قصّة العميد قريب مع الشيخ الوهّابيّ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص162-165
2025-12-21
19
يروي صاحب الكتاب (السيد الطهراني) في السنة التي تشرّف خلالها بحجّ بيت الله الحرام. ذهبنا بالباخرة عن طريق الشام حتى وصلنا جدّة؛ واستغرقت الرحلة أكثر من اسبوع، وكان معي عدد من الأصدقاء الذين هم غالباً من زملائي. وكان لدينا متّسع الوقت الكأي والمكان الهادي لكي نتعلّم مناسك الحجّ.
وكان في الباخرة أحد العلماء قاصداً بيت الله الحرام أيضاً، وكان دائماً يجلس لوحده، صامتاً، مراقباً، ومنقطعاً إلى نفسه.
وكنّا في الأيّام الاولى نذهب إليه لمدّة ساعة لنسأله عن المسائل التي نحتاج إليها، ثمّ أكثرنا من الذهاب إليه في الأيّام التالية حتى طلبنا منه أن يأتى ويشاركنا في طعامنا لكي نستفيد من وجوده أكثر فأكثر. فوافق على اقتراحنا وجاء معنا. فاضيف إلى مجموعتنا شخص آخر.
وصلنا إلى المدينة المنوّرة، وأني ذهبنا كنّا معاً لم نتفارق. ومعنا ذلك العالم، وقد استفدنا منه كثيراً وسررنا غاية السرور بوجوده معنا. كان رجلًا خليقاً هادئاً صبوراً عالماً مفكّراً.
ذات يوم ذهبنا بمعيّته لزيارة مكتبة المدينة المنوّرة المعروفة. وكان أمينها شيخاً أعمى من أتباع المذهب الوهّابيّ. فجلس معنا، وأخذنا نتجاذب معه أطراف الحديث؛ ولمّا فهم أننا من إيران ومن أتباع المذهب الجعفريّ، لم يترك شيئاً إلّا وقاله ضدّ الشيعة بكلمات نابية غير مؤدّبة، فأخذ يوبّخ، ويمتهن، ويهين، ويفترى بنسبتهم إلى الشرك، واليهوديّة، والمجوسيّة. وينتقد الأصول والفروع كلّها؛ ويقرأ رواية بلهجة عصبيّة ويبرّرها؛ ويتلو آيات قرآنيّة ويشرحها. وهو يقصد إدانتنا في كلّ ذلك مستنتجاً أننا غير مسلمين؛ لا نصلّي؛ ولا نصوم، وأنّ حجّنا للنزهة والسياحة، لا للعبادة. وأنّ سجودنا على تربة الإمام الحسين نوع من عبادة الأصنام؛ وأنّ زيارة القبور، والطواف حول المشاهد المشرّفة، وتقبيل الأضرحة والأبواب، كلّ ذلك شرك وعبادة للموتى.
وكان يقول: الشيعة لا تعرف القرآن ولا تتلوه، وتؤوّل معانيه؛ وهذا دمار للقرآن؛ ويجب أن يفسّر القرآن بمعناه الظاهر، وأساساً فإنّ القرآن لا يجوز أن يُفسّر، بل يجب الاكتفاء بظاهره.
أنّ النور المقصود في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ}.هو هذا النور الظاهريّ.
بينما يقول الشيعة ويكتبون في تفاسيرهم أنّ المراد من النور هو الحقيقة؛ وهذا تفسير بالرأي، وهو حرام.
يقول الشيعة: أنّ المقصود هو أنّ الله منير السماوات والأرض؛ وهذا خلاف الظاهر.
القرآن يقول بصراحة: {وَ جاءَ رَبُّكَ}. يقول الشيعة: القصد هو وجَاءَ أمْرُ رَبِّكَ. وهذا المعنى غير صحيح.
وأطال الأعمى حديثه في هذا المجال. وكان العالم الذي معنا صامتاً مثلنا، لا ينبس ببنت شفة.
وأصابنا فتور؛ وامتعضنا من سكوت صاحبنا. لما ذا لا يجيب؟ لما ذا يُدان هنا، وهو الذي نخاله عالماً واعياً، ولم يكن هكذا من قبل؟ حتى أنّ بعضنا همّ أن يقوم بوجهه ويصرخ قائلًا له: كلامك كلّه اتّهام باطل، ولا نصيب له من الصحّة. وتفسير آية النور، وقوله: وجَاءَ رَبُّكَ بهذا الشكل يعني تجسيم الله؛ وهذا خطأ؛ يجب أن نتعلّم القرآن من أهله، لا من الغرباء عليه؛ وأهله هم رسول الله وأهل بيته؛ وأنتم لستم من أهله حتى يحلو لكم أن تفسّروا القرآن وتفهموه بهذا الشكل.
بيد أنا لم نحسن العربيّة حتى نردّ عليه أوّلًا؛ وثانياً: كنّا نحسب لحضور العالم الجليل الكبير بيننا حساباً إذ أنّ كلامنا لا يستحسن مع وجوده؛ وقرّرنا أن نفترق عنه إذا خرجنا.
وخلاصة القول أنّ ذلك الشيخ الوهَّابيّ أبرمنا بكثرة كلامه حتى أنه هو نفسه شعر بالإرهاق وأزبد فمه، وصاحبنا لا زال يستمع له بكلّ هدوء دون أن ينطق حرفاً واحداً.
وما إن أتمّ كلامه حتى التفت إليه شيخنا وقال له: لا بدّ أنك تهدف من وراء هذا الكلام الذي أغضبك وأتعبك، وهذا الدفاع عن القرآن والنبيّ، أن تتشرّف برؤية رسول الله وزيارته يوم القيامة! وتكون أعمالك مقبولة ومشكورة؟!
فقال الشيخ الوَهَّابيّ: نعم! نعم!
فقال شيخنا: ولكنّي آسف أنك لن ترى رسول الله يوم القيامة أبداً!
فقال الوهّابيّ بنبرة غاضبة: ولِمَ ذلك؟! ما هو السبب؟
فقال شيخنا: لمّا كنت أعمى! وكنت تفسّر القرآن الذي تدافع عنه كما تهوى، فإنّ القرآن ينطق بالحقّ قائلًا: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وأَضَلُّ سَبِيلًا}.[1]
ويقول أيضاً كما ردّدت بنفسك: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.[2]
وفي ضوء هذا كلّه فأنتَ في هذه الدنيا أعمى! وفي الآخرة أعمى وأضلّ سبيلًا! ولم يجعل الله لك نوراً، فما لك من نور! فلن ترى رسول الله أبداً! قال شيخنا هذا الكلام ولم ينطق بشيء غيره.
فاضطرب الشيخ الوهّابيّ أيّ اضطراب؛ وانزعج وفقد صوابه وكأنه طير مذبوح يتلوّى من حرارة السكّين، وآثر الصمت فلم يتكلّم بشيء.
وكان يرعد، وجسمه يرتجف.
ولقد سررنا بجواب شيخنا أيّما سرور وابتهجنا كثيراً؛ وقمنا عائدين إلى مكاننا وكنّا في الطريق نكثر من تقبيل الشيخ. وتعلّقنا به كثيراً حتى أنّ بعضنا كان يريد أن يحتضن الشيخ عند عبوره من الشارع بلا شعور. وقلنا له:
لقد آذيتنا بصمتك الطويل. وقلنا في أنفسنا: لقد افحمتَ وادنتَ! ولكنّك بحمد الله أبطلت ثرثرته بكلمتك الشافية جَزَاكَ اللهُ عَنِ الإسلَامِ والْقُرْآنِ خَيْراً.
[1] الآية 72، من السورة 17: الإسراء.
[2] الآية 40، من السورة 24: النور.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة