حالة مصر في عهد نقطانب الأول ومركز الإمبراطورية الفارسية
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج13 ص 178 ــ 181
2025-06-06
707
لا نزاع في أن «مصر» قد وصلت إلى أعلى ذروة في عهد «نقطانب» الأول، وقد بدأ في عهده عصرٌ جديدٌ في تاريخ إقامة المباني الضخمة وإنتاج الفن الرفيع، وقد وصلت إلينا معلوماتٌ مختلفةٌ عما لا يَقِلُّ عن مائة أثر من عهد هذا الفرعون، وسنتحدثُ عنها فيما بعد، ويُلحظ هنا أنَّ العلاقةَ السياسية بين «مصر» وبين الدويلات الإغريقية لم يعرف عنها شيءٌ يُذكر حتى عام 366ق.م، ويبدو أنَّ ذلك يتناقضُ مع ما كانت عليه «مصرُ» مِنْ عِلَاقاتٍ مع هذه الدويلات في عهد الفرعون «أوكوريس»، ولا يُمكن تفسيرُ ذلك بقِلَّةِ ما لدينا مِن مصادرَ فقط؛ فمنذ صلح الملك الذي عقده في عام 386ق.م لم توجد في بلاد الإغريق أيةُ ولاية على اتصالٍ ببلاد الفرس إلا وكانت في حِلف مع «مصر» خوفًا من سطوة الأولى وطغيانها.
وقد وجدت بلادُ الفرس نفسها في خلال عشرة السنين التي تلت الكارثة التي أصابتْها في «مصر» في حالة انحلالٍ وتدهوُر متزايدَين (راجع: Judeich, Klein asiat studien p. 190 ff; Ed Meyer, Gesch. d. Alt. V § 964-5, p. 454 ff, § 979 ff, p. 485 ff & Beloch Griech. Gèsch. III 2, s 105/5 p. 254–7)، وقد كان الملك «أرتكزركزس» الثاني فضلًا عن ذلك طاعنًا في السن بالإضافة إلى أنه لم يكن حاكمًا قويًّا، ومِنْ ثم ترك أحوال إمبراطوريته تُسَيِّرُها الأقدارُ كما تشاء، فترى فوق تركه القيام بحملة جديدة على «مصر» أن كل شطربياته الغربية قد دَبَّ فيها رُوحُ الانفصال عن الإمبراطورية، وهكذا نرى أن الشطربة «داتامس Datames» حاكم «كابودوشيا» قد اتخذ لنفسه منذ زمن طويل موقفًا مستقلًّا عن المملكة الفارسية، وفي عام 370ق.م نجد أنه قد استولى على «سنوب Sinope» من قبضة «بافلاجونيا Paphlagonia» (1)، وفي كل ذلك قد تحاشى إعلانَ الثورة على ملك الفرس العظيم، وكذلك نجد الشطرب «هكاتومنوس Hekatomnos» صاحب «كاريا»(2) (391–377ق.م) وخليفته «موسوللوس Mausollos» (37 ــ 353 ق.م) كانا في الواقع مستقلين بملكهما أكثر من تبعيتهما لملك الفرس، وكذلك كانت الحال مع الشطربة «اريوبارزانس Ariobarzanes» صاحب «داسكيليون Daskyleion» (حوالي 388–361ق.م)، يضاف إلى ذلك بلادٌ كثيرةٌ أُخرى قد أصبحت شبهَ مستقلة عن بلاد الفُرس.
والواقع أنه كان يُخشى مِن وُقُوع انهيارٍ تامٍّ في الجزء الغربي من الإمبراطورية، وليس لدينا أيُّ مصدرٍ يُمكن أن يُحدثنا عن مدى نُفُوذ بلاد الفرس بعد الكارثة التي لحقتْ بها في «مصر» ولا عن تأثير هذه الخيبة في تدهوُرها، وكل ما نعلمه أنه منذ بداية عام 360ق.م قد حدث أولُ انفجار ظاهر في تصدع تلك الإمبراطورية، وذلك أن «داتامس» حاكم «كابودوشيا» كان أول من بدأ الخطوة الأولى في هذا الصدد بإعلان الثورة، وقد أرسل الملك العظيم الشطربة «أوتوفراداتس Autophradates» حاكم «ليديا»(3) لمحاربة «داتامس»، وعلى الرغم من نيله بعض الانتصارات، فإنه لم يمكنه القضاءُ عليه.
ومن ثم أخذت الثورات تمتد بصورة ضخمة فقام «أريوبارزانس Ariobarzanes» حاكم «فرجيا» (4)، بثورة عام 366ق.م، ومن جهة أخرى نجد كلًّا من «أثينا» و«أسبرتا» قد لامت الملك العظيم على المساعدة التي قدمها لعدوتيهما «طيبة» في عامي 367، 366ق.م.
هذا، وقد كانت «أثينا» — أملًا منها في أن يمدها الفرس بالمال — تفكر بهذه الطريقة لتوسيع تحالُفها، وكانتْ قدْ لجأتْ إلى مساعدة «أريوبارزانس» فعلًا، وقد أرسلت «أسبرتا» الملك «أجسيلاوس» إليه كما أرسلت «أثينا» «تيموتيوس» إليه أيضًا في عام 365ق.م ويُلحظ أنه ما بين عامي 363–361ق.م كان الجزء الغربي من إمبراطورية الملك العظيم قد فُقد جميعُهُ، يُضاف إلى ذلك أن ربيبه «أوروتنيز Oiontes» صاحب «أرمينيا» وبلاد «ليكيا» و«بزيديا» و«بامفيليا» «وكليكيا» و«سوريا» و«فنيقيا» وكذلك بلاد «آسيا الصغرى» الإغريقية، قد انفصلت كلها عن الإمبراطورية الفارسية.
هذا، ونجد أن «موسوللوس» ملك «كاريا» قد عاضد الثورة، ولكن نُشاهد أن صديق الملك الحميم «أوتوفراداتس» صاحب «ليديا» كان مضطرًّا أن يُصبح وحيدًا، وأن يبقى بعيدًا على أية حال، وكذلك نجد أن «داتامس» قد وَصَلَ في زحفه مسافةً متقدِّمًا على نهر الفُرات، وذلك في حين أن «أورونتيز Orontes» الذي كان يقوم على رأس ثورة بوصفه القائد الأعلى لهجوم كبير على الملك العظيم — وقد كان مجهزًا بجيش جمعه في «سوريا» (Diod. XV, 91, 1) — قد أخفق مشروعُهُ من كل النواحي، في فكرته وفي قيادته، ومن جهةٍ أُخرى نجد أن «كورش» الصغير قام من «سرديس» بعصيانٍ على أخيه «أرتكزركزس» الثاني قاصدًا بذلك انتزاعَ ملك الأخمينيسيين، غير أن هذا الاتجاه لم يحز قبولًا قَطُّ من أي من الثوار الذين قاموا بثوراتٍ في عام 360ق.م فقد كان غرضُ كل شطربة أن يصبح هو قويًّا ومستقلًّا بنفسه، ولكن لم يكن لديه أيُّ قصدٍ في الانفصالِ عن الإمبراطورية الفارسية اسمًا؛ إذ لم يكن لأَيٍّ من المشتركين في هذه الثورة أيةُ فائدة حقيقية من الانفصال عن ملك «فارس».
وهذه السياسة قد نفذت تمامًا في كل حالة فردية، فقد كان كل شطربة يظن أن ارتباطه مع الملك الأعظم يحقق فائدته أكثر مما لو انتقض عليه، وعلى ذلك تَحَطَّمَ العصيانُ وهدأت الثورات التي قام بها شطاربة المملكة الفارسية، وقد كان أول من سلم بالإخلاد إلى السكينة واسترضاء الملك الأعظم هو «أوروتنيز» وذلك بإرسال هدايا له كما وعد الملك العظيم، أن يجعل تحت سلطانه كل الشطربيات التي على ساحل «آسيا الصغرى»، وكذلك سلم له كل الثوار الذين كانوا في قبضة يده (Diod. XV, 91, 1) كما عاد كل من «موسوللوس» و«أوتوفراداتس» إلى سياسته القديمة، وبذلك قَوِيَ مركزُهُما بالولاء للملك العظيم. هذا، وسنجد فيما بعد أن «اريوبازانس Ariobazanes» ثم «داتامس»، قد لاقى كُلٌّ منهما حتفَهُ بالخيانة، فقد أُخذ الأول أسيرًا وقُتل الثاني (5)، وبذلك حفظ كيانَ الدولة الفارسية دون أن تتكلف الحكومةُ المركزيةُ أي مجهود حربي.
أما في «مصر» فإنه على ضوء هذه التطورات في الإمبراطورية الفارسية قد ظهرت في مصر حالةٌ جديدة.
وقبل أن نتحدث عن الأحوال السياسية التي نشأتْ عن ذلك يجب أنْ نتحدث هنا عن الآثار التي خلَّفها لنا الفرعون «نقطانب» الأول في أنحاء البلاد أولًا؛ وذلك لأن هذه الأحداث السياسية التي حدثتْ كانت في عهد ملكٍ آخرَ غير «نقطانب» وهو الملك «تاخوس».
.........................................................
1- الواقعة جنوب البحر الأسود مباشرة.
2- على شاطئ البحر الأبيض في آسيا الصغرى.
3- مجاورة ﻟ «كاريا».
4- في الجهة اليمنى من «كاريا».
5- راجع: Xenophon, Cyro p. VIII, 8, 4, Aristoteles Pol. V, 8, 15 (1312a), Cornelius Nepos, Natames, X, XI; Polyan, VII 29, 1; Diodor. XV 91, 7.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة