لقد ذكرنا في الصفحات -المقالات- السابقة ان النبي ( ص ) كان يفكر كثيرا في ما وراء الحدود الشمالية لشبه الجزيرة بعد ان اسلم عرب الحجاز ، ولم يعد بينهم على الشرك من يخشى من بأسه وسطوته ، ولم يكن ليطمئن وإلى جانبه أكبر دولة في العالم يوم ذاك تراقب جميع تحركاته وتعتبر خطره على المسيحية وعلى وجودها أشد من اخطار اليهودية والدول الأخرى التي كانت تنافسها في بسط نفوذها يوم ذاك .
وظل النبي ( ص ) يقدر لهذه الدولة الكبرى ان تتحرك من ناحية حدودها لداخل الحجاز ، ولكنه كان يؤثر ان يغزوهم قبل ان يغزوه وان يفرض عليهم وجوده وهيبته قبل ان يهاجموه بعشرات الوفهم ، فأرسل سريته الأولى إلى مؤتة وعاد المسلمون منها قانعين بالعودة بعد ان خسروا جماعة منهم وثلاثة من قادتهم الكبار وغزاهم بنفسه في ثلاثين ألفا حتى بلغ تبوك فألفاهم قد انسحبوا إلى داخل بلادهم وحصونهم ، ورجع إلى المدينة بعد ان استسلم امراء البلاد المتاخمة لحدود الحجار وعاهدوه على أن لا يتعاونوا مع أحد عليه .
ولم يطل بالمسلمين المقام بعد رجوعهم من حجة الوداع حتى امر النبي بتجهيز جيش لعله من أكبر الجيوش التي عرفتها المدينة من قبل ، بدليل انه حشد في ذلك الجيش وجوه المهاجرين كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من المهاجرين والأنصار كما تنص على ذلك المؤلفات في السيرة والتاريخ ، وامر على ذلك الجيش أسامة بن زيد بن حارثة وهو يوم ذاك في مطلع شبابه لا يتجاوز العشرين من عمره على ابعد التقادير وفي المسلمين من هو أشد صلابة منه وأكثر مرونة في الحروب وخبرة بقيادة الجيوش ، مما دعا إلى دهشة كبار الصحابة واستيائهم من تأميره عليهم ، وتثاقلوا في تنفيذ أوامره بالرغم من تأكيداته المتتالية على تسريح الجيش بقيادته ، واضطر ان يخرج إلى الناس ويحثهم على الخروج والجهاد بقيادة اسامة ، وبدا عليه الانزعاج والتصلب حينما طالبوه بأن يولي عليهم غيره ، وقال لهم : لعمري لئن قلتم في امارته اليوم فلقد قلتم في امارة أبيه من قبله وانه لخليق بالإمارة كما كان أبوه خليقا بها من قبل .
وفي رواية مشهورة بين المحدثين انه كان يقول ويكرر انفذوا جيش اسامة ، لعن اللّه من تخلف عن جيش اسامة ، هذا وقد بدأ يحس بالمرض وتشتد وطأته عليه بين الحين والآخر .
وجاء في بعض كتب السيرة انه كان من جملة الدوافع التي دعت النبي إلى التصميم على ارسال هذا الجيش ان الدولة الرومانية جعلت تطارد وتقتل كل من دخل في الاسلام من رعاياها ، ومن بين من قتلتهم فروة بن عمرو الجذامي وكان واليا على معان وما حولها من ارض الشام ، فاعتنق الاسلام وبعث إلى النبي يخبره بذلك ، ولما بلغ خبره الرومان غضبوا عليه وجندوا عليه حملة القت القبض عليه وألقوه في أحد سجونهم ، ثم حكموا عليه بالاعدام فأخرجوه إلى محل فيه ماء يدعى عفراء من ارض فلسطين واعدموه في ذلك المكان ، ثم صلبوه على خشبة هناك ليكون عبرة لغيره ممن يفكر في اعتناق الاسلام .
وقيل إنه حينما قدم للقتل انشد :
بلغ سراة المسلمين بأنني * سلم لربي اعظمي ودمائي
ومهما تكن الأسباب الداعية لتجهيز ذلك الجيش ، فقد امر النبي أسامة بن زيد ان يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من ارض فلسطين على مقربة من مؤتة حيث قتل والده ، وان ينزل على أعداء اللّه وأعدائه في عماية الصبح ويمعن فيهم قتلا وتشريدا ، وان يتم ذلك بأقصى ما يمكن من السرعة قبل ان تصل اخباره إليهم .
وخرج اسامة بالجيش إلى الجرف على مقربة من المدينة وعسكر فيه بينما يتم تجهيزه ، وخلال ذلك كان المرض يشتد على النبي ( ص ) ، فبدأت المحاولات لعدم تحرك الجيش من مكانه وبخاصة بعد ان أحسوا ان مرض النبي يزداد من وقت لآخر ويشكل خطرا على حياته .
وجاء في طبقات ابن سعد ان النبي امر الناس بالتهيؤ لغزو الروم ، ودعا اسامة وقال له : سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فأغر عليهم صباحا واسرع السير حتى لا تسبقك الأخبار إليهم ، فإن ظفرت بهم فأقل اللبث فيهم وخذ معك الادلاء وقدم العيون والطلائع امامك ، وأضاف إلى ذلك أنه لم يبق أحد في وجوه المهاجرين والأنصار الا وامره بأن يشترك في تلك الغزوة .
وقال ابن هشام في سيرته : ان رسول اللّه استبطأ الناس في بعث اسامة واخذ الوجع يشتد به فخرج عاصبا رأسه وجعل يحثهم على الخروج ، ثم قال : أيها الناس اني أوشك ان أدعى فأجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، وان اللطيف الخبير أخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، وذكر هذه المقالة الشيخ المفيد في ارشاده وأضاف إليها أنه قال : أيها الناس لا الفيتكم ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، فتلقوني في كتيبة كمجر السيل الجرار ، الا وان علي بن أبي طالب أخي ووصي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله .
ويبدو من أكثر مواقفه وخطبه بعد رجوعه من حجة الوداع انه كان يعلم بواسطة الوحي بدنو اجله .
ويدل على ذلك ما جاء في كتب السيرة والحديث من أنه استدعى مولاه ابا مويهبة وقال له : اني قد أمرت ان استغفر لأهل البقيع فأخرج معي الليلة ، فخرج معه من جوف الليل ، فلما وقف فيها قال : السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى .
قال أبو مويهبة ، ثم اقبل عليّ وقال يا ابا مويهبة اني قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة وخيرت بين ذلك ولقاء ربي والجنة ، فاخترت لقاء ربي والجنة ، فقلت بأبي أنت وأمي فخذ مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ، فقال لا واللّه يا ابا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي ، ثم استغفر لأهل البقيع ورجع .
وجاء في رواية المفيد انه خرج إلى البقيع مع علي ( ع ) ، وأضاف إلى الحديث الذي ذكرناه انه ( ص ) قال لعلي ( ع ) : ان جبرائيل كان يعرض عليّ القرآن في كل سنة مرة وقد عرضه عليّ هذا العام مرتين ولا أراه الا لحضور أجلي ، ومضى المفيد يقول إنه كان يعتكف في كل سنة في العشر الأواخر من رمضان ، وفي تلك السنة اعتكف فيه عشرين يوما .
وسبق له في مكة في السنة الأخيرة التي حج فيها ان قال للمسلمين وهو يخطب فيهم : لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، وفي مناسبة أخرى كان يقول : يوشك ان ادعى فأجيب .
وجاء في شرح النهج ج ( 3 ) عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال نعى إلينا نبينا نفسه قبل موته بشهر وقد جمعنا في بيت امنا عائشة فنظر إلينا ودمعت عيناه وقال مرحبا بكم حياكم اللّه رحمكم اللّه آواكم اللّه وحفظكم ووفقكم ورزقكم ونصركم وهداكم ، ثم قال أوصيكم بتقوى اللّه واستخلف اللّه عليكم ، اني لكم نذير وبشير لا تعلوا على اللّه في عباده وبلاده ، فإنه قال لي ولكم :
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( القصص 83 ) .
فقلنا يا رسول اللّه متى اجلك ؟ فقال قد دنا الفراق والمنقلب إلى اللّه وإلى سدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى ، قلنا فمن يغسلك يا رسول اللّه قال أهلي الأدنى فالأدنى ، والحديث بتمامه موجود في شرح النهج ج 3 ص 189 - 190 إلى غير ذلك من تصريحاته وتلميحاته التي يستفاد منها انه كان يعلم بوفاته .
والسؤال الذي يمكن لأي باحث ان يطرحه في المقام ، هو ان النبي ( ص ) ما دام يعلم بدنو اجله وبوفاته خلال أيام معدودات ، فلما ذا اصر وظل يصر حتى النفس الأخير على تسريح الجيش إلى ما وراء حدود الحجاز بقيادة أسامة بن زيد ، وهو شاب لم يتجاوز العشرين من عمره ، وهو يعلم بوجود عدد كبير من المنافقين قد تستروا بالإسلام ، وهم من ألد أعدائه وانكد خصومه ، وهؤلاء كانوا يتحينون الفرصة للعبث والفساد ، وسيجدون الجو مناسبا في حال وفاته ما دام عليّ وآل الرسول منصرفين إلى تجهيزه ودفنه وعامة المهاجرين والأنصار في خارج البلاد بقيادة أسامة بن زيد ، ولما ذا ضم إلى هذا الجيش أبا بكر وعمر كما يبدو من مجاميع السيرة والحديث ، وكان حريصا على اشتراكهما فيه وترك عليا في المدينة ، مع أن تاريخهما معه في حروبه وغزواته لا يشهد لهما بالبطولات ولا يغنيان في ساعة الشدة عن شيء في حين ان مفتاح النصر والفتح كان بعد النبي بيد علي ( ع ) في جميع حروبه وغزواته ولما ذا اختار لقيادة هذا الجيش أسامة بن زيد ، وفي المسلمين كثير من القادة الأكفاء الذين خاضوا المعارك واداروها بحزم وثبات وخرجوا منها منتصرين ظافرين .
هذه التساؤلات قد تختلج في ذهن الكثير من الباحثين ، وقد أثير بعضها قديما كما يبدو في شرح النهج ج 4 ص 172 ، فقد أدرك قاضي القضاة عبد الجبار المغزلي تفسير الشيعة لاصرار النبي ( ص ) على انضمام أبي بكر وعمر إلى الجيش ، فقال في الصفحة المذكورة وربما قالوا إنه جعل هؤلاء القوم في جيش اسامة ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة فلا يقع منهم توثب على الإمامة ، ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين في ذلك الجيش وجعل فيه أبا بكر وعمر بن الخطاب وغيرهما ليتم له الأمر بدون منازع .
ولكنه أجاب عن هذا الناحية كعادته في الدفاع عما يدور حول الخلفاء من شبه واتهامات ، وانكر ان يكون أبو بكر أحد الذين اصر النبي على انضمامهم إلى الجيش في حين ان جميع النصوص تؤكد انه كان أحدهم .
اما تأميره على الجيش أسامة بن زيد ، فبالإضافة إلى كفاءته التي تؤهله لذلك فقد أراد ان يرفع من شأن الموالي ويزعزع كبرياء الذين كانوا يتعاظمون ويحاولون ان يبرزوا على غيرهم من الناس لا لشيء إلا لأن الرسول كان يقربهم إليه ويتغاضى عن تصرفاتهم لأمور تفرضها مصلحة الاسلام العليا .
واما خطر المنافقين على المدينة في حال غياب الجيش عنها فلولا انه كان مطمئنا من هذه الناحية ولو بواسطة وجود علي والبقية من الصحاب وبني هاشم لا يمكن ان يأمر الجيش بمغادرتها .
ومهما كان الحال فقد جاء عن عائشة انه اشتد المرض بالنبي ( ص ) وهو في بيت ميمونة فدعا نساءه فاستأذنهن ان يمرّض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماه في الأرض عاصبا رأسه حتى دخل بيته .
وروى الطبري في تاريخه وغيره عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة أنه قال : لقد حدثت عبد اللّه بن العباس بهذا الحديث فقال : أتدري من الرجل الآخر ؟ قلت لا . قال هو علي بن أبي طالب لكنها لا تقدر ان تذكره بخير وهي تستطيع ، ولما اشتد به الوجع قال اهرقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى اخرج إلى الناس فأعهد إليهم قالت عائشة : فأقعدته في مخضب لحفصة وصببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده حسبكم حسبكم .
وجاء عن عطاء عن الفضل بن العباس أنه قال : خرجت إلى رسول اللّه فوجدته موعوكا قد عصب رأسه فقال خذ بيدي فأخذت بيده حتى جلس على المنبر ثم قال : ناد في الناس فصحت بهم فاجتمعوا إليه فقال أيها الناس اني احمد إليكم اللّه لقد دنا مني خفوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليقتد منه ومن كنت اخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يقل رجل اني أخاف الشحناء من رسول اللّه ، الا وان الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني ، الا وان أحبكم إليّ من اخذ مني حقا ان كان له ، أو حللني فلقيت اللّه وانا طيب النفس وقد أراني ان هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارا .
ثم نزل فصلى الظهر ورجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى ، فقام رجل وقال لي عندك يا رسول اللّه ثلاثة دراهم ، فقال انا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه على يمين ، ثم قال اعطه يا فضل ، ومضى يقول : من خشي من نفسه شيئا فليقم ادعو له ، فقام رجل وقال يا رسول اللّه اني لكذاب واني لفحاش ونئوم ، فقال اللهم ارزقه صدقا وصلاحا واذهب عنه النوم إذا أراد .
وقام رجل آخر يذكر عيوبه للنبي ، فقال له عمر بن الخطاب : لقد فضحت نفسك أيها الرجل ، فقال النبي ( ص ) : يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة .
وروى الطبري عن الأرقم بن شرحبيل أنه قال : سألت ابن عباس أوصى رسول اللّه قال لا : قلت وكيف كان قال إن رسول اللّه قال ابعثوا إلى علي فادعوه ، فقالت عائشة لو بعثت إلى أبي بكر ، وقالت حفصة لو بعثت إلى عمر فاجتمعوا عنده جميعا فقال رسول اللّه ( ص ) : انصرفوا فإن تك لي حاجة ابعث إليكم .
وجاءه بلال والمرض قد اشتد به عند طلوع الفجر فنادى الصلاة يرحمكم اللّه ، وهنا اختلفت الروايات .
فالطبري يروي عن عائشة أنه قال مروا أبا بكر يصل بالناس فقالت له ان أبا بكر رجل رقيق ، فأعاد عليها القول فرجعت تردد عليه مقالتها الأولى فغضب وقال : انكن صويحبات يوسف ، ثم خرج يتهادى بين رجلين وقدماه تخطان في الأرض فوجد أبا بكر يصلي فأراد ان يتأخر فأشار إليه ان يبقى في مكانه فبقي أبو بكر في مكانه وجلس النبي إلى جنبه فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر . بينما تذهب رواية ابن هشام في سيرته انه حين دعاه بلال إلى الصلاة بالناس قال مروا من يصلي بالناس فخرج عبد اللّه بن زمعة فوجد عمر بن الخطاب في طريقه ، فقال له قم وصل بالناس وكان أبو بكر غائبا على حد قوله ، فلما كبر سمع رسول اللّه صوته فأرسل إلى أبي بكر فجاء بعد ان أتم عمر الصلاة فصلى بالناس .
وروى المفيد في ارشاده عن أهل البيت انه ( ص ) قال حينما دعي للصلاة : يصلي بالناس بعضهم فاني مشغول بنفسي ، فقالت عائشة مروا أبا بكر ، وقالت حفصة مروا عمر بن الخطاب ، فقال رسول اللّه : اكففن فإنكن صويحبات يوسف ، وقام مبادرا وهو لا يستطيع ان يستقل على الأرض من الضعف فأخذ بيد علي والفضل بن العباس فاعتمد عليهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف ، فلما دخل المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب فأومأ إليه ان تأخر عنه ، فتأخر وقام مقامه فكبر وابتدأ الصلاة التي كان قد ابتدأها أبو بكر ولم يبين على ما مضى منها .
وهذه الروايات على ما بينها من تضارب وتناقض كلها متفقة على أنه قد خرج بنفسه وهو على أشد ما يكون من الضعف وقد اعتمد على الفضل بن العباس ورجل آخر على حد تعبير عائشة ، وعلى علي ( ع ) كما جاء عن غيرها ، فإذا صحّ انه قد امر أبا بكر ليصلي بالناس كما تزعم عائشة وغيرها ممن روى تلك الطائفة من الأخبار ، فلما ذا خرج بعد ذلك وهو بتلك الشدة معتمدا على الرجلين اللذين حملاه إلى المسجد على كتفيهما ، فإن كان يريد تأييد أبي بكر بذلك كما يدعي أكثر أهل السنة ، فيكفيه تأييدا له امره بالصلاة بالناس وصلاة الناس خلفه ، اما خروجه وهو بهذه الحالة بعد ان علم بأنه قد باشر بالصلاة فهو الذي اثار الشبهة حول تلك الطائفة من المرويات ، ورجح جانب الروايات التي نصت على أنه لم يكلف أحدا ، وانه حينما علم بأن أبا بكر قد قدم للصلاة خرج ليصلي بالناس بنفسه ، وبالفعل خرج ونحاه عن المحراب ولم يبن على ما مضى من صلاته .
على أن الروايات الحاكية لصلاة أبي بكر كلها تنص على أنه جلس إلى جانبه وكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي والناس يصلون بصلاة أبي بكر ، ومعنى ذلك أنه كان اماما ومأموما في وقت واحد ، ولا أظن أحدا يلتزم بجواز ذلك .
هذا بالإضافة إلى أن السيدة عائشة هي المصدر لكل ما روي حول صلاة أبيها بالناس وحول ترشيحه للخلافة كما يبدو ذلك بعد التتبع في أسانيد تلك المرويات وروت عنه كما جاء في البداية والنهاية أنه قال : ائتوني بكتف أو لوح حتى اكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه أحد ، وكان عبد الرحمن بن أبي بكر حاضرا حين ذاك ، فلما ذهب ليأتي له بالكتف ارجعه على حد زعمها وقال : أبى اللّه والمؤمنون ان يختلف عليك أحد يا أبا بكر ، إلى غير ذلك مما وضعته أو وضع على لسانها في مقابل المرويات الصحيحة والنصوص الصريحة على استخلاف علي من بعده .
ولو افترضنا جدلا ان أبا بكر قد صلى بالناس يوم ذاك ، فأي حجة في ذلك على صحة خلافته ، في حين ان الإمامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الذي يدل على عظمة المصلي ، ولا هي من مختصات امام المسلمين ، بل تصح من كل أحد ، ولا سيما عند أهل السنة الذين يجوزون امامة اجهل الناس واخملهم ذكرا حتى مع وجود من هو اعلم منه وأطيب ذكرا ولا يشترطون فيها أكثر من اظهار الاسلام .
وقد اعتاد المسلمون في يعصر النبي ان يأتم بعضهم ببعض ورغب النبي في ذلك ولم ير أحد لمن يصلي اماما ميزة أو فضلا له على أحد من الناس .
ولما انصرف النبي من تلك الصلاة التي خرج إليها ورجع إلى منزله استدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضروا بالمسجد من المسلمين وقد ازعجه عدم انضمامه إلى الجيش وهو مقيم بالجرف في ضواحي المدينة وقال : ألم آمركم أن تنفذوا جيش اسامة ؟ فقالوا : بلى يا رسول اللّه ، فقال : لم تأخرتم عن أمري ؟ فقال أبو بكر : إني خرجت ثم رجعت لأجدد بك عهدا ، وقال عمر بن الخطاب : اني لم اخرج لأني لا أحب ان أسأل عنك الركب . فقال ( ص ) انفذوا جيش اسامة وكرر ذلك ثلاثا ، ثم أغمي عليه من التعب ومما لحقه من الأذى لتجاهلهم أوامره .
ومكث فترة من الزمن مغمى عليه فبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وابنته ونساء المؤمنين وجميع من حضر .
ولما افاق نظر إليهم وقال : ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا ثم أغمي عليه ، فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا ، فقال له عمر بن الخطاب : ارجع فإنه يهجر فرجع ، وندم من حضر على ما كان منهم من التضييع في احضار الدواة والكتف فلما افاق قال بعضهم ، الا نأتيك بدواة وكتف يا رسول اللّه قال لا ابعد الذي قلتم ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرا ، واعرض بوجهه عن القوم فنهضوا .
وجاء في صحيح البخاري المجلد الرابع كتاب المرض والطب بسنده إلى ابن عباس أنه قال : كان في البيت عند رسول اللّه رجال فيهم عمر بن الخطاب ، فقال النبي : هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا ، فقال عمر بن الخطاب : ان النبي قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف الحاضرون واختصموا فمنهم من قال قدموا له ليكتب لكم كتابا لا تختلفون بعده ، ومنهم من اخذ بقول عمر بن الخطاب ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم قوموا عني .
وأضاف إلى ذلك البخاري ان عبد اللّه بن عباس كان يقول : ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب .
وروى في المجلد الثالث من صحيحه باب مرض النبي ( ص ) بسنده إلى سعيد بن جبير ان ابن عباس كان يقول : لقد اشتد الوجع برسول اللّه يوم الخميس ، فقال ائتوني اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ما شأنه اهجر استفهموه فذهبوا يردون عليه ، فقال دعوني فالذي انا فيه خير مما تدعوني إليه وأوصاهم بثلاث : اخراج المشركين من جزيرة العرب وان يجيزوا الوفود التي كانت تأتيه بمثل ما كان يجيزهم وسكت الراوي عن الثالثة أو قال إني نسيتها .
وروى هذه الرواية ابن جرير في تاريخه ، وابن سعد في طبقاته ، وابن كثير في بدايته ومسلم في صحيحه كما رواها البخاري في أكثر من موضع في صحيحه ووردت في جميع كتب الحديث عند السنة والشيعة .
ورواها ابن سعد في طبقاته بطرق مختلفة ، ومن جملة من رواها عنهم عمر بن الخطاب نفسه فقد قال : كنا عند رسول اللّه وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول اللّه اغسلوني بسبع قرب واتوني بصحيفة ودواة لأكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ، فقال النسوة ، ائتوا رسول اللّه حاجته فقلت لهن اسكتن فإنكن صواحب يوسف ، إذا مرض عصرتن أعينكن وإذا صح اخذتن بعنقه ، فقال رسول اللّه : هن خير منكم .
وجميع الروايات التي وردت حول مرض النبي تنص على أن النبي أراد ان يكتب لهم كتابا حتى لا يضلوا من بعده ، وكلها تنص على أن عمر بن الخطاب هو الذي وقف في طريق الكتاب ، ولم يكتف بذلك حتى قال إنه ليهجر في كلامه اي انه يتكلم معكم بلا وعي ولا إدراك .
وبلا شك ان الكتاب الذي أراد ان يكتبه لا يعدو ان يكون تأكيدا لما صرح ولوح به مرارا من قبل بخصوص استخلاف علي ( ع ) ، وقد فهم عمر بن الخطاب منه ذلك ، كما فهمه كل من كان حاضرا حين ذاك ، ولذلك حال بينه وبين كتابته وقال إنه يهجر .
وفي رواية ثانية عبر بعبارة تؤدي هذا المعنى ، فقال لقد غلبه الوجع ونتيجة ذلك ان فعله وقوله في تلك الحالة كأفعال الأطفال والمجانين وأقوالهم وحتى لو كتب الكتاب عند أصحاب هذه المقالة فلا قيمة لكتابه ما دام في حالة غير طبيعية .
لقد أدرك النبي ( ص ) بأنهم سيقولون ذلك وأكثر من ذلك ، ولذا حينما راجعوه بشأن الكتاب قال ابعد الذي قلتم ! فعدل عن الكتاب وأوصاهم بثلاث باتفاق المحدثين ، ولكن المحدثين لم يحفظوا من وصاياه الا وصيتين ونسوا الثالثة على حد زعمهم ، وبلا شك ان الثالثة هي التي أراد ان يكتبها في كتابه ، ولو كانت غير ذلك لحدثوا بها كما حدثوا عن غيرها .
وجاء في أكثر الروايات التي تعرضت لمرض النبي ( ص ) ان عبد اللّه بن عباس كان إذا تذكر ذلك اليوم يتحسر ويتأسف وأحيانا يبكي لفوات تلك الفرصة التي لو تمت لم يختلف على علي ( ع ) اثنان على حد تعبيره .
والذي أراه ان النبي لو كتب لهم عشرين كتابا سوف يحورون ويؤولون مضامينها بما يتفق مع مصالحهم ، وقد يذهبون إلى ابعد من ذلك ، وهذا هو الذي دعا النبي إلى عدم الكتابة حيثما افاق .
وجاء في البداية والنهاية عن الصحيحين ان عائشة قالت : لقد اجتمع نساء النبي عنده في مرضه فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشيه أبيها ، فقال مرحبا يا بنتي ثم اقعدها عن يمينه وسارها بشيء فبكت ، ثم سارها ثانية فضحكت ، فقلت لها : لقد خصك بالسرار وأنت تبكين تارة وتضحكين أخرى فلما ان قامت قلت لها أخبريني بما قال لك :
قالت ما كنت لأفشي سر رسول اللّه ، فلما توفي رسول اللّه قلت لها أسألك بما لي عليك من حق الا أخبرتني ، قالت فاطمة : اما الآن فنعم ، لقد أخبرني أولا باقتراب اجله وأوصاني بتقوى اللّه والصبر فبكيت ، وفي المرة الثانية قال لي : أما ترضين ان تكوني سيدة نساء العالمين فضحكت .
وقيل أنه قال لها في الثانية : أنت أول أهلي لحوقا بي فاستبشرت بلقاء اللّه والالتحاق بأبيها في دار الكرامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
وكان الألم يشتد برسول اللّه والخطر على حياته يتزايد ساعة بعد أخرى ، ولكن ذلك كله لم يشغله ان يكرر نداءه للناس المرة تلو المرة بالخروج في بعث اسامة والإسراع في إنفاذه ويستحث اسامة على الإسراع في التوجه ، حتى قال له اسامة بأبي أنت وأمي أتأذن لي ان امكث أياما حتى يشفيك اللّه فلم يأذن له بالتأخير .
ولما اشتدت به وطأة المرض جعل يأخذ الماء بيده ويقول وا كرباه ، فتقول فاطمة وا كربا لكربك يا أبتاه ، فقال لا كرب على أبيك بعد اليوم .
وجاء في بعض المرويات انه قبيل وفاته وجد نفسه نشيطا وخفت عنه حرارة الحمى ، فخرج معتمدا على علي ( ع ) والفضل بن العباس حتى اتى المسجد ، فأقبل على الناس رافعا صوته حتى سمعه من كان خارج المسجد ، فقال أيها الناس : سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، واني واللّه ما تمسكون عليّ بشيء ، اني لم أحل إلا ما أحل القرآن ، ولم احرم إلا ما حرم القرآن ، لعن اللّه قوما اتخذوا قبورهم مساجد[1].
ورأى المسلمون في مظهر النبي ما يدعو إلى الارتياح والاطمئنان فاستأذنه أبو بكر بالذهاب إلى السنخ حيث تقيم زوجته بنت خارجة وانصرف عنه جماعة لشؤونهم وهم يظنون أن في هذا النشاط الذي ظهر عليه تماثلا للشفاء وتقدما نحو العافية ، ولكن امر اللّه كان يجري إلى غايته من وراء ما يرجو الأصحاب والمحبون وقد اختار له ربه الدار الآخرة بين اخوته النبيين والمرسلين .
فما رجع من المسجد حتى عاوده الضعف واشتد عليه ، فسمع يقول بل الرفيق الاعلى فعلموا انه اختار لقاء اللّه على الحياة في هذه الدنيا .
وكان علي قد احتضنه حينما رآه يصارع الموت ففاضت نفسه الشريفة وهو إلى صدر علي ( ع ) كما جاء في رواية ابن سعد وغيره .
وروى الحاكم في المستدرك بسنده إلى أمّ سلمة انها قالت : والذي احلف به ان عليا كان أقرب الناس عهدا برسول اللّه ومضت تقول : عدنا رسول اللّه غداة وهو يقول جاء علي جاء علي يكررها مرارا ، فقالت له فاطمة : كأنك بعثته في حاجة ، فلما جاء ظننت ان له إليه حاجة فخرجنا من البيت وقعدنا عند الباب وكنت من أدناهم إليه فأكب عليه رسول اللّه وجعل يساره ويناجيه ثم قبض رسول اللّه من يومه ذلك فكان علي أقرب الناس به عهدا .
وكانت وفاته يوم الاثنين كما هو المشهور بين الرواة ، وذهب أكثر الامامية إلى أن وفاته كانت يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر .
وقال الكليني انه توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول ، وقيل إنها كانت في اليوم الثاني منه وقيل غير ذلك .
لقد اختار النبي الرفيق الأعلى على الخلود في هذه الدنيا التي امتلأت بالفتن والجور والطغيان ، وعلى بقائه بين قوم جاءهم بكل ما يقربهم من اللّه ويصلح أمورهم ويجمعهم على الايمان بإله واحد وشريعة واحدة ، ودعاهم إلى الجهاد والعدل ودفع الظلم والبغي وإلى مكارم الأخلاق والرحمة والدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ولكل ما يوفر لهم السعادة في دنياهم وآخرتهم ، وظل أكثر من عشرين عاما لم يذق خلالها طعم الراحة ، يجاهد ويناضل لإرساء تلك القيم التي جاء من اجلها ودعا إليها لتصبح إرثا للأجيال في كل زمان ومكان وفيما هو يكافح ويناضل من اجل مستقبل يزخر بكل معاني الخير والرحمة والمحبة وإذا بمستقبلهم القريب يتكشف لديه فيراهم وقد ارتدوا على ادبارهم ورجعوا إلى جاهليتهم الأولى ولم ينج منهم الا مثل همل النعم كما جاء في رواية البخاري وغيره من المحدثين .
لقد ناشدهم في مرضه وهو يعاني من آلامه ما لا يطاق ان يكتب لهم كتابا حتى لا يضلوا من بعده كما أجمعت على ذلك كتب الحديث والتاريخ ، فوصفوا كلامه هذا بالهذيان واللغو فيئس منهم واختار الرفيق الأعلى مع اخوانه النبيين والمرسلين ، ولفظ نفسه الأخير وهو على صدر علي ( ع ) يناجيه ويلقنه من اسرار الكون وطبيعة الحياة والناس ألوانا من الأحداث والأزمات .
وروت عائشة انه مات ورأسه في حجرها ، وسواء أكان هذا أم ذاك ، أم كانت وفاته على فراشه ، فلا يوجب ذلك بمجرده فضلا لأحد من الناس ما لم يكن مثلا كريما للرسول في سيرته وأخلاقه وتضحياته .
واتفق المحدثون على أن أبا بكر كان غائبا خارج المدينة حين وفاته ، وان المسلمين حين سمعوا عويل النساء دهشوا لهذا الحادث بعد ان رأوه قبل ساعات قليلة يخرج فيصلي بهم وعلامة الارتياح والشفاء بادية عليه ، فدخل عليه عمر بن الخطاب فكشف عن وجهه وقال : ان رجالا من المنافقين يزعمون بأن محمدا قد مات ، وانه واللّه ما مات ولكنه قد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد ان قالوا بأنه قد مات وو اللّه ليرجعن رسول اللّه ( ص ) كما رجع موسى وليقطعن أيدي وأرجل رجال زعموا انه مات ، ولئن بلغني عن رجل من المسلمين يزعم أن محمدا قد مات ضربته بسيفي هذا ، وخرج على الناس شاهرا سيفه يردد مقالته ويهدد ويتوعد .
وفي رواية ابن سعد وابن كثير في البداية والنهاية ان عمر بن الخطاب دخل هو والمغيرة فكشفا الثوب عن وجهه فقال عمر ما أشد غشي رسول اللّه ، وقال المغيرة : مات واللّه رسول اللّه ، فقال له كذبت ما مات ولكنه ذاهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران .
وخرج إلى الناس وهم بين باك وباكية ، وجعل يصيح بين الناس ان محمدا ما مات ولكنه ذهب إلى ربه وسيرجع كما رجع موسى بن عمران بعد ان غاب عن قومه أربعين ليلة ، واستمر على ذلك مدة من الوقت يهدد ويتوعد كل من يدعي بأن محمدا قد مات وسرت مقالته بين الناس في وطأة الذهول والدهشة وروج لها اتباعه وغزت أذهان العامة من الناس ، واستطاع بهذا الذكاء الحاد والتفكير البعيد ان يشغل الكثير من الناس عن وفاته والتفكير في خليفته الشرعي من بعده واستمر يهدد ويتوعد وينادي بين الناس بأن محمدا قد غاب وسيعود حتى حضر أبو بكر من منزله المزعوم خارج المدينة وتوفر الجو المناسب لاختيار من يريدون فدخل أبو بكر على النبي وهو على فراش الموت فنظر إلى وجهه وخرج إلى الناس ، وعمر بن الخطاب ينادي فيهم ان محمدا ما مات ولن يموت ، وأبى ان ينصت لكلام أبي بكر أولا ثم قال أبو بكر : أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فان اللّه حي لا يموت ثم تلا على الناس قوله تعالى :
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً ( آل عمران 144 ) وعندها سكت حيث انتهت مهمته .
وجاء في سيرة ابن هشام ان الراوي قال : واللّه لكأن الناس لم يعلموا بنزول هذه الآية حتى تلاها أبو بكر وفي ذلك دلالة على مدى تأثير مقالته في تلك اللحظات على الجماهير التي أصيبت بالذهول والدهشة لنبأ وفاة الرسول ، فلما نادى عمر بن الخطاب بحياته وانه سيبقى حيا إلى أن يظهر دينه على جميع الأديان ، وابن الخطاب ليس بالرجل العادي الذي لا يحسب لكلامه أحد فقد استطاع ان يسيطر على عدد كبير من الجماهير التي تنفعل بكل فكرة تعرض لها وتستبد بها المحاكاة والتقليد الأعمى ويسقط العقل وسلطانه ، وبخاصة إذا رافقها بعض المؤثرات كشخصية المتكلم وصرامة رأيه ، والصرامة التي أظهرها ابن الخطاب وهو يتحدث إلى الجماهير المدهوشة ويمينهم بحياة أعز الناس عليهم تارة ، ويخوفهم بالقتل وتقطيع الأيدي والأرجل إذا لم يقتنعوا بحياته أخرى كان لها اثرها على الذين تتملكهم العاطفة الهائجة في مثل هذه الحالات فيتعلقون بالأوهام لا سيما إذا كان فقيدهم من النوع الذي يجوز عليه ما لا يجوز على سائر الناس .
ان عمر بن الخطاب كان ابعد الناس عن التعلل بمثل هذه الأوهام ، ولم يتردد لحظة واحدة في وفاة النبي ، بل كان منذ ان اشتد به المرض على ثقة بأنه سيلاقي ربه ، ولذا تخلف عن جيش اسامة وحاول ان يحول دون تنفيذ الجيش ، وحينما طلب النبي دواة وقرطاسا ليملي عليهم عهده قال إنه ليهجر حسبنا كتاب اللّه ، وإذا كان معتقدا بأنه لا يموت فما يضره ان يعهد لأي كان من الناس ، ولا معنى لقوله حسبنا كتاب اللّه إلا أن كتاب اللّه يكفينا بعد موتك فلا حاجة لنا بكتابك .
ولا أظن أحدا يعرف عمر بن الخطاب ، ويحتمل به انه كان ظانا أو معتقدا لما يقول الا بعض أغبياء الشيعة الذين اتهموه بالجهل بأبسط الأمور ، وقالوا بأن من يجهل ذلك فكيف يصلح للخلافة ، وجماعة من السنة الذين قالوا بأنه أصيب بدهشة افقدته وعيه من صدمة النبأ على حد تعابيرهم المتكررة في مقام الاعتذار عنه .
انه كان يعلم هو وغيره من المسلمين ان النبي قد نص على علي بالخلافة أكثر من مرة ، ويعلم أن بعث اسامة في ذلك الوقت بالذات واصرار النبي على تنفيذه على هذا النحو وانكاره عليه وعلى أبي بكر تخلفهما عن الالتحاق بالجيش انما هو ليخلو الجو لعلي ( ع ) وتتم خلافته في غيابهما بدون منازع ويعلم أيضا ان الكتاب الذي أراد ان يكتبه لهم لا يعدو ان يكون نصا قاطعا على خلافة علي من بعده ، ولذلك عارض وقال كلمته التي من اجلها ترك النبي الكتابة .
لقد خاف بعد وفاة النبي وغياب أبي بكر عن المدينة ان يجتمع الناس على علي في تلك اللحظات ، لا سيما وان أكثرهم كان لا يحتملها لأحد غيره ، فأراد ان يصرف القوم عما هم فيه ويحول تفكيرهم إلى ناحية أخرى ويشغلهم بحديث من هذا النوع لينصرفوا فعلا عن التفكير في البيعة لأحد ، وقد كان عامة المهاجرين والأنصار لا يشكون في أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه كما جاء في شرح النهج ج / 2 ص / 8 من رواية الزبير بن بكار عن محمد بن إسحاق .
[1] بناء على صحة الرواية وان الفقرة الأخيرة منها للنبي ( ص ) فلا بد وأن تكون ناظرة لمن يشيدون قبور موتاهم ويتخذونها مساجد بدافع العاطفة أو العصبية ولو لم تكن لهم ميزة يستحقون من اجلها ذلك ، اما الذين يجسدون تعاليم الاسلام والقرآن والأديان الصحيحة بسلوكهم واعمالهم كالأنبياء والأئمة الهداة والصلحاء الأبرار فمن المستبعد جدا ان ينهي النبيّ عن تشييد قبورهم والصلاة للّه فيها إذا كان تشييدها وتعظيمها يرمز إلى النواحي الخيرة الكريمة التي تقترن بأسمائهم وتعبر عن الحق والخير والفضيلة وتكون مثلا كريما للأجيال في كل زمان ومكان .
الاكثر قراءة في شهادة النبي وآخر الأيام
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة