إنّهم لا يرون غاية سير الإنسان إلى ذات الحقّ الأقدس؛ وينكرون بصراحة بلوغه مقام العزّ الشامخ للأحديّة، وفناء وجوده واندكاكه في ذاته عزّ وجلّ.
وبناءً على هذا، فهم ينكرون إمكان العرفان الإلهيّ ومعرفة ذات الحقّ بالنسبة إلى الإنسان، ويقولون: أنّ غاية السير العرفانيّ والكم إليّ للإنسان هي باتّجاه الوليّ الأعظم الذي يمثّل الحجاب الأقرب وواسطة الفيض.
ويقولون: أنّ ذات الحقّ الأقدس براء من كلّ اسم ورسم؛ ومن كلّ صفة؛ لذلك فإنّ أسماء الحقّ وصفاته ليست عين ذاته؛ بل هي في مرحلة أوطأ؛ وبالتالى فإنّ ذات الحقّ تفقد كلّ صفة وكلّ اسم.
أنّ الوليّ الأعظم وقطب دائرة الإمكان هو: إمام العصر والزمان، وهو اسم الله، وفي درجة أوطأ من ذات الحقّ؛ لأنّ السير نحو الذات الخارجة عن كلّ اسم ورسم، الأزليّة الأبديّة التي ما لا نِهَايَةَ لَهَا محال؛ لذلك فإنّ غاية سير الإنسان هي باتّجاه الاسم الأعظم للحقّ، وهو الوليّ الأعظم الذي يمثّل الفاصلة بين الله وبين عالم الخلق.
يقول الشيخيّة: ذلك لأنّ إمام العصر والزمان وحده يستطيع أن يظفر بوصال الله؛ ونحن أيضاً لا نستطيع أن نظفر بوصال الإمام إلّا بواسطة؛ ولا بدّ من هذه الواسطة التي تربطنا به؛ وهذه الواسطة هي الشيخ الذي يسمّونه: الرُّكْن الرابِع. فالركن الأوّل هو: الله؛ والثاني هو: النبيّ؛ والثالث: الإمام؛ والرابع: الشيخ. فالغاية- إذَن- هي سيرنا إلى الفناء في الشيخ؛ وغاية سير الشيخ هي الفناء في الإمام؛ وغاية سير الإمام هي الفناء في الحقّ؛ وهذه الأركان الأربعة لا بدّ منها.
وفساد هذه العقيدة واضح للأسباب التالية:
أوّلًا: إذا اعتبرنا صفات الحقّ وأسماءه منفصلة عن ذاته، وأنّ ذاته هي بلا اسم ورسم؛ فمؤدّى هذا الكلام هو أنّ ذات الحقّ فاقدة للحياة والعلم والقدرة؛ وبناءً على ذلك فهي ذات جامدة وميّتة وجاهلة، وتَعَإلى اللهُ عَنْ ذَلِكَ.
وثانياً: أنّ الآيات القرآنيّة والروايات جميعها تدعونا إلى ذات الحقّ في السير والمعرفة؛ وتعتبر غاية السير والوصول والعرفان هو الوصول إلى ذات الحقّ، لا الوصول إلى الوليّ الاعظم وعرفانه.
وثالثاً: لعلّ هناك من يسأل قائلًا: لما ذا يتمتّع الإمام والوليّ الأعظم بإمكانيّة العرفان والوصول إلى ذات الحقّ الأقدس، ولا يتمتّع غيره بذلك؟
وإذا كان ممكناً له ذلك، فهو ممكن للجميع. وإذا كان لغيره محال، فكيف يكون ممكناً له؟
يقول الشيخيّة: الوليّ الأعظم ليس ممكناً وليس واجباً؛ بل هو في مرتبة بين الإمكان والوجوب.
والجواب هو: أننا لا نتعقّل وجود مرتبة بين الإمكان والوجوب؛ فكلّ الناس في دائرة الإمكان؛ وغاية سيرهم فناؤهم واندكاكهم في ذات وَاجِبِ الْوُجُودِ.
ورابعاً: في ضوء هذا الكلام، فإنّ الوليّ الأعظم ينبغي أن يكون له وجود مستقلّ؛ لكي يتحقّق فناء الموجودات التي لها اسم ورسم فيه، لا أن يكون له وجود تبعيّ وظلّيّ ومرآتيّ؛ وإلّا فإنّ الهدف ينبغي أن يكون ذات الحقّ. وما يتطلّبه هذا الافتراض هو الشرك والثنويّة والتفويض والتولّد وتَعَإلى اللهُ عَنْ ذَلِكَ.
وأخيراً، فإنّ هذه الطائفة لم تعلم أنّ الولاية قائمة في كلّ موجود؛ وهي عبارة عن ارتفاع الفاصلة والحجاب بين ذلك الموجود وذات الحقّ؛ وأنّ هذه الولاية في الله أصليّة، وفي جميع الموجودات تبعيّة وظلّيّة ومرآتيّة.
أنّ القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات آية ومرآة؛ والروايات أيضاً تأبي أن يكون للائمّة مقام مستقلّ؛ وترى ذلك تفويضاً وخطأ؛ بل أنّ كلّ مقام وكلّ درجة وكمال يتمتّعون به هو من الله؛ ومع الله؛ ولله؛ وإنّما هم ممثّلون ومظهرون لذلك فحسب.
إنّهم صراط الهداية التكوينيّة والتشريعيّة وجسرها للوصول إلى مقام العزّ الشامخ للحقّ جَلَّ وعَزَّ.
القصد والمقصود هو الله؛ وذاته المقدّسة وأسماؤه وصفاته. والأئمّة وسطاء الفيض والرحمة في قوسي النزول والصعود.
وفي ضوء ما تقدّم فإنّ لوجود بقيّة الله أرواحنا فداه مرآتيّة وآيتيّة لوجود الحقّ الأقدس تعالى. ولذلك فإنّ معرفته أيضاً يجب أن تحمل صفة الآيتيّة والمرآتيّة لمعرفة الحقّ تعالى.
وبلغة علميّة: فإنّ وجوده بالنسبة إلى وجود الحقّ هو معنى حرفيّ بالنسبة إلى معنى اسميّ.
وعلى هذا فإنّ طريق السير إلى الله المتعال هو الإمام نفسه؛ بَيدَ أنّ الهدف هو الله تبارك وتعالى نفسه. ومن المعلوم أننا إذا حسبنا الطريق هدفاً، فكم يكون حجم خطأنا!
ينبغي أن نسير إلى الله، ونجعل لقاءه، والوصول إليه، وعرفانه، والفناء والاندكاك في ذاته غايتنا المنشودة؛ غاية الأمر لمّا كان هذا المقصد لا يطوى بدون هذا الطريق. وأنّ الغاية المنشودة تتعسّر بدونه، لذلك ينبغي لنا أن نخطو على هذا الطريق لبلوغ الهدف المنشود.
ولمّا كنّا عاجزين عن رؤية الشمس بلا مرآة، فلننظر إلى جمالها في الماء وفي المرآة.
فالمرآة بالنسبة إلى الشمس لها معنى حرفيّ؛ فهي لا تتجلّى بذاتها، بل تتجلّى الشمس فيها.
إنّنا لا نستطيع أن نستغني عن النظر إلى الشمس، وأنوارها وحرارتها، ولمعانها لأنها تهب الحياة؛ ولا نستطيع أن ننظر في المرآة على نحو الاستقلال؛ لأنها في هذه الحالة لا تمثّل الشمس، ولا تشكّل مظهراً لها؛ ولا تعكس وجهها فيها. بل أنّ المرآة في هذه الحالة مظهر لنفسها؛ إنّها زجاجة؛ صقيلة؛ وليس لها عنوان المرآتيّة حقّاً.
أمّا لو نظرنا في المرآة والماء على نحو تمثيليّ ومرآتيّ؛ فلن نراهما آنذاك، بل سنرى الشمس فيهما؛ إذَن لا بدّ أن ننظر في المرآة كي نرى الشمس؛ ولا سبيل لنا غير ذلك؛ وبعبارة علميّة فإنّ المرآة ما بِهِ يُنْظَرُ لا مَا فِيهِ يُنْظَرُ.
وهكذا فإنّ الوجود المقدّس لبقيّة الله عجّل الله تعالى فرجه مرآة تامّة الظهور للحقّ؛ وينبغي أن نرى الحقّ في تلك المرآة؛ لا أن نراها، لأنها لا ذاتيّة لها؛ ولا يمكن أن نرى الحقّ بلا مرآة، لتعذّر رؤيته بدونها.
وفي ضوء ذلك؛ لا بدّ من البحث والتنقيب عن الحقّ والسعي الدؤوب باتّجاهه، وذلك عن طريق وليّه الأعظم ومرآته وآيته.
أنّ المخاطَب في الأدعية والمناجاة هو الله عن طريق ذلك الإمام وسبيله وصراطه؛ ولهذا فلو عرضنا حاجتنا على الإمام نفسه، وجعلناه المخاطب؛ فلا بدّ أن نلتفت إلى أنه لا يتّخذ طابعاً استقلاليّاً؛ ولا يتقمّص الاستقلال؛ بل له عنوان الوساطة والمرآتيّة والآيتيّة، ولنعش هذا المعنى في أذهاننا باستمرار، ونأخذه بعين الاعتبار. وسنكون في عملنا هذا قد جعلنا اللهـ في الحقيقة- هو المخاطَب؛ لأنّ المرآة بِمَا هِيَ مِرْآة لا تقبل النظر الاستقلالىّ؛ بل النظر التَّبَعيّ؛ ويرجع النظر الاستقلاليّ إلى نفس الصورة المنعكسة فيها.
وهذه المسألة من أهمّ المسائل في باب العرفان والتوحيد: إذ أنّ كَثَرات هذا العالم لا تتنأي مع وحدة ذات الحقّ؛ ذلك لأنّ الوحدة أصليّة، والكَثَرات تَبَعيّة وظِلّيّة ومرآتيّة؛ وتستبين مسألة الولاية جيّداً في أنّ حقيقة الولاية هي نفس حقيقة التوحيد؛ وقدرة الإمام وعظمته وعلمه وإحاطته، هي عين قدرة الحقّ تبارك وتعالى وعظمته وعلمه وإحاطته، فلا اثنينيّة هنا.
بل لا معنى للطلب من الله بلا وساطة الإمام ومرآتيّته؛ كما أنّ الطلب من الإمام مستقلّا لا معنى له بدون عنوان الوساطة والمرآتيّة لذات الحقّ المقدّسة أيضاً.
والطلب من الإمام ومن الله شيء واحد في الحقيقة؛ وليس شيئاً واحداً في اللفظ والتعبير، ومن الوجهة الأدبيّة والبيانيّة فحسب، بل هو شيء واحد من منظار الحقيقة والواقع؛ ذلك لأنه لا شيء في الوجود غير الله. قال عزّ من قائل: {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ والْإِكْرامِ}.[1]
لقد أخطأت هاتان الطائفتان (الوَهّابيَّة، والشَيْخيَّة)؛ لأننا إذا رفعنا عنوان المرآتيّة عن الممكنات سواء كانت مادّيّة أو مجرّدة؛ أو أضفينا عليها عنوان الاستقلال، فقد أخطأنا في كلتا الحالتين. والصواب هو لا هذا ولا ذاك؛ بل الموجودات لها أثر الحقِّ؛ وهي صاحبة صفات الحقّ، وهي مظاهر ومجالى ذاته وأسمائه الحسنى وصفاته العُليا.
أنّ مذهب الوهَّابيَّة يميل إلى الجبر، ومذهب الشَيْخِيَّة إلى التفويض؛ وكلاهما على خطأ بَلْ أمْرٌ بَيْنَ الأمْرَيْنِ ومَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ؛ وذلك هو إشراق نور ذات الحقّ الأقدس في الكثرات المادّيّة والمجردّة.
ينكر مذهب الوَهَّابيَّة قدرة الحقّ وعلمه في الموجودات؛ وينكر مذهب الشَيْخِيَّة قدرة الحقّ وعلمه في ذاته نفسها؛ فكلاهما قال بالتعطيل، وكلاهما ضلّ السبيل.
أنّ وجود الحجّة بن الحسن أرواحنا فداه هو الظهور الأتمّ للحقّ.
والمجلي الأكمل لذات ذي الجلال؛ والغاية هو الله، والإمام دليل مرشد إليه. ونحن إذا نظرنا في توسّلاتنا إلى الإمام مستقلّا، وأردنا لقاءه مستقلًّا، فلا نحن ظفرنا بفيضه، ولا نحن ظفرنا بلقاء الله وزيارة المحبوب.
أمّا فيضه فلا نبلغه، لأنّ وجوده ليس مستقلّا. ونحن قد ذهبنا وراء وجود استقلاليّ؛ وأمّا لقاء الله فلا نظفر به؛ لأننا لم نتوجّه إلى الله؛ ولم نر الله في الإمام.
ولهذا فإنّ أغلب الذين يذوبون في عشق وليّ العصر والزمان؛ وحتى لو أفلحوا في زيارته، فإنّهم أيضاً لا يتجاوزن الأهداف البسيطة والجزئيّة؛ والحوائج المادّيّة والمعنويّة؛ من هذا المنطلق فإنّهم لم ينظروا إلى الإمام على أنه مرآة الحقّ وآيته؛ وإلّا فإنّهم ينبغي أن يروا الله بمجرّد الرؤية والزيارة؛ ويظفروا بوصال الحقّ عن طريق وصال الإمام؛ لا أن يكون الإمام حجاباً بينهم وبين الحقّ؛ فيرجونه قضاء حوائجهم الدنيويّة، وغفران ذنوبهم، وإصلاح امورهم.
وما أكثر الذين تشرّفوا بالحضور عنده، وعرفوه؛ لكنّهم لم يحترزوا من عرض مثل هذه الحاجات؛ فطلبوا هذه الأشياء! فلم يعرفوه حقّاً لأنّ معرفته هي معرفة الله؛ مَنْ عَرَفَكُمْ فَقَدْ عَرَفَ الله.
ومن رام التشرّف بخدمته، فعليه أن يزكّي نفسه، وينشغل بتطهير سريرته؛ وفي هذه الحالة يبلغ لقاء الله الذي يتطلّب لقاء الإمام؛ ويصل إلى لقاء الإمام الذي يعني الظفر بلقاء الله بالملازمة؛ حتى لو لم يتشرّف في العالم الطبيعيّ الخارجيّ بالرؤية الحسيّة لجسم الإمام.
فالحجر الأساس في العمل هو معرفة حقيقة الإمام؛ لا التشرّف برؤية جسمه المادّيّ الطبيعيّ. وما يظفر به من التشرّف بالحضور المادّيّ والطبيعيّ هو هذا المقدار اليسير من الرؤية فحسب. بَيدَ أنّ ما يظفر به من التشرّف بمعرفة حقيقته وولايته هو خلوص سريرته وطهارتها؛ والحظوة بلقاء المحبوب: الله القادر المتعال. {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ}.[2]
وممّا يؤثر عن العلّامة بحر العلوم قدّس الله نفسه أنه قضى عمراً في مجاهدة النفس الأمّارة وتزكية السريرة وتطهيرها وذلك للاستمتاع بالعرفان الإلهيّ، وبلوغ مقام المعرفة والفناء والاندكاك في ذات الحقّ؛ ومقامه في مراحل العرفان ومنازله مشهود من رسالته في السير والسلوك.
وكان يتشرّف بخدمة الإمام عبر هذا المنظار؛ منظار رؤية الحقّ وهو الله، لا منظار رؤية النفس.
ونقل عنه أنه كان مشغولًا ذات يوم بقراءة النصّ الموجود في باب الحرم الحسينيّ الشريف المتعلّق بإذْنِ الدخول للتشرّف بزيارة سيّد الشهداء عليه السلام. وما إن أراد الدخول حتى وقف فجأة، وكان يحدّق النظر إلى زاوية من زوايا الحرم المطهّر؛ وظلّ على وقفته برهة، وهو يترنّم بهذا البيت: بعد ذلك سألوه عن سبب توقّفه؛ فأجاب: كان الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه جالساً في تلك الزاوية، وهو يتلو القرآن.
هذا هو معنى الوصول؛ وهذه هي حقيقة الآيتيّة والمرآتيّة.
وما علينا إلّا أن نسعى جاهدين لترسيخ اعتقاداتنا؛ وتشييد صرحها على أساس أصالة الواقع بأحسن وجه.
لقد أثار الوَهَّابِيَّة والشَيْخِيَّة فتناً عظيمة من وحي التفكير الخاطئ، وسفكت الدماء، وقُتل المسلمون. وطفق محمّد بن عبد الوهّاب يبثّ دعوته مهتدياً بابن تيميّة الذي كان بدوره والهاً ومولعاً بابن تُومَرْت مدّعي المهدويّة في شمال إفريقية، الذي استولى على قسم من إسبانيا، والجزائر، والمغرب، وتونس خلال مائتي سنة، وسمّوه: مَهْديّ المُوَحِّدين. وكان محمّد بن عبد الوهّاب شريكاً لمحمّد بن سُعود. وسيفاهما مع سيوف أتباعهما تقطر دماً. وأني كانوا يمرّون فإنّهم يسفكون الدماء البريئة. وقد كفّروا المسلمين كافّة، وكلّ من لا ينصاع لدعوتهما فإنّه كافر ويجب أن يقتل. أنّ فتنة الوهّابيّة هي فتنة عظيمة وغريبة حقّاً، لا يزال العالم الإسلاميّ عاجزاً عن تضميد ما تركته من قرح، وتعويض ما نجم عنها من أضرار وخسائر للمسلمين.
[1] الآية 78، من السورة 55: الرحمن.
[2] الآية 61، من السورة 37: الصافّات.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة