يأخذون بنصيب في حكومة مصر من وقت لآخر، وذلك بوساطة الوحي الذي كان — على ما يظهر — يعدُّ بمثابة قانون ينطق به الإله، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في مناسبات عدة وسنتحدث عنه بعد، غير أن الجزء الذي كان يلعبه الوحي في حكومة البلاد ضئيل؛ ولذلك سنناقش أولا العناصر القانونية الإنسانية في حكومة البلاد.
والظاهر أن وضع القوانين كان من اختصاص الفرعون وحده. وتدل شواهد الأحوال على أنه لم يكلف أي فرد أو جماعة بالقيام بهذا العمل. وكان ينوب عن الفرعون في تنفيذ أعماله القضائية والإدارية جماعة كبيرة جدًّا منظمة من الموظفين، وكان المصريون على علم تام بالفرق بين الوظائف الإدارية والوظائف القضائية، ولكن يظهر أنه في عهد الإمبراطورية كانت الوظائف القضائية يقوم بأدائها في العادة رجال كانت أعمالهم الأصلية إدارية الصبغة؛ وكان التفويض في الأمور الإدارية والقضائية بطبيعة الحال مرخصًا به من أكبر وظيفة إلى أقل وظيفة، أي من الفرعون إلى أكبر موظفيه في الدولة، ومن هؤلاء إلى مرؤوسيهم الصغار.
وقد كانت خدمة الحكومة تنقسم قسمين، وهما: نوع النشاط الذي يقوم به الأفراد، والبيئة الجغرافية. فمن جهة كانت توجد مصالح في الإدارة الرئيسية كالخزانة الملكية، ومخازن الغلال الملكية، وقد كان عملها في مصر كلها، ويحتمل أنه كان يمتد كذلك إلى الإمبراطورية كلها. ومن جهة أخرى كانت البلاد مقسمة أقسامًا إدارية كل منها كان له أعضاء حكومته المحليين، وإن كان هؤلاء تابعين للحكومة الرئيسية من كل الوجوه.
ومما يلفت النظر أنه في عهد الإمبراطورية لم يكن في العادة يوجد موظف واحد بعينه تحت سلطة الفرعون يقبض على زمام الحكم في كل أنحاء البلاد، وفي كل مصالح الحكومة في وقت واحد، إلا في عهد كل من الدولتين القديمة والوسطى؛ فكان الوزير يمثل هذا الموظف الذي كان يقبض على كل السلطة. ولكن في عهد الدولة الحديثة كان يوجد عادة وزيران: واحد منهما للوجه القبلي، والآخر للوجه البحري؛ ويحتمل أن كلًّا من هذين الوزيرين كان يقوم في الإقليم الذي يسيطر عليه بكل الأعمال العامة ولا يخضع إلا للملك. وليس من المؤكد أن واحدًا من الوزيرين كان له أية سلطة في «بلاد النوبة» (حيث كان يوجد بها نائب من قبل الفرعون يحكمها وكان — على ما يظهر — مسئولًا مباشرة أمام الفرعون) أو في آسيا. ومن حقنا أن نشك في أن الفرعون قد قصد ألا يجعل لأي فرد معين من رعيته حق تمثيل السلطة الملكية في كل مكان، وفي كل حال من الأحوال.
وقد كان في كل بلدة كبيرة جماعة منظمة تنظيمًا غير محكم تعرف «بالمجلس» (قنبت) كما كان فوق هذه المجالس «مجلسان عظيمان»: أحدهما في «طيبة»، والآخر في «هليوبوليس»؛ ويرأسهما الوزيران بالتوالي، أي إن أحد المجلسين العظيمين كان في الوجه القبلي ومقره «طيبة»، والآخر في «الوجه البحري» ومقره «هليوبوليس». وليس من المؤكد أن هذه المجالس كما هي كانت تؤدي وظائف إدارية، غير أنه من المؤكد أنها كانت تعقد بمثابة محاكم قضائية لتفصل في القضايا الجنائية، وفي بعض الأحيان كانت تفصل بسلطة قضائية في المسائل الإدارية. ويلاحظ هنا أن كل عضو من أعضاء المجلس كان في غالب الأحيان من الرجال الذين كان عملهم الأصلي إداريًّا. وعلى ذلك فإن هذه المجالس لا بد كانت تميل إلى وضع حد بين الأعمال الإدارية والقضائية.
وعندما كانت أسماء أعضاء المجلس توضع في قائمة، فإنها كانت — غالبًا — يوضع لها العنوان التالي: «مجلس هذا التاريخ» مما يشعر أن تأليف هذا المجلس كان يغير من يوم إلى يوم. وفي إحدى الجلسات القضائية التي يحتمل أنها كانت خاصة بمصالح لمعبد الإلهة «موت» بالكرنك (راجع مصر القديمة ج6) كان يرأس المجلس الكاهن الأكبر «لآمون»، ولا تحتوي إلا على كهنة فقط — إذا استثنينا المسجل الذي كان يحمل لقب «الكاتب المسجل لمجلس طيبة» — ولدينا مجالس أخرى تشمل موظفين خارجين عن هيئة رجال الدين، أو كانت تتألف من كهنة وموظفين مدنيين معًا.
ويخيل إليَّ أن معابد الآلهة يجب أن تعد مصالح ضمن الإدارة الملكية، فقد كان الفرعون — نظريًّا — هو الذي يؤدِّي الشعائر اليومية العادية في جميع معابد مصر، وعلى ذلك فإن الكاهن الذي كان يقوم بأداء هذه الشعائر فعلًا إنما يقوم بها على أنه ممثل للفرعون. وقد وُجدت هبات المعابد — في الظاهر — لأجل المساعدة على القيام بهذه الشعائر، وهي الخدمة الدائمة التي كان يؤديها الفرعون لآبائه المقدسين وأمهاته، ولآلهة الدولة العظام وإلهاتها.
والواقع أن الكهنة والموظفين الآخرين التابعين للمعبد كانوا عمال الفرعون كما كان ضباط الجيش، أو جباة الضرائب. وعلى قدر ما يمكن الحكم به كان للفرعون من السلطة في عزل وتنصيب رجال الدين كالتي كانت له في مصالح الحكومة الأخرى. حقًّا نعلم أن بعض رجال الدين كان لهم الحق في أن يورثوا أبناءهم وظائفهم، غير أن ذلك كان ينطبق على مصالح حكومية أخرى.
ولا نزاع في أن أغنى طوائف الكهنة — وبخاصة كهنة «الكرنك» للإله «آمون رع» ملك الآلهة — كانت تعد خطرًا عظيمًا على فرعون ضعيف، ولكن هذه الحالة كانت تنطبق على الجيش، وكذلك على بيت الفرعون نفسه. والفرعون القوي الشكيمة كان يقبض — عادة — على زمام رجال الدين تمامًا، وبنفس الطرق التي يدير بها زمام بيته أو جيشه.
ومن المعلوم أن فراعنة الأسر الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين، قد وهبوا عطايا ضخمة للمعبد الكبير الخاص «بآمون رع» ملك الآلهة في «الكرنك»، وهذه العطايا تشمل أرضًا زراعية، ومناجم ذهب، وأنواعًا أخرى من الضياع الحقيقية وكذلك العبيد بأعداد ضخمة من الذين أُسروا في الحرب، أو استولى عليهم من البلاد التي فتحت بحد السيف، وقطعانًا عظيمة من كل نوع، وسفنًا تجري في النيل، تَمْخَرُ عُبَابَ البحر، وأثاثًا للمعبد، ونسيجًا، وحَبًّا، ونبيذًا، وجعة، وأمتعة خفيفة الحمل مختلفة أشكالها، ومصانع كانت تصنع فيها مواد عديدة. وقد كان من الواضح تمامًا أن «آمون رع» ملك الآلهة لا بد أنه كان أغنى مالك في مصر إذا استثنينا الفرعون في كل العصر الذي نتحدث عنه.
ويلاحظ كثيرًا أن الباحثين المحدثين يذكرون — دون أدنى تردُّد — أن كل أملاك المعبد في مصر كانت معفاة من كل الضرائب، وقد برهنا على أن هذا الزعم خاطئ، وأنه لا ينطبق على كل عصور التاريخ المصري (راجع «عهد رعمسيس الخامس») وأن ورقة «فلبور» تقدم لنا براهين إيجابية على أن هذا الزعم لم يكن صحيحًا في عهد «رعمسيس الخامس» حوالي سنة 1150ق.م. وهذا التاريخ على حسب ما جاء في النقوش والمخطوطات المصرية يوحي أن الحكومة الفرعونية، كانت في هذا الوقت فقدت سلطانها على رجال الكهانة العظام على وجه التقريب. ويدل وجود المراسيم الفرعونية التي منحت امتيازات إدارية وإعفاءات لمعابد معينة، على أنه لم يكن هناك قانون عام يمنح مثل هذه الامتيازات والإعفاءات لكل المعابد. ولم يصلنا مرسوم سليم عن مثل هذه الامتيازات والإعفاءات من عهد الإمبراطورية إلا مرسوم واحد هو مرسوم «نوري»، الذي أصدره «سيتي الأول»، (حوالي سنة 1300ق.م) وهو يقضي بحماية المصالح النوبية لمعبد معين في «العرابة المدفونة» (راجع مصر القديمة ج6). ولست متأكدًا من أن هذه الوثيقة الطويلة المحكمة الوضع قد ذكرت حتى الضرائب، وهي بلا نزاع لا تحرم قطعًا تجنيد هيئة عمال المعبد للعمل في السخرة، بل كل ما تقصه أنها تحرم القبض على أفراد عمال المعبد، ونقلهم من إقليم إلى آخر للقيام بأعمال السخرة، وكذلك تمنع عمال الفرعون سرقة ماشية المعبد، أو القبض على سفن المعبد لاستعمالها في غير ما خصصت له، أو التدخل في شئون عمال المعبد وغيرهم من الموظفين في تأدية واجباتهم. وبالاختصار فإن ما جاء في مرسوم «نوري» هو التعهد بالمحافظة على تنفيذ نظام خاص ضد طائفة معينة من الأعمال التعسفية والإجبارية، التي تحفظ من جورها الآن كل الحكومات المتمدينة جميع المنظمات، والمدنيين، والرعايا بدون استثناء. على أن ما يفهم من «مرسوم نوري» ليس ضعف الحكومة الفرعونية، بل قوتها، وأحيانًا صبغتها الاستبدادية؛ إذ كان من المفهوم ضمنًا أن هؤلاء الذين لم يُحموا بصفة معينة بمثل هذا المرسوم قد ينتظرون ألا تؤخذ ماشيتهم وسفنهم وحسب، بل يقبض كذلك على أشخاصهم عمال الفرعون، ويساقون لمدة غير محددة إلى السخرة. ومن المحتمل أنهم كانوا يساقون إلى جهات مختلفة بعيدة عن الإمبراطورية، وذلك إما للعمل في فلح الأرض، أو للخدمة العسكرية، أو لأي غرض آخر يمكن أن يوجههم له أي موظف صغير من موظفي التاج.
ومن جهة أخرى لدينا براهين قاطعة نرى منها أن الفرعون ووزيره وموظفين آخرين، كانوا يقومون بالمراقبة — إلى درجة ما — على الشئون الاقتصادية للمعابد على الأقل. وكانت الحكومة تقوم بتعيينات في بعض الأحيان في أعلى وظائف الكهانة وفي أدناها.
والآن، نعود إلى موضوع الوحي. وسنأخذ هنا على سبيل الإيضاح مثالين، أحدهما عن سؤال إداري، والآخر عن حالة صغيرة جدًّا خاصة بسرقة:
كان على «رعمسيس الثاني» في السنة الأولى من سني حكمه أن ينتخب كاهنًا أكبر جديدًا للإله «آمون» بمعبد «الكرنك» أي: موظفًا جديدًا لأهم منصب كهانة في مصر وقد وضع «رعمسيس» على حسب قوله أمام الإله أسماء كل موظفي البلاط الفرعوني: قائد الرديف، ورؤساء الكهنة، وأشراف معبد «آمون» نفسه. وقد انتخب نفسه شخصًا يدعى «نب وننف»، الذي لم يكن حتى ذلك الوقت عضوًا من كهنة «طيبة»، بل كان الكاهن الأكبر للإلهة «حتحور» صاحبة «دندرة» والكاهن الأكبر للإله «أنحور» صاحب «طينة» والمشرف على كهنة الآلهة. ما بين «طينة» و«طيبة». وهذه الوظائف كان يشغلها والده من قبله، وعلى ذلك نصب «رعمسيس» «نب وننف» كاهنًا أكبر «لآمون»، وأمره أن يضع ابنه في وظائفه، وهي الوظائف التي كانت خاصة بالأسرة. وفي هذه الحالة ليس لدينا أي شك في أن الفرعون هو الذي عين الكاهن الأكبر الجديد «آمون»، وهو الذي انتخبه أيضًا. أما موضع الوحي فلم يكن ترتيب أمره من الصعوبة أكثر من ترتيب أخذ الأصوات في الانتخابات العامة الآن. أما المثال الثاني فيرجع تاريخه إلى منتصف الأسرة العشرين، أي أكثر من مائتي سنة بعد المثال الأول (راجع تفصيل هذا الموضوع في هذا الكتاب «عهد رعمسيس الرابع» … إلخ).
وموضوعه أن خمسة رداءات سرقت من خادم يدعى «أمنمويا». وقد رفع الخادم المجني عليه شكواه إلى أحد الآلهة الصغار في «طيبة» يدعى «آمون» صاحب «بخنتي»؛ ليكشف له عن اسم اللص. وقد قبل الإله أن يفعل ذلك، وعلى هذا ذكر أمامه «أمنمويا» أسماء سكان القرية، وعندما ذكر اسم المزارع «بتوم دي آمون» هز الإله رأسه كأنه أراد أن يقول: «إنه سرقها.» وعندئذ قال المزارع «بتوم دي آمون» للإله: «إن هذا كذب، إني لم أسرقها.» وعلى ذلك صار الإله في شدة الغضب.
وفي فرصة أخرى لجأ المزارع المتهم «بتوم دي آمون» إلى إله آخر صغير في «طيبة» أيضًا، غير أن هذا الإله بدوره هز رأسه كأنه أراد أن يقول: إنه أخذها. فقال المزارع مرة أخرى: «إن هذا كذب.» وقد غضب هذا الإله — كسابقه — غضبًا شديدًا؛ لأن رجلًا قد أعلن الإله أنه لص بلغت به القحة أن يؤكد براءته ويكذب الإله في آنٍ واحد. وبعد ذلك وقف المزارع المتهم مرة أخرى أمام «آمون» صاحب «بخنتي» وهو إله قريته الذي اتهمه في بادئ الأمر، ثم لجأ المزارع للإله قائلًا: تعال إلى «يآمون» صاحب «بخنتي» يا سيدي الطيب المحبوب؛ هل أخذت أنا الملابس؟ وعندئذ هز الإله رأسه مرات عدة كأنه أراد أن يقول: «إنه أخذها.»
وبقية سجل القصة ليس واضحًا تمامًا كما ذكرنا ذلك في مكانه. ويحتمل أن المزارع المتهم اعترف بالسرقة. وعلى أية حال فإنه — في أغلب الظن — عوقب من أجل السرقة، غير أنه لا يمكنني أن أشك في أنه كان بريئًا. ولا نزاع في أن إثبات تهمة المزارع كما جاءت على لسان «آمون» كان قد عملها بالفعل — بطبيعة الحال — كاهن أو جماعة من الكهنة. وليس لدينا شيء يوحي بأن الكهنة كان لهم علم بالموضوع. والظاهر أنه لا يوجد أي برهان من أي نوع يمكن أن تستند عليه محكمة حديثة، بل على العكس نلحظ أن المزارع قد سلك مسلك رجل طاهر الضمير، وإذا كان قد اعترف نهائيًّا فإنه لا بد قد فعل ذلك تحت تأثير عامل نفسي ثالث يخفيه في قرارة نفسه، أو أن المشاع في القرية أنه هو الذي سرق، وقد بنى الكهنة اتهامه على ذلك دون وجود دليل مادي لديهم.
وهذان المثالان عن الوحي معًا يفسران — على ما يظهر بوضوح — مقدار قوة الوحي أو عدم قوته خلال الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، إذ إنه كان من الممكن أن يكون حكمه فعلًا حاسمًا في قضية صغيرة، تشمل فقط مصالح رجل من الطبقة الدنيا. ولكن عندما يكون لمصالح الحكومة دخل، فإن الفرعون «يرتب» الوحي — بلا شك — كأنه أمر عادي، كما كان يرتب — بالضبط — وضع أعظم الأقاصيص الخيالية في سجلات أحكامه الرسمية. ولدينا مثال طريف لذلك في قصة الوحي التي تتحدث عن تهمة الكاهن «تحتمس» باختلاس متاع الإله «آمون»، وقد دُوِّنت في الكرنك في عهد «بينوزم الثاني» كما سيجيء بعد.
وقد كان الميدان الوحيد الذي يُرضي مصري عهد الإمبراطورية صاحب المطامع للعمل فيه هو فروع الخدمة العامة، أي الإدارة المدنية والكهانة وغير ذلك من خدمات المعبد ثم الجيش. وليس لدينا علم عن رجال كوَّنوا أنفسهم يقومون بالعمل في تنمية ثرواتهم الخاصة، أو تقوية مهاراتهم الفنية خارج الخدمة العامة. حقًّا إن لدينا برهانًا يخوِّل لنا أن نعتقد أن الأراضي الخاصة بقضية «مس»الشهيرة كانت ثروة في ذاتها للمدعي الناجح، وكذلك لدينا برهان آخر يخول لنا أن نعتقد أن هذا المدعي الناجح كان صاحب قطعان ماعز خلال القضية، كما كان — بعد القضية — يحمل لقب «كاتب الخزانة».
وهذا التغيير في الألقاب الذي يصحبه الغنى المفاجئ أمر يلفت النظر، غير أنه — مع ذلك — لا يمكننا أن نبني على ذلك نظريات عامة؛ لأن الموضوع ليس مؤكدًا بل يعدُّ مثالًا فرديًّا. حقًّا إننا نعلم وجود ملكيات خاصة إلى حد ما، غير أنه لا يمكننا أن نعين حدودها، فقد كانت الماشية والعبيد والأراضي تباع وتشترى بين الأفراد عامة، وحتى ذلك كان يجري بين أفراد غاية في الضعة كالراعي «مس» في عهد «أمنحتب الثالث» و«أمنحتب الرابع»، كما كان في مقدور ملاك العبيد أن يؤجروا خدمة عبيدهم لآخرين.
وقد كان الراعي «مس» في زمنه يعدُّ صاحب أملاك بين جيرانه، فقد كان صاحب ماشية للبيع. ومن المحتمل أنه كان ينمي ثروته من سنة إلى أخرى بالمساومة الحاذقة. ولا شك في أن بذور القيام بالمشروعات كانت موجودة في مثل هذا العمل، غير أن البذور لم تنمُ — على ما يظهر — في عهد الإمبراطورية. ويخيل إليَّ أنه بين إنتاج الأسر الفردية من جهة، وبين الإنتاج العظيم الذي تنتجه المعابد ومصالح الحكومة من جهة أخرى، لم يبقَ مجال كبير لقيام الأفراد بمشاريع في التجارة أو الصناعة. وعلى أية حال فإن فقرنا في المصادر لا يعيننا على الجزم في مثل هذا الموضوع.
وفضلًا عن وجود أفراد مثل الراعي «مس»، الذي كان يشتري ويبيع لحسابه، فإنه كان يوجد تجار يقومون بأعمال تجارية بمثابة عملاء لمؤسسات دينية كبيرة (ورقة هاريس ص46 سطر 2 مصر القديمة ج7). ولا نعلم شيئًا عن «تجار المعبد» هؤلاء غير وجودهم. والظاهر أن تجارتهم في بعض الحالات على ما يظهر كانت دولية في مجالها (راجع منشور نوري ج6 ص88).
وفي أحوال أخرى نقرأ في المتون كلمة «تجار» دون أن نعلم إذا كانوا يتجرون لحسابهم أو بعض المعابد أو المصالح الحكومية، فنجد مثلًا في «ورقة بولاق» رقم 11 صفحة من كتاب حسابات من عهد الأسرة الثامنة عشرة سُجل فيها توريد لحم وخمر وفطائر للتاجر «منخت»، وللتاجر «شري بين» فتسلم «منخت» واردات في عشر حالات على أقل تقدير في مدة أربعة عشر يومًا. وكانت الكميات التي يتسلمها صغيرة دائمًا كالتي يمكن أن يصرفها أصحاب الحوانيت الصغيرة، أو الباعة الجائلون الذين يحملون تجارتهم من باب إلى باب. وأصناف البضائع التي كانت تباع وهي اللحم والنبيذ والفطائر، توحي بأن تاجرنا لم يكن يبيع سلعه إلا لأصحاب اليسار لا إلى الفقراء من الناس. وقد كانت بعض الأراضي الزراعية يملكها أفراد من الشعب، وكان من الممكن أن تنتقل من شخص إلى آخر إما بالوراثة أو بالبيع. ومثل هذه الأراضي كانت تدفع ضرائب للتاج، غير أنه لا يمكن أن نفهم أن أي التزام عام آخر مثل السخرة، أو الخدمة العسكرية كان من الضروري أن يكون له علاقة بملكيات كهذه.
ولا نعلم إذا ما كان مقدار الأرض التي يملكها الأفراد خلال الإمبراطورية كبيرًا لدرجة تجعله ذات أهمية اقتصادية كبيرة أم لا.
والواقع أن التاج كان يملك مساحات شاسعة من الأرض، وكذلك كان للمعابد ضياع عظيمة. وكانت أراضي التاج وأراضي المعبد تقسم عادة مساحات كل منها تحت إدارة المعبد (راجع ورقة فلبور). وفي مثل هذه الحالات كان الموظف المسئول يسكن على مسافة بعيدة من الأرض التي تحت إدارته، ومثل قطعة الأرض هذه كان لها أولًا مالك غائب (وهو الفرعون أو الإله). وثانيًا كان لها مدير غائب، وهو الذي وُكل إليه إدارتها. وإذا سارت كل الأمور — فيما يخص هذه القطعة من الأرض — على ما يرام، فإن مديرها الغائب كان ينتظر بطبيعة الحال كسبًا عظيمًا فوق مقدار الحَب الذي كان يورد إلى الفرعون، غير أنه كان يحدث أحيانًا أن الفلاحين يفرون من سوء المعاملة، التي يلاقونها على أيدي رؤسائهم المباشرين كما كانت الحال في مصر الحديثة إلى زمن غير بعيد (وحتى الآن نجد مع بعض الملاك الرأسماليين يتقاضون إيجارهم من الفلاح، سواء أأنتجت الأرض أم لم تنتج بشتى الطرق).
ويمكن أحيانًا أن يجندوا لعمل حكومي في مكان آخر مجاور أو حتى في جزء آخر من مصر. وما يحدث من جراء ذلك يترك لخيالنا.
وقصارى القول: إن حكومة الدولة المصرية كانت فردية بيروقراطية مركزية من حيث المبدأ، وكانت — إلى حد كبير — مركزية عمليًّا. ولا نزاع في وجود مشاحات من أجل المنفعة بين العناصر المختلفة في الحكومة البيروقراطية، التي تتألف من مصالح مختلفة تكاد كل منها تكون مستقلة عن الأخرى ولا تجمعها مسئولية واحدة. ولدينا أدلة تدل على أن الفرعون كان يستخدم هذه المشاحات ليخدم مصالح الأسرة الحاكمة، ويلاحظ أن كلًّا من طائفة الكهنة والجنود قد أصبح ذا أهمية عظمى في القرون التالية، ويمكن رؤيتهما تنموان منذ نشأتهما. وفي خلال نصف القرن الأخير من عهد الإمبراطورية تجد أن كلًّا منهما منغمس في اضطرابات خطيرة، مما ساعد على سقوط الأسرة العشرين، وتصدع أركان الإمبراطورية. ونرى من كل هذا أن الرجل العادي — على ما أعتقد — لم يكن لديه من القوة ما يهيئه للتعبير عن آرائه في الحياة السياسية أو الاقتصادية؛ لأن الأحوال لم تكن قد هُيئت له بعد لظهوره في معترك الحياة، وهو يحمل في نفسه شيئًا من الاستقلال الذاتي، أو الصفات التي تؤهله لبلوغ ذلك. وقد يرجع السبب في هذا أولًا لنظام الحكم الذي كان سائدًا في هذه الفترة من تاريخ البلاد، وكذلك إلى تربيته على الخضوع له، وإن كان أحيانًا قد يثور على هذا النظام بسبب الجوع والفقر، كما أوضحنا ذلك في مكانه عند التحدث على إضراب العمال في عهد «رعمسيس الثالث»، وعندما قام العمال — وحتى رجال الدين — بنهب المقابر الملكية وغيرها إلى درجة تدعو إلى الدهشة والعجب من شعب وديع كالشعب المصري، ولكن الفقر كافر والجوع أشد منه كفرًا.