مدح عبودية النبي (صلى الله عليه وآله) عند الله
المؤلف:
الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
المصدر:
أصلحُ الناسِ وأفسدُهُم في نهج البلاغة
الجزء والصفحة:
ص 118 ــ 121
2025-12-17
20
لقد جاء في المصادر الروائية الشيعيّة والسنيّة أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقف طويلا في صلاته إلى درجة أن قدميه كانتا تتورمان، وقد ورد في رواية لأمير المؤمنين (عليه السلام) فيما يتعلق بعبادات رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي لا تحصى ما يلي: ولقد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَرَمَتْ قَدَمَاهُ وَاصْفَرْ وَجُهُهُ يَقُومُ اللَّيْلَ أَجْمَعَ حَتَّى عُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ اللهُ (عَزَّ وَجَل): {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1، 2] بَلْ لِتَسْعَدَ به (1).
كان منزل النبي بسيطا، ويحتوي على عدد من الغرف، بحيث كان لكل واحدة من زوجاته غرفة خاصة بها، وكان النبي يقضي كل ليلة في غرفة إحدى زوجاته، وفي إحدى الليالي التي كان فيها النبي في غرفة عائشة، أدى النبي من العبادات والصلاة إلى درجة أن عائشة قالت له: ألم يغفر الله لك ما تقدم وما تأخر من ذنبك، فلماذا تتعب نفسك بهذه العبادات إلى هذه الدرجة؟ فأجاب النبي: (يَا عَائِشَةُ إِلَّا أَكُونُ عَبْدًا شكوراً؟!) (2).
إننا لا نرى أننا في حاجة إلى الله إلا في حين ينقصنا شيء في الدنيا، فنحن غافلون عن حاجتنا إلى الله في حياتنا المادية والروحية ولهدايته لنا إلى التعالي والكمال من رأسنا إلى أخمص قدمينا، أما أولياء الله وخصوصا النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يتربع على أعلى مرتبة من الإنسانية والقرب الإلهي، يرون أنفسهم في حاجة إلى هداية الله ومساعدته، فيطلبون منه من خلال جميع تلك المناجيات والعبادات ومن خلال النوح والبكاء ألا يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين أبدا، وألا يحرمهم من هدايته، يقول الإمام الصادق: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقضي إحدى الليالي في منزل زوجته أم سلمة، وعند منتصف الليل لم تجد أم سلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فراشه، فاشتعل الشعور بالغيرة النسائية بداخلها، فنهضت تبحث عن النبي، حتى وجدته واقعا في زاوية من المنزل رافعا يديه إلى السماء وهو يبكي ويقول: (اللَّهُمْ، لَا تَنْزَعُ مِنِّي صَالِحَ مَا أَعْطَيْتَنِي أَبَدا، اللَّهُمْ لَا تُشْمِتْ بِي عَدُوا وَلَا حَاسِدا أَبَدًا، اللَّهُمَّ وَلَا تَرُدُّنِي فِي سُوءٍ اسْتَنْقَذْتَنِي مِنْهُ أَبَدا، اللَّهُمْ ولا تكلني إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَدا).
وعندما سمعت أم سلمة كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عادت وهي تبكي، وعندما سمع رسول الله صوت بكائها جاء إليها وسألها: يا أم سلمة، ما الذي أبكاك؟ فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ولم لا أبكي وأنت بالمكان الذي أنت به من الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تسأله الا يشمت بك عدوا أبدا، وألا يردك في سوء استنقذك منه أبدا، وألا ينزع منك صالحا أعطاك أبدا، وألا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبدا؟ فقال لها النبي: (يَا أَمْ سَلَمَةِ وَمَا يُؤْمِنُنِي؟ وَإِنَّمَا وَكُلَ اللَّهُ يُونُسَ بْن مَتَى إِلَى نَفْسِهِ طرفة عَيْنِ وَكَانَ مِنْهُ مَا كَانَ) (3).
عندما لا يمكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي يحوز على تلك المقامات والكمالات غير المتناهية، والذي هو سيد على جميع الملائكة والأنبياء والبشر، حينما لا يمكنه أن يتكل على نفسه لحظة واحدة، ويطلب من الله الا يكله لنفسه لحظة واحدة، فكيف بنا أن نرتقي مع عباداتنا الصغيرة وننسى أننا ما زلنا في بداية الطريق؟ فهل ننسى أن طريق السعادة والهداية الإلهية طريق متعرج، وأننا لا يمكن أن نصل إلى مبتغانا إلا من خلال النجاح في الاختبارات الإلهية الصعبة ومن خلال الاستقامة؟
فور وصولي إلى مدينة قم قبل أكثر من خمسين عاما، ذهب أحد أصدقائي - من الذين استشهدوا في فاجعة (يوم 7 تير) (4) - إلى طهران إلى محضر آية الله المرحوم الشيخ محمد تقي الآملي، وطلب منه دستورا سلوكيا وأخلاقيا، فقال ذلك المرحوم لصديقي: هل تعرف مدى صعوبة الطريق الذي تريد السير فيه؟ هل جهزت نفسك للسير في هذا الطريق الصعب؟ إن السير في هذا الطريق كحفر الجبل برموش العين!
يجب علينا أن نعرف أولى الصعوبات والمشقات التي تعترض الطريق الطويل لعبودية الله حتى لا نكون مغرورين في بداية الطريق كما ينبغي ألا نعتقد أننا نسير في طريق قصير وسهل بحيث نصاب بالصدمة والإحباط عندما ندرك صعوبات الطريق وطوله على عكس توقعاتنا، وبالطبع لا ينبغي أن تمنعنا صعوبة الطريق من السير، بل علينا أن نتحرك بعزم راسخ وبطلب المساعدة من الله في مسير العبودية لله وعلينا أن نؤمن بأننا لا نستطيع السير في هذا الطريق بأنفسنا، ولكن بعون الله سوف يصبح هذا الطريق ممهدا وسهلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 71، الباب 61، ص 26، الحديث 3.
2ـ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 2، ص 95، ح 6.
3ـ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 16، الباب 9، ص 277 و215، ح 6.
4ـ وهو الموافق ليوم 28 يونيو 1981 م (7 تیر 1360 ش)، حيث وقع تفجير مدو في المقر الرئيسي للحزب الجمهوري الإسلامي في طهران أثناء انعقاد اجتماع لقادة الحزب، ولقي ثلاثة وسبعون مسؤولا بالحزب الجمهوري الإسلامي مصرعهم (المترجم).
الاكثر قراءة في التربية الروحية والدينية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة