وصية لابن الجنان على لسان ابن هود
المؤلف:
أحمد بن محمد المقري التلمساني
المصدر:
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
الجزء والصفحة:
ص:406-414
2025-12-15
42
وصية لابن الجنان على لسان ابن هود
أقول: لم تزل عادة الأكابر من العلماء والملوك الوصية لأولادهم وعمالهم باقتفاء النهج الذي يرون فيه السلوك، وقد وقفت للفقيه الكاتب أبي عبد الله محمد ابن الجنان المرسي الأندلسي رحمه الله تعالى لي وصية ضمن رسالة كتبها عن ابن هود ملك الأندلس إلى أخيه اشتملت على ما لا بد منه، فرأيت أن أذكرها هنا تتميما للفائدة، ونصها بعد الصدر:
من مجاهد الدين، وسيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكل عليه أمير المسلمين محمد بن يوسف بن هود، أيده الله تعالى بنصره، وأمده بتمكينه، وأعانه على ما ينويه من إحياء معالم دينه، إلى صنونا المبارك، وقسيمنا وأخينا المخصوص بتبجيلنا وتكريمنا، وحسامنا المنتضى المرتضى لإمضاء عزمنا وتصميمنا، الأمير الأعلى، الموقر الأسمى، الميمون النقيبة المحمود السجية، الأحب النية، الأعز علينا، المتمم بمساعيه الصالحة كل ما نوينا، أدام الله تعالى تظفيره وإسعاده، وأمضى في الحق قواضبه وصعاده، ووالى معونته وإنجاده، وتولى توقيفه وإرشاده، سلام طيب كريم زاك يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد - فالحمد لله الذي أوضح للحق سبيلا، ومد ظل رحمته على الخلق ظليلا، وجعل العدل بحفظ نظام الإسلام كفيلا، ونزل الأحكام على قدر المصالح تنزيلا، ونصب معالم الهدى علما لمن اقتدى ودليلا، وألهم إلى ما يرضاه عملا ومعتقدا وقيلا، وصلواته الطيبة، وبركاته الطيبة، على سيد العالمين، وخاتم النبيين، محمد رسوله الذي فضله بخلته واصطفاه تفضيلا، وبعثه بالحنيفية السمحة فبينها تبيينا وفصلها تفصيلا، ورتبها كما أمره ربه إباحة وندبا وتحريما وتحليلا، حتى ثبتت سنة الله " فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا " (فاطر: 43) وعلى آله وصحبه الذين فهموا ما جاءهم به عليه الصلاة والسلام نصا وتأويلا، وأبقوا من سيرتهم الفاضلة، وأحكامهم العادلة، أساسا للمتقين جليلا، ومآثر للمقتفين تسبح الأفهام والأقلام في بحارها سبحا طويلا، وأمضوا عزائمهم تنسخ بالحق باطلا وبالهدى تضليلا، ورضوان الله تعالى يتوالى على خليفته، وحامل أمانته إلى خليقته، الذي كمل الله تعالى له موجبات الإمامة تكميلا، وأناله من هدي النبوة أفضل ما كان للهداة منيلا، سيدنا ومولانا الإمام المنتصر بالله تعالى أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين المتبوّئ من ساحة الشرف والجلالة محلا شريفا جليلا، والمنتخب من بحبوحة بيت الرسالة الذي وجد الوحي عنده معرسا ومقيلا، والدعاء له من لدن العزيز القوي بنصر يأتي لإمداده بمدد الملائكة قبيلا، وفتح يؤتي الإيمان من الظهور بغية وتأميلا.
فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم عزما لا يزال عضبه صقيلا، وعزا يروق بإظهار الحق غرة وتحجيلا، ورأيا لقداح السداد والنجاح مجيلا، وسعدا يوصل إلى الإسعاد برضاه توصيلا، من حضرتنا بمرسية حرسها الله تعالى، ونحن نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على فضله الذي أناله جسيما جزيلا، ونتوكل عليه، توكل من يلجأ في كل أحواله إليه، وكفى بالله وكيلا، ونستعينه على أمور المسلمين التي حملنا منها أمانة كبيرة وعبئا ثقيلا، ونقف بالضراعة بين يديه، طلبا لما يخلصنا لديه، عساه أن يجعل لرغبتنا قبولا وتوسيلا، ونعوذ به من كل عمل لا يكون حاصله إلا مآلا وبيلا، وعرضا من الدنيا قريبا ومتاعا قليلا.
إنا - والله المرشد - لنعلم أن هذا الأمر الذي قلدنا الله تعالى منه ما قلده، وأسنده إلينا من أمور خلقه فيما أسنده، قد ألزمنا من حقوقه الواجبة، وفروضه الراتبة، ما لا يستطاع إلا بمعونته أداؤه، ولا يستتب إلا بتوفيق الله تعالى انتهاؤه وابتداؤه، فهو المشكور عز وجهه على نعمته، والمستعان على ما يدني من رضاه ويقرب من رحمته، وأن كل امرئ بشأنه مشغول، وعن خويصة نفسه مسؤول، ونحن بما استرعانا الله تعالى مشغولون، وعن الكبير والصغير مسؤولون، وعلينا النصيحة لله في عباده وبلاده، والنظر لهم بمنتهى جد المجتهد واجتهاده، ولا قوة إلا بالله عليه توكلنا، وبه إليه توسلنا، فعيننا تسهر لتنام للرعية عيونهم، وتحركنا يتصل ليحصل لهم سكونهم، وأملنا أن لا نقر فيهم بحول الله تعالى ظلما ولا هضما، ولا نخرم لهم في إقامة حقوق الله ما استطعنا نظما، وأنى ينصرف عن هذا القصد بعمله ونيته، من يعرف أن الله جل جلاله لا يجوز ظلم ظالم في بريته، ولعل الله الذي حملنا ما حملنا، واستعملنا بمشيئته فيما استعملنا، أن يهب لنا توفيقه، ويسلك بنا إلى هداه طريقه.
ألا وإن من وليناه أمرا من أمور المسلمين فهو مطلوب به، وموقوف عليه عند ربه، فلينظر امرؤ في جزئية ما نيط به وكليته، وليراقب فيما لديه عالم خفيته وجليته، ألا وكلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، فمن حفظ الله حفظه الله في نفسه وآله، وقضى له بالسعادة في حاله ومآله، وأنجاه يوم عرضه وسؤاله، والخلق عيال الله فأحبهم إليه أحبهم لعياله. العدل العدل فبه قامت السموات والأرض، وبإقامته أقيمت السنة والفرض " اعدلوا هو أقرب للتقوى " المائدة: 8 وأقوى ما تشتد به أركان الدين وتقوى، أما إن الحق في أن لا تتعدى أساليب الشرع وقوانينه، وأن لا يتجاوز في قضية من القضايا إفصاحه وتبيينه، وأن يجازى بحكمه المسيؤون والمحسنون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.
ألا وإنا قد عثرنا لبعض قواد الجهات وحكامها على أمور أنكرنا معرفاتها، واستقبحنا مستوصفاتها، وبرئنا إلى الله من متغيراتها ومحرفاتها، وعلمنا أن منهم أقواما لا يتورعون عن الأموال والدماء، ولا يحذرون فيما يأتون ويذرون جبار الأرض والسماء، فأزلنا بحمد الله ذلك ونحوه، وعجلنا ابتغاء رضاه محقه ومحوه، وانبعثنا لنظر جديد، واستئناف لإصلاح أحوال وتسديد، وتغليظ في المحرمات وتشديد، واستقبلنا ما يوسع الأمور ربطا وضبطا، ويفيض على الأمة بعون الله تعالى عدلا وقسطا، وتعين علينا فيما رأيناه إنفاذ الخطاب إلى كل من استكفيناه بالبلاد، ووليناه النظر عنا في مصالح العباد، بما يكون إن شاء الله تعالى الاعتماد على فصوله، والاستناد إلى محصوله، والاجتهاد بحسب فروعه وأصوله:
فأول ما نوصيكم به وأنفسنا تقوى الله في كل حال، ومراقبة أوامره ونواهيه عند كل انتحاء وانتحال، والوقوف عند حدود الله التي حدها، وأرصدها بإزاء موجباته وعدها، فإنه لا يتعداها إلا من رام تعفي رسمها وطمسه " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " الطلاق: 1 والمحافظة على ما به تحفظ الشريعة، والملاحظة لما يضم الرعايا من حوزة أولي الحياطة المنيعة، والمثابرة على ما تكف به أكف الاعتداء، والمبادرة إلى الاهتمام بالسلف الصالح والاقتداء، والطريقة المثلى، وآيات الله التي تتلى، وهداياته التي لأبصار البصائر تجلى، وخفض الجناح، والأخذ بالرفق والإنجاح، وتوخي الحق الذي هو أوضح انبلاجا من فلق الإصباح، والحلم والأناة، والمذاهب المستحسنات، والأمور البينات.
والله الله في الدماء فإنها أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فيها، ولا سبيل لاستحلالها إلا بعد ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل المسلم لأخيه، وقد قال مالك الأمر والخلق " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " الأنعام: 151 فتثبتوا فيها فأمرها جليل، وتحريمها لا يدخله تحليل، وإياكم أن تجعلوا فيها لأحد من ولاة الجهاد حكما أو نظرا، أو تكلوا إليهم منها مستكثرا أو مستنزرا، فإنه إذا استبد بالقضاء فيها كل وال ذهبت هدرا، واستباحها الجاهل والجائر أشرا وبطرا، وربما كان فيهم من في طباعه سبعية فيقتل بها الناس قتلا ذريعا، ويتسهل بذلك من جوره صعبا ويرتكب بجهله شنيعا، ويذهل عن قول الله تعالى " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " (المائدة: 32) فأنى تحل المسامحة في هذا الشأن، أو يحكم به كل إنسان في نفوس أهل الإيمان معاذ الله أن يكون هذا ونحن نعرفه، أو ينصرف إليه نظرنا فلا نزيله ولا نصرفه، فسدوا هذا الباب سدا، وصدوا عنه من أمه صدا، وكفوا كل ما كان من الأيدي للدماء ممتدا، ومن وجب عليه القتل شرعا (1) وتعين، واتضح موجب القصاص فيه وتبين، فليس لكم إلا القاعدة الكبرى، تتحرى فيها الأحكام عليه بمحضر القاضي والشهود كما يجب أن يتحرى، بعد أن يتثبت في نازلته لديكم ويستجلى ويستبرا، فلا تحل القضية إلا على بصيرة، وحقيقة مستنيرة، فقد يلوح في اليوم ما خفي بالأمس، ويتعذر بعد الإفادة إعادة النفس.
وملاك الأمر في انتقاء من يتصرف، وتولية من لا يضيم ولا يتحيف، فتخيروا للأنظار والجهات، من ترتضى سيرته من الولاة، ولا تستعملوا أهل الفظاظة والجهالة، والمصرين على الراحة والبطالة، فإنهم إذا استرعوا أضاعوا، وإذا دعاهم شيطان الهوى أطاعوا، وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا، وميلوا باختياركم إلى المتسمين بالصلاح، المرتسمين في ديوان الكفاة النصاح، وأطيلوا مع ذلك التنقير عنهم والتنقيب، ولا تغفلوا عن التعهد بالبحث البعيد منهم والقريب، ومن عثرتم له على منكر من استباحة دم أو مال، وإضاعة للحقوق وإهمال، فخذلوا على يده، وجازوه بفاسد مقصده، وأنزلوه بالمنزل الأقصى، وعاملوه معاملة من أوصي بتقوى الله فما استوصى.
واصرفوا نظركم إلى القضاة فإن مدار الشريعة إنما هو على ما يستند إليهم، ويقصر من الأحكام عليهم، فإذا كانوا من أهل العلم والديانة، وذوي النزاهة والصيانة، أمسكهم الورع بزمامه، وبلغ العهد بهم غاية تمامه، وإذا كانوا بضد هذا قبلوا الرشوة، وأوطأوا العشوة، وأطالوا النشوة، وأحلوا من الدماء والفروج محرمها، وطمسوا من السنة بالميل والمين معلمها، وحكموا بالهوادة والهوى، وطووا من الحق ما انتشر ونشروا من الباطل ما انطوى، فانتقوهم فهم أولى بالانتقاء، وشر جاسرهم وجاهلهم أحق بالاتقاء، ولا تقدموهم ولا غيرهم بالشفاعات والوسائل، ولكن قدموهم بتورعهم في القضايا وعلمهم بالمسائل.
ومما نؤكد عليهم فيه أمر الشهود؛ فإن شهادة الزور هي الداء العضال، والظلمة التي يتستر بها الظلمة والضلال، والحجة الداحضة التي بها يحلل الحرام ويحرم الحلال، وقد كثر في هذا الزمان أهل الشهادة الفاسدة، ونفقت بهم سوق الأباطيل الكاسدة، فتقدموا إلى القضاة وفقهم الله تعالى أن لا يقبلوا إلا مشهورا بزكاء وعدل، موفورا حظه من رجاحة وعقل، ومن كان مغموزا عليه في أحواله، منبوزا بالاسترابة في شهادته وأقواله، فلترد شهادته على أدراجها، وليبطل ما يكون من حجاجها. وأكدوا عليهم عند تعارض العقود في الترجيح، والنظر في التعديل والتجريح، لتجري أمور المسلمين على مستوى الحق المستبين، وتبدو المعدلة مشرقة الغرة مؤتلفة الجبين.
ومما نأمركم به أن تبحثوا عن العمال، ولا تولوا منهم إلا الحسن الطريقة المرضي الأعمال، ومن لم يكن منهم جاريا على القوانين المرعية، ناصحا لبيت المال رفيقا بالرعية، وكان في أمانته حائدا عن الجادة السوية، قائلا كما قال قبله ابن اللتبية (2)، فليعوض منه غيره، وليرفع عن الجانبين ضيره، فإنه ما كانت الخيانة قط في شيء إلا أهلكته، ولا وضعت في إنسان طبيعة سوء إلا ملكته.
وإنما هو مال الله تعالى الذي يرزق منه الحماة، وبه تسد الثغور المهمات، فينبغي أن يختار له محتاط في اقتضائه وقبضه، حافظ لدينه ومروءته في كله وبعضه، فخذوا في انتقاء هذه الأصناف المسمين، واطلبوا بهذه الأوصاف المصرفين والمولين، واجمعوا من الاجتهاد الحميد والقصد والاعتماد الأثر والعين، وأنصفوا منهم إن تظلم من أحدهم متظلم، واشفوا شكوى كل متشك وألم كل متألم، واعلموا أن حرمة الأموال بحرمة الدماء لاحقة، وأن إحدى القضيتين للأخرى مساوية ولاحقة، ومن أكبر ما ورد في ذلك وأعظمه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حرمة مال المسلم كحرمة دمه ".
وليكن الناس في الحق سواء لا محاباة ولا مفاضلة، ولا مجاوزة في تغليب قوي على ضعيف ولا محاولة، إن هذه أمتكم أمة واحدة، وإن دلائل الشرع بمراد الله سبحانه وتعالى لشاهدة، ولا يؤخذن أحد بجريرة أحد، ولا يجني ولد على والد ولا والد على ولد، فكتاب الله تعالى أولى بالاتباع وأحرى، لقول الله عز وجل " ولا تزر وازرة وزر أخرى " (الأنعام: 164) (3) اللهم إلا من آوى محدثا فإنه مأخوذ بما أجرم، ومعلون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فارفعوا - أعاننا الله تعالى وإياكم - للعدل بكل علم منارا، واتخذوا الرفق بالإمامة شعارا، فقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه " وقد نص الكتاب والسنة على مواضع اللين والاشتداد، ونبها على منازع المقاربة والسداد، فلا غضب لأمر إلا بما غضب له الله عز وجل، ولا رضى به إلا إذا استقر فيه رضى الله تعالى وحل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذي يجلد فوق ما أمر الله تعالى به يقول له الله عز وجل: عبدي، لم جلدت فوق ما أمرتك به فيقول: رب غضبت لغضبك، فيقول: أكان ينبغي لغضبك أن يكون أشد من غضبي ثم يؤتى بالمقصر فيقول: عبدي، لم قصرت عما أمرتك به فيقول: رب رحمتهن فيقول: أكان ينبغي لرحمتك أن تكون أوسع من رحمتي " قال: فيأمر فيهما بشيء قد ذكره لم يحفظه الراوي، إلا أنه قال: صيروهما إلى النار، أعاذنا الله تعالى منها بفضله ورحمته! فليوقف بالقضايا حيث وقف بها الشرع، ويحفظ الأصل من هذه الوصايا والفرع، واحتاطوا في الرعية فإنه رأس المال، والأمانة التي لا ينبغي أن يكون فيها شيء من الإهمال، ومع توفيقكم لما سطرناه، في هذا الكتاب وشرحناه، من أبواب الخير المسعد في المآب والمآل، فاستوفوا ضروب الصالحات واستقصوها، واعملوا أعمال البر وخصوها، واذكروا آلاء الله وقصوها، " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " إبراهيم: 34 واشتدوا في تغيير المنكرات كلها، واحسموا أدواءها من أصلها، ورغبوا الناس في الطاعات واندبوهم إليها، ووضحوا لهم أعمالهم وحرضوهم عليها، وانتهوا في كل سعي ناجح، ورأي راجح، إلى أفضل ما ينتهي إليه المنتصحون، " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " آل عمران: 104.
وخذوا بعمارة مساجد الله التي هي بيوت الأتقياء، ومحل مناجاة ذي العظمة والكبرياء، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.
ومروهم بأن يعلموا أولادهم كتاب الله تعالى فإن تعليمه للصغار يطفئ غضب الرب، ونعم الشفيع يوم القيامة، والمتوسل فيما يتوج القارئ وأباه تاج الكرامة، وأرشدوا للخير ما استطعتم، واتبعوا سبيله فهو أشرف ما اتبعتم، والله ولي التوفيق والإرشاد، والملجأ بالهداية إلى طريق الفوز والسداد.
وهذه أوامرنا إليكم امتثلنا أمر الله تعالى فامتثلوها، وأحضروها في خواطركم مع كل لحظة ومثلوها، وإنا لما يكون منكم فيها لمستمعون، ولآثاركم فيما يوفيها لمتطلعون، وقد خرجنا لكم عن عهدة لزمتنا في التذكير، ونهجنا لكم منها التقديم والتأخير، والله تعالى يعلم أنا إنما قصدنا ما نرجو الخلاص به يوم الحساب، وأردنا رضاه فيما أوردناه من هذا الحظر والإيجاب، لنرعى حقه سبحانه فيمن استرعانا، ونسعى في صلاح الأمة عسى الله تعالى أن ينجح فيه مسعانا.
اللهم عبدك يضرع إليك، ويخضع بين يديك، في أن تلهمه إلى ما يجمل قصدا ومعتمدا، وتهب له من لدنك رحمة وتهيئ له من أمره رشدا، اللهم منك المعونة على ما وليت، ولك الشكر على ما أوليت، فالمهدي من هديت، والخير كله فيما قضيت. اللهم من أعاننا على مرضاتك فكن له معينا، وأورده من توفيقك عذبا معينا، إنك الولي النصير، العلي الكبير.
وإذا وصلكم كتابنا هذا فقصوه (4) على الناس مفصلا ومجملا، وأظهروا مضمونه لهم قولا وعملا، واسلكوا بهم من مراشده سننا مستجملا، إن شاء الله تعالى، والله سبحانه يديم علاكم، ويصل إادتكم في كل محمد وإبداكم، ويجزل حظوظكم من السعادة وأنصباكم، بمنه وكرمه لا رب سواه. والسلام الأكرم الأزكى يخصكم، ورحمة الله تعالى وبركاته.
وكتب في الرابع والعشرين لجمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وستمائة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرعا: سقطت من ق.
(2) يسمى عبد الله بن اللتبية ثعلبة الأزدي، قال ابن حجر في افصابة (4: 123) :
مذكور في حديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين أن النبي (ص) بعث رجلا على الصدقات يدعي ابن اللتبية وذكره الفيروز ابادي في تحفة الأبيه (ص: 107) باسم عمر بن اللتبية وقيل الأتبية الاول قول ابن دريد والثاني قول ابن الكلبي.
(3) وردت الآية أيضا في سورة الإسراء: 15 وفاطر: 18 والزمر: 7.
(4) ق: فنصوه.
الاكثر قراءة في العصر الاندلسي
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة