عصر الملك (دارا) الأول
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج13 ص 85 ــ 89
2025-05-26
623
ذكر «مانيتون» أن الملك «دارا» الأول حكم 36 سنة (راجع: Unger. Chronologie des Manetho p. 285: Wiedmann Geschichte. p. 66) وأعلى تاريخ له وجد على الآثار المصرية هو السنة السادسة والثلاثون (راجع: Inscriptions du Ouadi Hammamat, Couyat-Montet p. 90, No. 146 etc.) ولا نزاع في أن الوثائق المصرية القديمة قد أظهرت لنا الملك «قمبيز» في صورة مختلفة عن الصورة التي صورها لنا الكُتاب القدامى من الإغريق والرومان، وعلى ذلك فإنها تؤلف مستندًا ثمينًا لتاريخ التسلُّط الفارسيِّ على وادي النيل، ولكن عندما نصل إلى عهد الملك «دارا» نجد أنه على الرغم من قِلَّة المصادر المصرية الخاصة به بالنسبة لسلفه؛ فإنها تُقدم لنا حقائقَ جديدةً، كما أنها لا تغير قط الفكرة التي يمكن أن نكوِّنها عن عهده، على حسب ما جاء في المصادر غير المصرية، كما حدث في عهد «قمبيز»، فتدلُّنا الوثائقُ المصرية على أنه في عهد الملك «دارا» عاد «وزاحر رسن» إلى «مصر» بأمر من الملك لأجل أن يُعيد تأسيس مدرسة «سايس» (راجع: الوثيقة، أسطر 24-25).
وهذا العملُ كان يؤلف — على ما يظهر — جزءًا مِن مجموع الإجراءات التي اتخذها «دارا» لأجل تحسين حال البلاد المصرية في الداخل، ويحقُّ لنا أن نُقرِّبَ هذا الرأي من فقرة جاءتْ في الحوليات الديموطيقية، (راجع Spiegelberg, Die Sogenante Chronik Verso: C, 6.16 cf: Ed. Mey.er Sitzungsber. Pr. Ak. Wiss. (1915) 304–309, Reich Mizraim I (1933) 178–182). حيث نجد أن الملك «دارا» قد وكل إلى الشطرب أمر سَنِّ القوانين المصرية، ويرجع تاريخ ذلك إلى السنة الثالثة من عهد «دارا»(1) الأول (519ق.م)، وربما كان هذا التاريخ هو التاريخ التقريبي الذي عاد فيه «وزاحر رسن» إلى «مصر».
وتدلُّ شواهد الأحوال على أنه بعد موت «قمبيز» قامت في «مصر» ثورةٌ نَزعت فيها عن نفسها نيرَ الحكم الفارسي مؤقتًا، وتفصيل ذلك على ما يظهر (راجع: Journal of Near Eastern studies. Vol. 2 Part 4, p. 307 ff) ، أنه في خلال الثورة التي قام بها «نبوبخود نصر» الثالث ملك «بابل» على الملك الأول ما بين أكتوبر وديسمبر سنة 522ق.م (Herod. IV 145) ، انتهزت «مصر» هذه الفرصة ونزعت عن عاتقها نير الحكم الفارسي، وعلى أية حال فإن شطرب «مصر» المسمى «أرياندس Aryandes» هو الذي كان قد أعاده «دارا» إلى الحكم لم يشاطر في هذه الثورة بقلبه، بل كان يعمل بوصفه ممثلًا لقمعها من قبل «دارا»، والواقعُ أن لدينا فقرة من المؤرخ «بوليانوس Polyacnus» كان يعتقد منذ زمن طويل أنها تُشير إلى اشتراك «أرياندس» في هذه الثورة (راجع: Wiedemann Geschichte Agypt, p. 236).
ولكن يجب أن نفهمها الآن على عكس ذلك؛ إذ قد جاء فيها أن المصريين قد أَبَوا احتمال فظائعه وثاروا عليه بسببها، ولا نزاع في أن الثورة التي قام بها المصريون (كما ذهب الأستاذ أو لمستيد) على حسب وثيقة «وزاحر رسن» الذي كان يجله «دارا» كثيرًا كانت على دارا وعلى أريندس، ومن ثم لم يكن يُذكر عنه إلا كل ثناء عاطر — كما أسلفنا — والواقعُ أنه أخذ يُحدثنا بعد أن ذكر ما قام به مِن أعمالٍ عظيمةٍ وما عمله له «قمبيز» أنه عمل لوالده ولوالدته، كل شيء كان يمكن أن يرغب فيه والده عندما حَلَّ الاضطرابُ بهذه المقاطعة (يقصد «سايس»)، وذلك خلافًا للاضطراب العظيم الذي حل بكل أرض «مصر»، وفي الجملة التي تلي ذلك يذكر لنا «وزاحر رسن» جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري «دارا»، ومن ثم نفهم أنه كانت توجد بمصر اضطراباتٌ عند تَوَلِّي «دارا» عرش الملك، ولن نكون قد ذهبنا بعيدًا عن الصواب إذا فسرنا هذه الاضطرابات بأنها الثورةُ التي قام بها المصريون على «دارا» والشطرب الفارسي «أرياندس»، هذا، ويستمر «وزاحر رسن» في حديثه قائلًا:
«دارا» … أمر بالعودة إلى «مصر»، وهذه العبارة لها أهميةٌ عظيمة؛ وذلك لأن هذا المصري «وزاحر رسن» الذي كان مواليًا للفُرس الذين أغدقوا عليه النعم العديدة؛ قد وصل إلى مرتبةٍ لم يكن في استطاعتِهِ أن يصل إليها إذا كانت «مصرُ» قد بقيتْ مستقلةً، كان قد هرب من بلاده خلال الاضطرابات، ومن المحتمل أنه كان قد هرب بصحبة «أرياندس»، ولم يكن في استطاعتِهِ العودةُ إليها إلا عندما أمره «دارا» بالعودة؛ أي بعد أن كان قد قضى على الثورة، وبذلك أصبح الموظفون الموالون للفرس في طمأنينة على حياتهم.
والفقرة المشارُ إليها نقلًا عن «بوليانوس» تذكر أنه كان من الضروريِّ؛ لأجل إخماد هذه الثورة أن يجتاز الملك «دارا» صحراء بلاد العرب ويصل إلى «منف» في الأيام التي كان المصريون فيها يَلبسون الحداد على العجل «أبيس» المتوفَّى، ولما وصل هذا العاهلُ إلى «مصر» منح مبلغ مائة تلنت من الذهب لقائد العجل «أبيس»، وقد دهش الشعب المصري من هذا السخاء، حتى إنهم أحجموا عن الاستمرار في ثورتهم على الفرس.
وهذه الفقرة كانت لسببٍ وجيهٍ لها علاقاتٌ بمتن مصري منذ زمن بعيد، وعلى حسبه نجد أن عجل «أبيس» كان قد مات ودُفن في السنة الرابعة من حكم الملك «دارا» (راجع: Posener Ibid No. 5, p. 36) وعلى ذلك كان لا بد أن نستنبط أن «دارا» كان قد وصل إلى «مصر» ما بين 31 أغسطس و8 نوفمبر من عام سنة 518 ق.م.
ولا بد أن نعرف أن هذا الفصل من السنة في «مصر» لم يكن ملائمًا كل الملاءمة؛ وذلك لأن الفيضان يكون في قمة ارتفاعه في سبتمبر، وفي هذا الوقت تكون أراضي الدلتا مغمورةً بالمياه، ولكن «بوليانوس» يقول: إن «دارا» اجتاز الصحراء العربية، وهذا التعبيرُ يدلُّ في الأزمان القديمة على أنه كان يَشمل الأراضيَ التي تقعُ شرقي الدلتا، وعلى ذلك كان في مقدور «دارا» أن يتفادَى أرض الدلتا التي كان يغمرُها الفيضانُ، وبذلك كانت طريقه — بلا نزاع — عبر وادي «طليمات»، ومن الجائز أن مسألة إصلاح القناة القديمة — وهي التي كانت تمر بوادي «طليمات» — قد عملت في هذا الوقت.
والآن لم يعد بعدُ موضوع تاريخ زيارته من الموضوعات الرئيسية؛ إذ في مقدورنا أن نضرب صفحًا عن موضوع إقامته تمثالًا لنفسه أمام تمثال «سيزوستريس» الذي أخضع تمامًا عددًا كبيرًا من الأُمم التي أخضعها «دارا» لسلطانه، والذي قهر السيثيين Sethians أيضًا، وهذا عملٌ عظيمٌ قد عجز «دارا» عن إتيانه، (Herod. II, 110; Diod. 1, 58) ؛ وذلك لأنه في وقت دُخُوله «مصر» عام 508ق.م، لم يكن — في الواقع — قد هاجم سيثيي «أوروبا».
ولكن لدينا عبارةٌ في الحوليات الديموطيقية لا تُعارض دخولَ «دارا» «مصر» متأخرًا في عام 518 ق.م، وهذه العبارة ما يأتي: «أرسل «دارا» إلى «مصر» شطربة في السنة الرابعة.» وأمر بجمع القوانين القديمة المصرية، وهذا الأمر يظهر جليًّا على أنه كان قد أرسل من خارج «مصر»، ولكن في الوقت نفسه كانتْ وقتئذٍ قَدْ أصبحتْ «مصر» ثانية إقليمًا فارسيًّا، لها شطربها الخاص، والواقع أن السنة الرابعة من حكم «دارا» في «مصر» كانت قد انتهتْ فعلًا في 30 ديسمبر سنة 518 ق.م، وإذا فرضنا أن «دارا» كان قد دخل البلاد المصرية ما بين 30 أغسطس، 8 نوفمبر من هذه السنة فإنه لم يكن لديه وقتٌ لوضع الأُمُور في نصابها، فكان عليه أن يُعيد «أرياندس» شطربة على «مصر»، ثم يعود هو إلى «آسيا»، ومع ذلك فقد أصدر أوامر في «مصر» نفسها في نفس السنة.
وعلى ذلك فإنه من الممكن أن نجبَر على قبول الاقتراح السابق، وهو أن النواة الحقيقية التي جاءتْ في قصة «بوليانوس»، وهي أنه من المحتمل أن عجل «أبيس» قد مات في نفس السنة التي وصل فيها «دارا» إلى «مصر» «وذلك على الرغم من أن وصوله كان قبل ذلك بأشهُر في الشتاء».
وكذلك لا بد أن نستنبط أن الثورة قد قُضِيَ عليها بنجاح بوساطة إجراءات أعنف مما جاء في قصة «بوليانوس».
ومهما يكن من أمر فإن موضوع اشتراك «أرياندس» في ثورة المصريين على الفرس قد أصبح أمرًا مفروغًا منه، ويمكن الآن أن نعتبر — على ضوء جديد — مخاطراته التي جاءت بعد، وذلك أنه بعد انقضاء سِنِينَ على الحوادث التي ذكرناها الآن وحوالي الوقت الذي كان فيه «دارا» نفسه مشتغلًا في حروب مع السيثيين، سعى «أرياندس» إلى أن يُظهر ولاءه للملك؛ لِمَا أَسبغَه عليه مِن نِعَم بالاستيلاء على بلاد «لوبيا»؛ لتكون مُلك «فارس»، وقد اتخذ لذلك حجة، أنه كان يُساعد حاكم «برنيقيا» (برقة) الذي كان في زمنه، وهذه الحجة لم يقبلها حتى «هردوت» (Herod. IV, 145) ، وأمر جنوده بالسير نحو «برقة»، وقد استسلمت بعد حصارٍ دَامَ تسعةَ أَشْهُر، ثم وصل جيشُهُ بعد ذلك مظفرًا إلى «إيوسبريس Euesperis» «بنغازي الحالية» (راجع: Oris Bates. The Eastern Ly jians p. 52 ) وعلى أية حال فإن جيشه عندما قفل راجعًا إلى «فرتيكا» اشتبك في مناوشات لا نهاية لها مع السكان الأصليين، ومن أجل ذلك أمر «أرياندس» جيشه بالعودة إلى وطنه، وقد كانت عودته هذه على ما يظهر قد تمت بشقِّ الأنفُس.
وعلى أية حال فإن الحملة قد أصابتْ بعض النجاح، هذا وقد أرسل «أرياندس» بعض الأسرى البرقيين إلى الملك «دارا»، وقد أرسلهم الأخيرُ إلى بلاد «بكتيريا» «الفرس» حيث كانت توجدُ مستعمرةٌ لهم هناك كان يُمكن رؤيتُها في أيام «هيرودوت».
وحوالي نفس هذا الوقت كانت «قناة السويس» قد تم إنشاؤها، وعلى ذلك كانت اللوحات التذكارية قد أقيمت على شاطئيها، وقد كتب ضمن قائمة المديريات الفارسية فيها إقليم «لوبيا» كما سنرى بعد، وتدل شواهد الأحوال على أنه فيما بعد قد اتهم «أرياندس» شطرب «مصر» بالخروج على «فارس» وحكم عليه فيما بعد بالإعدام.
............................................
1- وقد ذكرت نفس السنة في الورقة الديموطيقية رقم 41 من القائمة التي وضعها «جريفث» (راجع: Ryl. Pa p. 3, 25-26): الذهب والفضة التي تركت في معبد «إدفو» (؟) في السنة الثالثة من عهد «دارا» وهل هذه الوثيقة تنسب إلى النظام الذي قام به شطربة «مصر» (راجع( Revillout Notiece, 407:.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة