ضلال الوهّابيّة عن التوحيد واتّجاهها إلى الشرك
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص129-135
2025-12-16
21
إنّهم يرون أنّ صفات الحقّ تعالى من قدرة، وعظمة، وعلم، وإحاطة، وحياة، وغيرها من الصفات والأسماء، منفصلة عن الموجودات؛ أي: أنهم يلغون عنوان الوساطة من الوسائط، والمرآتيّة من مرايا الوجود التي تمثّل مظاهر ومجالى ذات الحقّ؛ ولذلك فهم لا يرون معنى الظهور والتجلّي في عالم الإمكان.
فيُمْنَون بإشكال لا منجى لهم منه أبداً إلى يوم القيامة حتى لو فكّروا بذلك؛ وهذا الإشكال يتمثّل بما يلي: نحن نشاهد موجودات كثيرة في هذا العالم على سبيل الوجدان والشهود، ونراها متّصفة بالحياة والعلم والقدرة. ولا شبهة وشكّ في ذلك؛ فلا نستطيع أن ننكر الموجودات المؤثّرة في هذا العالم.
ونقول الآن: إذا اعتبرنا الحياة والقدرة والعلم في ذات الحقّ الأزليّة بدون هذه الموجودات والكثرات، فهذا كلام خاطئ وجداناً وشهوداً، لأنّ وجود هذه الصفات في الموجودات هي من الضروريّات وإليقينيّات.
وإذا اعتبرنا هذه الموجودات ذات قدرة مستقلّة وحياة وعلم مستقلّ، حتى لو كان ذلك بعطاء من الحقّ، فإنّ ذلك الاعتبار خاطئ أيضاً، لأنّ هذا الكلام هو عين الشرك والثنويّة وتعدّد الآلهة، وإشكالات اخرى لا تحصى.
أنّ عنوان الإعطاء لا ينسجم مع عنوان الاستقلال؛ لأنّ ما يستلزمه هذا الكلام هو تولّد الموجودات من ذات الحقّ، وهذا الكلام هو التفويض عينه، ونحن نعلم أنّ الله {لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وفي ضوء ذلك، فليس أمامنا أيّ حلّ علميّ وفلسفيّ، إلّا أن نعتبر الكثرات والموجودات في هذا العالم مَظاهر ومَجالى لذات الحقّ القدسيّة، أي: أنّ القدرة والحياة والعلم تختصّ بذات الحقّ، وتظهر في هذه الموجودات بالتناسب مع سعتها وضيقها وماهيّتها وهويّتها؛ أي: أنّ الاستقلال في الوجود منحصر بذات الحقّ القدسيّة، والاستقلال في الحياة، والعلم، والقدرة، وسائر الأسماء والصفات كلّها تختصّ بذات الحقّ، وهي تبعيّة وعرضيّة في غير ذاته؛ وأصيلة في ذاته، ومرآتيّة وآيتيّة في الموجودات.
ومن الطبيعيّ أنها تظهر أكثر في الأرواح المجرّدة، والنفوس القدسيّة لملائكة الملأ الأعلى، والنفوس الناطقة المطهّرة للأنبياء، والأئمّة عليهم السلام، وفي المهديّ قائم آل محمّد، إذ أنّ استيعاب هؤلاء أكثر، وتعبّر هذه المرايا عن ذات الحقّ وصفاته المقدّسة بصورة تامّة.
ومن هذا المنطلق، فإنّ القدرة، والعلم، والحياة، في الوقت الذي تختصّ فيه بذات الحقّ، فإنّ ظهورها في هذه المرايا لا يُنكر شهوداً، ولازم وثابت عقلًا.
أنّ الظهور والظاهر، والحضور والحاضر شيء واحد؛ والمعنى الحرفيّ مندكّ في المعنى الاسميّ.
والموجودات جميعها بدون استثناء آيات وعلامات ومعاني حرفيّة بالنسبة إلى ذات الحقّ المتعال؛ وتصوّر معنى الاستقلال للمعنى الحرفيّ لا يعقل، ويفضي إلى الخُلف في القياس البرهانيّ.
أنّ المعنى الحرفيّ، والمعنى الاسميّ ليسا شيئين مستقلّين؛ فالمعنى الحرفيّ يدلّ على كيفيّة المعنى الاسميّ وخصوصيّته.
أنّ التوسّل بالنبيّ الأكرم، والأئمّة المعصومين لقضاء الحاجة هو نفس التوسّل بالله لقضائها، وهذا هو التوحيد عينه.
وقد ثبت في الفلسفة المتعالية والحكمة الإسلاميّة وجود الوَحْدة في الكَثْرة، والكَثرة في الوَحْدَة لذات الحقّ. وكما أنّ لله تبارك وتعالى اسم الأحَديَّة، إذ إنّه مُبرّأ من جميع الأسماء والتعيّنات، ومُنزَّه من كلّ اسم ورسم، وإنّ تلك الأحديّة تدلّ على الذات البسيطة الصرفة والمجرّدة العارية من كلّ التعلّقات، والمنطبقة عليها المفهومات، فكذلك له اسم الوَاحِديَّةِ الملاحَظ بملاحظة ظهوره وطلوعه في عالم الأسماء والصفات الكلّيّة والجزئيّة، وظهور جميع العوالم سواء من المُلْكِ أو من المَلَكُوت.
يقول الوَهّابيَّة: خلق الله العوالم بلا واسطة؛ وليس للموجودات العِلْويّة، والملائكة، والأرواح القدسيّة المجرَّدة أيّ تأثير في الخلق؛ ولا تتّخذ طابع الوساطة؛ لذلك فإنّ الاستغاثة بروح رسول الله، والأئمّة، والملائكة بما فيهم الملائكة المقرّبون- شرك.
ونجيب: أليس الاستغاثة بالأرواح الحيّة، مثل النبيّ الحيّ، والإمام الحيّ شركاً؟ أليس الاستغاثة بالعالم، والطبيب، والمتخصّص، والفلّاح، والصانع شركاً؟
فإذا كانت شركاً، لما ذا تستغيثون؟! اتركوا كلّ استغاثة في عالم الطبع، وفي الحياة الدنيا، لتموتوا كلّكم بعد لحظات، وتعودوا إلى ديار العدم حيث موطنكم الأصليّ!
وإن لم تكن شركاً؛ فما الفرق بين الاستغاثة بالنبيّ الحيّ، أو بروحه بعد الموت! أو الاستغاثة بالطبيب الجرّاح لاستئصال الزائدة الدوديّة مثلًا! أو الاستغاثة بجبرئيل! وما الفرق بين تلك الاستغاثة وهذه!
هم يقولون: تلك الاستغاثة شرك؛ وهذه ليست شركاً! لأنّ أرواح اولئك لا ترى، ولا تتقولب في قالب حسّيّ؛ وخلاصة الكلام الاستغاثة بالأسباب الطبيعيّة والمادّيّة بعيدة عن الشرك؛ بَيدَ الاستغاثة بالأمور المعنويّة والروحانيّة شرك. إنّه لشيء عجاب أن لا نعتبر الاستغاثة بالمادّة القذرة ليست شركاً، ونعتبر الاستغاثة بالنفوس العالية القدسيّة المجرّدة شرك!
ونجيب: القاعدة العَقْليَّة لا تقبل الاستثناء؛ ولو كانت الاستغاثة بغير الله شركاً، فالشرك قائم في كلّ شيء؛ والخطأ موجود في كلّ شيء.
إذَن، كيف تريدون إثبات التوحيد للحقّ بالدليل العقليّ، وأنتم تستثنون في الأمور المادّيّة والطبيعيّة؟!
أليس هذا مضحكاً؟ أو هو مبكٍ على مسكنتكم وإفلاسكم وخلوّ ذات يدكم من علم الحقّ وعرفانه؟!
يقولون: الطواف حول قبر المعصوم شرك؛ وتقبيل ضريحه المطهّر شرك؛ وتقبيل أعتابه شرك؛ والسجود على تربة سيّد الشهداء عليه السلام شرك؛ والتوسّل بالأئمّة والصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء لقضاء الحوائج شرك.
ونجيب: لما ذا تعدّون هذه الأشياء شركاً؟ ما الفرق بين تقبيل الحَجَر الأسْوَد وتقبيل الضريح؟ وما الفرق بين البيت الذي بناه إبراهيم الخليل عليه السلام باسم الكعبة، وبين المرقد المطهّر للآية الإلهيّة الكبرى وصاحب مقام أوْ أدنى، وصاحب الشفاعة الكبرى، وحامل لواء الحمد؟ لما ذا يجوز الطواف هناك، ولا يجوز هنا مع له ميزاته من حيث الأهميّة؟[1]
لما ذا يجوز السجود على الأرض وعلى كلّ شيء غيرها، ولا يجوز على التربة المطهّرة للشهيد الحقيقيّ الاوحد للدين والحقّ أبي عبد الله الحسين؟ وإذا كان السجود على شيء شركاً، فَلِمَ يجوز على الفراش، والسجّاد، والأرض، والحصير؟ ولكنّه حرام هنا على وجه الخصوص! يمثّل التوحيد هناك، والشرك هنا؟!
استغاثتكم بكلّ حيّ هي استغاثتكم بروحه لا بجسمه، فَلِمَ لا تعتبر الاستغاثة بالنفوس الخبيثة الكافرة في الدنيا شركاً، بينما تعتبر شركاً إذا كانت بروح الصدّيقة الطاهرة؟ هذه أسئلة لا يقدرون على جوابها، ولم ولن يقدروا على ذلك.
والجواب هو: إذا كان لهذه الأشياء طابع الاستقلال، فكلّها شرك؛ سواء كانت طوافاً حول بيت الله، أو تقبيلًا للحجر الأسود؛ أو سجوداً على الفراش والأرض العاديّة؛ أو توسيطاً للطبيب والجرّاح والعالم الاخصّائيّ وإذا لم يكن لها طابع الاستقلال، فليست شركاً؛ بل هي التوحيد نفسه.
أليس النظر إلى الموجودات في هذا العالم نظراً مستقلًّا شركاً؟ إنّه الشرك عينه، فالوهّابيّة- عبر هذا التنزيه والتقديس الذي يريدونه لذات الحقّ- وقعوا في فخّ الشرك من حيث لا يعلمون؛ وأصبحوا مِن {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ}.[2]
النظر إلى الآيات الإلهيّة من حيث الآيتيّة هو النظر ذاته إلى التوحيد؛ وتقبيل الإمام من حيث الإمامة هو الاحترام ذاته لله؛ وعرض الحاجة على الأرواح المقدّسة من حيث معنويّتها وروحانيّتها وقُربها إلى الله هو نفس عرض الحاجة على الله، وهو عين التوحيد؛ وحبّ أحبّاء الله هو حبّ الله نفسه.
[1] استدلّ البعض على عدم جواز الطواف حول القبور برواية الحَلَبيّ عن الإمام الصادق. ورواية محمّد بن مسلم عنه أو عن أبيه الباقر عليهما السلام إذ قال: و"لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ".
بَيدَ أنّ هذا الاستدلال باهت ضعيف لا يُعوَّل عليه؛ لانّ المقصود بالطَوْف في هاتين الروايتين هو التغوّط عند القبر لا الدوران حوله! والشاهد على ذلك ما قاله أئمّة اللغة في كتبهم مثل:
«صحاح اللغة»، و«تاج العروس»، و«لسان العرب» وغيرها. يقول صاحب «شرح القاموس» في مادّة طَوْف: والطَوْف: الغائط. طاف: إذا ذهب إلى البراز ليتغوّط مثل إطَّافَ من باب الافتعال. وفي «مجمع البحرين»: والطَّوْفُ: الْغَائِطُ ومنه الخبر: "لا يُصَّلِّ أَحَدُكُمْ وهُوَ يُدافِعُ الطَّوْفَ"؛ وجاء في الحديث أيضاً: "لَا تَبُلْ في مَاءٍ مُسْتَنْقَعٍ ولَا تَطُفْ بِقَبْر!" وضمن بحثنا في بعض المسائل الفقهيّة، ألفنا رسالة موجزة في هذا الموضوع مشفوعة بالادلّة. وقد بيّنا فيها بما لا يبقى معه شكّ أنّ الطواف حول القبور لا إشكال فيه؛ وأنّ القصد منه في هذه الروايات هو التغوّط.
[2] الآية 11 من السورة 22: الحج. أيّ أنّ هؤلاء ينظرون إلي الله من نافذة واحدة، ويرون قدرته وعظمته في بعض الاشياء، لا في جميعها.
الاكثر قراءة في التوحيد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة