الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
الباعث على اختراع الشعر
المؤلف:
مصطفى صادق الرافعي
المصدر:
تاريخ آداب العرب
الجزء والصفحة:
ص259-260
23-03-2015
3216
الشعر قديم في فطرة العرب ، ولكنا إنما نبحث في هذا الكلام المقفى الموزون، فهو بهذا القيد لا يكون شعراً حتى يكون قد استوفى صفة اللفظ، ولا يستوفيها حتى تكون الألفاظ قد مرت بها اللغة في أدوار كثيرة كما أشرنا إلى ذلك، وقد بقي أن نعرف كيف نطقوا بهذا الكلام، وما الذي نبههم إليه وأجراه على ألسنتهم، وهو معلوم أن ذلك لا يمكن أن يكون احتذاء لشعر أمة أخرى، فإن السريانيين والعبرانيين لا يشترطون في شعرهم التقفية، والعبرانيون قد يشترطون القافية دون الوزن، فيكون الشعر شبيها بالسجع عند العرب؛ فضلاً عن أن هذه الأوزان العربية ليست لأمة من الأمم؛ قال ابن رشيق في ذلك: "كان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعراً؛ لنهم قد شعروا به، أي فطنوا له".
وهو كلام يعطيك من ظاهره ما شئت أن تتأول ولا باطن له؛ ولكن الذي عندنا من ذلك أن الوزن نفسه مر في العرب على أدوار، فكانوا يحدون الإبل من أقدم أزمانهم بكلام وأصوات تشبه التوقيع؛ لأنه من المعلوم بالضرورة أنه لا ينفس من التعب ولا يبعث على النشاط غير الأصوات الموقعة على وزن ما؛ وقد نقل ابن رشيق في "العمدة" أن أصل الحداء عندهم من النصب، وهو غناء الركبان والفتيان، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله به هبل، فسمي لذلك: الغناء الجنابي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض. وهو لا يريد إلا الحداء المنظم الموزون الذي جروا عليه أخيراً صنعة لا فطرة فيها. وقال في موضع آخر: ويقال إن أول من أخذ في ترجيح الحداء، مضر بن نزار؛ فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وايداه! وايداه! وكان أحسن خلق الله جرماً وصوتاً، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالاً لقوله "هايدا هايدا" يحدون به الإبل. وقالوا في أصل الحداء غير ذلك (ص241 ج/2 العمدة) ولكنهم لم يرجعوه إلى ما قبل زمن مضر، وهي أقوال لا دليل عليها، وإنما جاءوا بها تأويلاً للفظ الحداء عند العرب.
ثم خرجوا عن هذا الوزن في الحداء إلى وزن الأصوات في الحروب، إذ كانوا في ذلك لا يجرون على نظام كنظام الأمم المتحضرة، ومن أجل ذلك كان طبيعياً أن تكون تلك الأصوات القوية مما تشد به القلوب على القلوب، وهم لا يمدحون شيئاً كجهارة الصوت وسعة الجرم، ولهم في ذلك أخبار عريضة ذكر الجاحظ منها طرفاً في كتابه "البيان"؛ ثم إنهم كانوا يخرجون تلك الأصوات في مواقفهم للضرب والطعن والصراع والجلاد، مقاطيع من الحروف تكون صيحات، وتارة كلمات، كقولهم مثلاً عند الطعن: خذها وأنا فلان! ونحو ذلك، وهو مما تبعث عليه فطرتهم وأحوالهم من الأخلاق والاجتماع، فلا بد أن يكون ذلك منشأ انتباههم إلى الوزن؛ إذ لا يبعد أن يكون قد صاح بعضهم بكلمات قذفها القلب غضباً وحدة، فجاءت كما يجيء قسيم بيت، ثم خرجت على أثرها كلمات أخرى وكانت أشد من تلك، فانتهت بحركة مفزعة هي حركة القافية، ثم انتبه الصائح إلى تتابع هذه الحركات، ووافق ذلك رفيف قلبه واهتزاز نفسه وتحريك الحمية والإعجاب، فقفى على البيت بآخر؛ وكان هذا سبب الانتباه إليه والشعور به، ثم شاع بينهم بعد ذلك وقصدوا إليه قصداً في أغراضهم التي مثلت لهم بعد ذلك، من المقارضة والمماتنة والمفاتنة حين بعثتهم على ذلك طبيعة التفرق وأحوال الاجتماع البدوي، بعد أن طارت بهم الفتن ومزقتهم الحروب على ما نعرفه من التاريخ؛ فتبعوا الوزن وبنوا عليه ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها وتهش النفوس إليها، ثم خصوه بعد ذلك بما ينصرف إليه القول من وجوه التفاصح، فكان ذلك سبباً في إطالته وإحكامه.
وأنت إذا تدبرت حركات الأبحر التي شاع فيها نظم العرب، رأيتها من الحركات الحماسية، ولذلك بني أكثر شعرهم على الحماسة، خصوصاً ما وقع إلينا من الشعر القديم، فإن لم تكن تفاعيل الوزن من الحركات الحماسية كانت موسيقية مما تتحرك به العواطف؛ من أجل ذلك قلت في شعرهم القوافي الضعيفة إلى حد الندرة، لأن القافية قرار المعنى، وهي الصوت الطبيعي الذي ينزل من الشعر منزلة الإشارة التي تصحب كلام المتكلم؛ وتلك العناية منهم بها مما يرجح عندنا أن أصل الاهتداء إلى الوزن إنما كان بالقافية وما فيها من الرنين وما وافق من ذلك حمية الجاهلية كما سلفت الإشارة إليه.
وعلى هذا كان لا بد في الأوزان التي نظموا بها من موافقة المعنى في حركاته النفسية، للوزن في حركاته اللفظية، حتى يكون هذا قالب ذاك؛ وإذا أنت اعترضت شعر الجاهلية فإنك ترى كل بحر من البحور مخصوصاً بنوع من المعاني، فالطويل وهو أكثر الأوزان شيوعاً بينهم، إنما اتسع لتفرغ فيه العواطف جملة، فهو يتناول الغزل الممزوج بالحسرة، والحماسة التي يخالطها شيء من الإنسانية، والرثاء الذي يتوسع فيه بقص الأعمال مبالغة في الأسف والحزن؛ ويتصل بذلك سائر ما يدل على التأمل المستخرج من أعماق النفس، كالتشبيهات والأوصاف ونحوها؛ وبالجملة فإن حركات هذا الوزن إنما تجري على نغمة واحدة في سائر المعاني، وهذه النغمة تشبه أن تكون حركة الوقار في نفس الإنسان، بخلاف الكامل؛ فإن كان كل ما يحمل من المعاني لا يدل إلا على حركة من حركات النزق في هذه النفوس، فإن كان حماسة كان شديداً، وإن كان أقرب إلى التذمر والسخط، وإن كان وصفاً كان نظراً سريعاً لا سكون فيه ولا إبطاء؛ وقس على ذلك سائر الأوزان، وهذه الأسرار الدقيقة هي التي امتاز بها الشعر العربي على كل ما سواه من أشعار الأمم، وهي هي التي يتفاضل بها الشعراء على مقدار رعايتها وعلى حساب ما يلهمون منها فيما ينظمون.
الاكثر قراءة في العصر الجاهلي
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
