أساليب السيطرة والتمويل للنظم الإذاعية
المؤلف:
د. حسن عماد مكاوي د. عادل عبد الغفار
المصدر:
الإذاعة في القرن الحادي والعشرين
الجزء والصفحة:
ص 43- 50
2025-12-16
31
أساليب السيطرة والتمويل للنظم الإذاعية:
تحرص كل دولة على أن تكيّف نظامها الإذاعي ليحافظ على طبيعتها الخاصة خاصة الطبيعة السياسية، وكانت معظم المحطات الإذاعية الرائدة التي ظهرت في العشرينيات من القرن الماضي تخضع لنمط الملكية الخاصة وليس للحكومات، فالحكومات كانت تهتم أساساً بخدمات البريد والبرق والهاتف.
ولعل أهم الأسئلة التي برزت عند إدخال الإذاعة في المجتمعات المختلفة هي مَنْ الذي يملك ويدير هذه الإمكانيات الإذاعية؟ ولا يزال هذا السؤال مطروحاً في بعض المجتمعات حتى الآن؟
ومنذ الأيام الأولى لظهور الراديو كوسيلة اتصال جماهيرية كان هناك تخوفاً من ازدحام الفضاء الهوائي بالترددات الإذاعية والتي قد تتداخل مع بعضها البعض دون أن تترك مكاناً للاستخدامات العسكرية، ولم يكن هناك يقين من مدى التأثير السياسي والاجتماعي لوسيلة الإذاعة، ونظرا لتعدد النظم السياسية في المجتمعات المختلفة، فقد انعكس ذلك في تعدد النظم الإذاعية أيضا.
وبعد ظهور الإذاعة المسموعة بعدة سنوات، كان لابد من تنظيم العمل بهذه الخدمات الجديدة من خلال سن التشريعات باعتبارها ضرورة عملية وأخلاقية، وبالتالي بدأت الحكومات في وضع القوانين المنظمة لهذه الوسيلة لتحقيق أربعة أهداف أساسية:
1- ضمان عدم حدوث تداخل بين الترددات الإذاعية العاملة في الدولة.
2- تنظيم الترددات الإذاعية في إطار حصة الترددات المخصصة لكل دولة. 3- معاملة الطيف الكهرومغناطيسي كمورد قومي له قيمة عامة.
4- منع سوء الاستخدام المحتمل للإذاعات من خلال التأثير السلبي على المجتمع.
وهناك جانب آخر لعلاقة النظم الإذاعية بالحكومات وهو جانب دولي، فمع زيادة عدد المحطات الإذاعية كان لابد من عقد بعض الاتفاقات الدولية التي تحول دون تداخل الترددات الإذاعية بين الدول، وقام بتنظيم هذه العلاقات الاتحاد الدولي للاتصالات السلكية واللاسلكية.
وبوجه عام، يوجد أربعة أساليب من ملكية وإدارة النظم الإذاعية حول العالم ظلت سائدة حتى ثمانينيات القرن العشرين ويمكن عرضها على النحو التالي:
1- نمط الاحتكار الحكومي :Government Monopoly
وهو النمط السائد في معظم دول العالم، حيث يسود الحكم السلطوي أو العسكري أو هيمنة الحزب الواحد، ولا يسمح هذا النظام بالملكية الخاصة للقنوات الإذاعية ويسود هذا النظام في 91 دولة بنسبة 49% ويتبنى هذا النظام معظم الدول النامية ودول أوروبا الشرقية، حيث تسيطر الحكومات بشكل شبه مطلق على وسائل الإعلام وتنظر إلى المحتوى الإعلامي باعتباره خدمة عامة تهدف إلى إقناع الجماهير بأفكار محددة مثل تفسير السياسات الحكومية والترويج لأنشطتها، وتحديد أولويات القضايا التي تهم المجتمع من المنظور الحكومي.
2- نمط الهيئات العامة: Public Service Corporation Model
يوجد هذا النظام في 38 دولة بنسبة 21، حيث يتم تأسيس هيئات إذاعية عامة تشارك الحكومات في السيطرة عليها بدرجات متفاوتة، وتعمل الخدمات الإذاعية كشبكات قومية، وبعض هذه الهيئات لا تحصل على تمويل حكومي مثل هيئة الإذاعة البريطانية BBC، وهيئة الإذاعية الكندية، وأستراليا، والسويد. وتستخدم دول أخرى هذا النمط في الملكية من خلال الحفاظ على استقلال مالي واداري محدود من الحكومة، ولكنها لا تستغنى تماماً عن التمويل الحكومي.
3- نمط الملكية الخاصة: Private Ownership
وينتشر هذا النمط في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أمريكا اللاتينية مثل المكسيك وبيرو، ويستخدم هذا النظام 36 دولة بنسبة 20% من دول العالم، ويستمد هذا النمط الإذاعي تمويله من عائد الإعلانات التجارية، ويعد المحتوى الإعلامي في هذا النمط الإذاعي بمثابة السلعة القابلة للبيع والشراء، ويغلب على هذا النمط المحتوى الإعلامي الهابط الذي يعكس الثقافات والفنون الشعبية بهدف جذب الجماهير وترويج السلع و الخدمات التجارية التي تعكسها الإعلانات.
4- النمط المختلط: Mixed System
يجمع هذا النظام الإذاعي بين نوعين على الأقل من أنماط الملكية السابقة، حيث يسمح النظام بوجود قنوات حكومية احتكارية إلى جانب القنوات التجارية الخاصة ويوجد هذا النمط في 19 دولة بنسبة 10% من دول العالم حتى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، ومن أبرز الدول التي تبنت هذا النمط اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وكندا واستراليا.
ومنذ أوائل الثمانينيات من القرن العشرين بدأت معظم الدول الأوربية والعديد من الدول النامية تتبنى نمط الملكية المختلطة للإذاعات نتيجة زيادة استخدام ترددات الميكروويف، والألياف الضوئية، والاتصالات الرقمية، والاتصالات الفضائية وعوامل المنافسة التي عجلت نحو خصخصة وسائل الاتصال الإلكترونية.
وخلال العقد الأخير من القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحالي، تغيرت أنماط ملكية الإذاعات في عدد كبير من الدول من النمط الاحتكاري الحكومي إلى التوجه نحو الملكية الخاصة، وأصبح على الحكومات الاحتكارية في الوقت الحالي أن تقوم بالمهمة الدقيقة في فتح أبواب الاحتكارات المحمية أمام المنافسة وأسباب ذلك تكنولوجية في معظمها؛ إذ أن الأقمار الصناعية أصبحت تخترق جميع الحدود، وهى أسباب سياسية أيضا، ليس فقط بسبب زوال الأنظمة الشمولية لسيطرة الدولة، ولكنها أيضا بسبب تزايد الضغوط من أجل إتاحة الفرصة أمام الجمهور لنقل آرائهم وأفكارهم بحرية في المجتمعات الديمقراطية، وهى أسباب اقتصادية أيضا بحثا عن مناخ الربح في السوق العالمية الحرة، حيث لا يحتاج دور السلطات إلى إلغاء بقدر ما يحتاج إلى إعادة تنظيم في هذا السياق.
وكان الاتجاه نحو خصخصة وسائل الإعلام في أوروبا قد بدأ متأخراً عن الولايات المتحدة الأمريكية، وقد بدأت المملكة المتحدة التوجه نحو تشغيل الإذاعات الخاصة من عام 1959 من خلال الإذاعات والتليفزيون التجاري ليعمل جنباً إلى جنب مع هيئة الإذاعة البريطانية، وخلال السبعينيات من القرن الماضي سمحت إيطاليا بتشكيل الإذاعات التجارية، كما بدأت الإذاعات الخاصة في كل من فرنسا وألمانيا منذ عام 1984.
أما الوضع في وسط وشرق أوروبا فقد تغير بشكل كبير، حيث كان على وسائل إعلام الدول التي لا تجد الدعم المالي الكافي أن تتنافس مع الشركات الخاصة، وكانت منظمات البث في كومنولث الدول المستقلة تعمل حتى 1995 في ظل فراغ قانوني نظرا لعدم وجود تشريع حول بث القنوات الإذاعية الخاصة.
لقد ظهرت قوى في المجتمع المدني مستعدة بشكل متزايد لتبني شبكات راديو وتليفزيون متحررة من التنظيمات الحكومية. ففي أوائل التسعينات من القرن الماضي أنشئت في تركيا أكثر من 700 قناة إذاعية وتليفزيونية (غير قانونية) متحدية بذلك قانون يعطى احتكار الراديو والتليفزيون السلطة الدولة.
ونظرا لأن الأمم الفقيرة أو الصغيرة لا تستطيع أن تحسّن شبكات اتصالها بدون الاستثمار والمهارات والتكنولوجيا الأجنبية، فقد أصبح الحل الوحيد هو الخصخصة Privatization خاصة بالنسبة لنظم الراديو والتليفزيون، وقد أخذت بها سنغافورة وكوريا الجنوبية عام 1993 والمجر وباكستان وبيرو وروسيا عام 1994، وبوليفيا وكوت ديفوار وجمهورية التشيك والهند وتركيا وأوغندا عام 1995.
والحركة من أجل إلغاء قيود البث قوية في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تعد دولة مالي أكبر دولة في عدد القنوات الإذاعية الخاصة (15 قناة)، كما أعطت بوركينا فاسو ترخيصًا بتشغيل تسع قنوات إذاعية خاصة، ومنحت لجنة البث القومية في نيجيريا تراخيص لمحطة إذاعية خاصة وست محطات تليفزيونية، إلى جانب إحدى عشرة محطة لإعادة الإرسال بالكابل ومن الأقمار الصناعية، غير أن هذه المحطات الإذاعية الخاصة في أفريقيا تعانى من بعض القيود المهمة، فهي تميل إلى تقديم برامج محدودة من الموسيقى الشعبية والبرامج الدينية بعدة لغات قومية ويركز العديد من هذه القنوات على الأرباح التجارية من خلال الإعلان والبرامج الترفيهية، وقد لوحظ أيضاً أن هناك ميل لمنح التراخيص لأفراد لهم صلة وثيقة بالحكومات.
وهكذا تميز العقد الأخير من القرن العشرين بتزايد عدد الدول التي تقيم نظماً إذاعية وتليفزيونية متحررة من التنظيمات الحكومية في كل أنحاء العالم. ويبدو أن التطورات التكنولوجية تؤدى الدور الرئيسي في إعادة هيكلة نظم وسائل الإعلام.
وفيما يتعلق بواقع النظم الإذاعية في الوطن العربي نلاحظ غلبة طابع السيطرة المباشرة من جانب الحكومات العربية على الخدمات الإذاعية والتليفزيونية، حيث تقوم الحكومة بتشغيل النظام الإذاعي، أو يدار بواسطة هيئة تحت رعاية الدولة مباشرة ويكون من الصعب على وسائل الإعلام في ظل هذه الظروف أن تمارس دوراً مستقلاً. وقد أدى ذلك إلى انتشار ظاهرة الاستماع إلى الإذاعات الموجهة من خارج المنطقة العربية وخاصة هيئة الإذاعات البريطانية، وصوت أمريكا ومونت كارلو الفرنسية، كما أدى ذلك إلى انتشار ظاهرة مشاهدة القنوات الفضائية الأجنبية في الوطن العربي - خاصة منطقة الخليج العربي والتي قد توفر أكبر سوق للفيديو كاسيت في العالم، وهي من أكبر المشترين لبرامج التليفزيون الأمريكية والبريطانية المهربة.
ويتميز واقع الإعلام في المنطقة العربية بتوسع كبير في مجال الوسائل السمعية البصرية، فعلى سبيل المثال، زاد عدد أجهزة استقبال الراديو من 65 جهاز لكل ألف نسمة عام 1965 إلى 226 جهازاً لكل ألف نسمة عام 1985، كما زاد عدد أجهزة الاستقبال التليفزيوني خلال الفترة نفسها من 8.4 جهازاً إلى 85 جهازاً لكل ألف نسمة من السكان. ويمكن أن نعمم ذلك على خطوط الهاتف والفاكس والتلكس وغيرها. هذا التوسع في عدد الأجهزة لم يستتبعه استثمار مماثل في ميدان إنتاج البرامج الإعلامية التي تتطلبها هذه الوسائل، مما أتاح المجال لاستيراد البرامج من الخارج، خاصة من المجتمعات الغربية المتقدمة مثل الأخبار والمسلسلات والأفلام.
وخلال السنوات القليلة الماضية، أصبح هناك اتجاه عام في العديد من الدول العربية نحو إقرار مبدأ التعددية الإعلامية، والتخلي تدريجياً عن احتكار الحكومات العربية لوسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وبالتالي السماح للقطاع الخاص بإنشاء وتشغيل شبكات أو قنوات إذاعية وتليفزيونية متحررة من القيود الحكومية. وقد بدأ هذا الاتجاه في منطقة المغرب العربي، حيث سمحت الحكومة المغربية بإنشاء إذاعة "البحر الأبيض المتوسط الدولية" MEDIAI كأول إذاعة غير حكومية بالتعاون مع شركة Sofirad الفرنسية، وقد تمكنت هذه الإذاعة من تحقيق رواج كبير في كافة بلدان المغرب العربي.
وفى الجمهورية التونسية تحتكر الحكومة وسائل الإذاعة والتليفزيون وفق قانون الإعلام العام 1957 وفى 7 مايو 1990 صدر قانون جديد يتيح دخول القطاع الخاص إلى جانب القطاع العام في مجال البث الإذاعي والتليفزيوني، وقد تمخض هذا القانون عن إنشاء قناة "الأفق" التليفزيونية Canal Horizons التي بدأت تبث برامجها في تونس العاصمة في 7 نوفمبر 1992، ونسبة رأسمال هذه القناة 60% لتونس و40% للأجانب.
أما دولة الجزائر، فقد أصدرت قانوناً في 3 أبريل 1990 يسمح بتواجد قطاع عمومي وقطاع خاص في مجال الإذاعة والتليفزيون، حيث يجيز الفصل 56 من القانون استعمال أموال الأثير الإذاعية من طرف الخواص (القطاع الخاص)، بعد الحصول على ترخيص إداري، والاتفاق على كراسة شروط لاستغلال هذه الأموال، ويعتبر القانون هذه العملية "استعمالاً خاصاً لملك الدولة".
وفي دولة لبنان صدر القانون رقم 382 الخاص بالبث التليفزيوني والإذاعي والصادر في نوفمبر 1994، ويسمح هذا القانون للقطاع الخاص بتأسيس قنوات إذاعية وتليفزيونية خاصة بعد الحصول على ترخيص بذلك، وقد حدد القانون شروط الحصول على هذا الترخيص بأن تنشأ المؤسسة التليفزيونية أو المؤسسة الإذاعية على شكل شركة لبنانية، ولا يحق لها أن تمتلك أكثر من مؤسسة تليفزيونية واحدة ومؤسسة إذاعية واحدة (مادة 12) وأن تكون جميع أسهم الشركة اسمية، وأن يكون الشخص الطبيعي لبنانيا، والشخص المعنوي شركة لبنانية، ولا يحق له أن يمتلك أكثر من 15% من أسهم الشركة، ولا يحق له أن يساهم في أكثر من شركة واحدة (مادة 13). كذلك سمحت مصر بتشغيل قنوات تليفزيونية وإذاعية غير حكومية في مستهل القرن الحادي والعشرين في ظل قانون المنطقة الحرة الإعلامية.
الاكثر قراءة في الاذاعة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة