غرفة العروس منعطف الحياة الجديدة
المؤلف:
د. رضا باك نجاد
المصدر:
الزواج من العقد الى الزفاف
الجزء والصفحة:
ص28ــ35
2025-11-16
34
علينا أن نذعن أن سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأحاديثه إنما هي سجل يضم بین کنفيه مذهباً ومدرسة فكرية يجب أن يترعرع فيها أتباعه، ولو خالف تصورنا هذا الواقع إذن لكان من واجبنا أن نعترف أننا لم نتعلم من الإسلام شيئاً وأننا نفتقد قواسم مشتركة أو انسجاماً مطلوباً بين تعاليم ديننا ومدركاتنا وسنظل على هذه الحال ما دامت أفكارنا على هذا المنوال.
يريد الإسلام الكشف عن نقاط الضعف في أتباعه ليستبدلوها بالحقيقة، ولهذا تتلخص المفاهيم الاسلامية في عبارة: لا إله (الكشف عن نقاط الضعف)، إلا الله (صقل نقاط الضعف والتعويض عنها بالحق والحقيقة).
مع أنني برهنت في عدة مجلدات، خاصة المجلد الثاني أن الدين لا يسعه أن يكون في معزل عن السياسة، أضيف هنا: بما أن الاسلام يهتم بجميع جوانب الحياة في المجتمع ولا يكون في معزل عن أي من هذه الجوانب، والسياسة هي أحد هذه الجوانب، إذن لا يمكن بناء مجتمع إسلامي يكون الدين فيه بمعزل عن السياسة.
ان المجتمعات العصرية التي تعزل في أجوائها الكنيسة عن الحكومة، إنما تبغي بذلك الحفاظ على المميزات التي استحصلها الإنسان العصري إثر توازن قوتين متعارضتين وأحدثها الاتجاهان الشيوعي والرأسمالي*. وإلا فإن الكنيسة والحكومة لا تستطيع أي منهما منفردة عن الأخرى تهيئة ما يرغب الإنسان في التضحية به توفيراً لمستلزمات كماله. يطمح الإنسان أن يرى تضحية الإمبراطور في أوان تفرغه من سلطاته الحكومية أو المؤامرات الاستعمارية، بما تشتهيه نفسه تطبيقاً للقوانين التي تدفع مجتمعه نحو الكمال، وفي هذه الحالة بالذات يتحسس المرء مشاعر الحاجة ولو إلى لبنة واحدة من لبنات الكنيسة لتتحكم ولو بفاعلية بسيطة في مسيرة حياة المجتمع.
أنظر إلى الإسلام إنه يداعب مشام أتباعه برائحة الجنة في جميع الحالات التي تتفاعل فيها نفسيته مع مؤثرات بعيدة عن الدين، إنه يلقي بظلال من الجنة على رؤوس العريسين في طليعة تأهبهما لتنشئة جيل المستقبل وهما زاخران بالميول والشهوات النفسانية ويثبت أقدامهما على بقعة من أرض الجنة التي تبذل تحت أقدام كل فتاة تزكت بعطور من الجنة وتناولت من ثمارها لتترعرع وتساهم في انعقاد نطفة يتحول جنيناً فمولوداً تنال به تلك الفتاة وسام الأمومة الفذ ويتحقق لهـا مـا وعـدت (الجنة تحت أقدام الأمهات).
فالجنة إذن ترافق الانسان منذ بداية تأهبه للإنجاب وكذلك بعد بلوغه مرحلة الإنجاب، والأعظم من هاتين المرحلتين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) اعتبر الولد الصالح أفضل خيرات وموروثات بني الانسان. ولا ينتهي دور الجنة بهذا بل تكون الجنة مستهدفة في خاتمة المطاف أيضاً حيث ترفع الأرواح الطيبة إلى الجنة. أية مسيرة هذه التي تنتهي من كل حدب وصوب بالجنة وتقسم الوجود بدرجة من الدقة والاهتمام إلى المادة والمفهوم بحيث يؤدي تلقائياً إلى انقسام نظام الخلق كذلك إلى عالم الشهود والغيب.
ويؤكد الاسلام العظيم الذي يعنى حتى بستر العورة في ظل نظام قانوني، أن الدور عندما بلغ نبياً إلهياً أوحي إليه بستر عورته بأوراق من الجنة {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22].
إذن النكاح يبدأ مسيرته مع الجنة ويرافقها في شتى المراحل وغايته الوصول إليها في نهاية المطاف، وغرفة العروس محطة طيبة على قارعة هذه المسيرة.
يولد المولود مجبولاً على الفطرة فيترعرع ويشب ثم يفترش تحت قدميه بساطاً من الجنة فتحمل المرأة جنيناً ويصبح شأنها شأن مجاهد أشهر سيفه في سبيل الله، ثم هي مرضع لها من الثواب ما يكسبه من يقضي الليل ساهراً متعبداً وقد أتم نهاره صائماً، ثم تغدو أمـاً لطفل وتنهمك بإعداد مستلزمات أسرتها المادية والمعنوية، فتفترش الجنة تحت قدميها وعندما تتوسد التراب وتترك خلفاً صالحاً يكون ذلك مدعاة لترسيخ مكانتها في الجنة. إن حيازة هذه المكانة في الجنة أجر تثاب به على نجاحها في تنشئة جيل إسلامي سليم.
يا ترى أي الشعوب والمذاهب منحت المرأة مثل هذه المكانة والفضائل ورفعتها حتى الملكوت، إن ما نطقت به من عبارات إنما كانت مدلول آيات أو أحاديث رويت عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام): مائدة من الجنة، امرأة حامل من الجنة مرضعة من الجنة، وليد من الجنة، الجنة ت أقدام الامهات، ستر العورة في الجنة خلف من دواعي الجنة، إنها مكتسبات هبطت من الملكوت الأعلى ويجب ان تعود إلى حيث أتت إن ما يوهب لنا من التراب يستعيده التراب منا بل بالأحرى يستقصي طريقه باحثاً عن التراب ليعود إليه اذ تقول الآية الشريفة {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].
تحدثنا حتى الآن عن احتفاء الإسلام بالمرأة وأنها على ارتباط دائم بالجنة في مسيرة حياتها الإلهية. وسنتطرق إلى الحياة المشتركة للمرأة والرجل والاحتفاء بهما سوية في زمان من أزمنة الجنة ومكان مـن أمكنتها.
ذكرت لكرات عديدة أن الله سبحانه وتعالى بلغ في التساوي بين المرأة والرجل حداً جعله يذكر اسمهما (المتلخص في كلمة أبوين) إلى جانب اسمه القدسي. وقد حان الأوان لهذين الشخصين (العروس والعريس) ليختارا محلاً ما يلتقيان فيه في ساعة ما فيتم ادغامهما معاً سعياً لاكتساب الجدارة اللائقة والمطلوبة لذكر اسمهما مع اسم الذات المقدسة.
وباندماج لفظتي الزوج والزوجة في كلمة واحدة وهي «الأبوان» تبرز في حياتهما مصطلحات وشؤون بناءة ومهمة أخرى مثل: المودة، الرأفة، التفاهم، الانسجام التعرف على الأقارب والأهم من كل ذلك العلاقات الاجتماعية والإنجاب بل الإبداع. إن هذه المفاهيم هي التي تشد الزوجين إلى بعضهما بل تسوق أحدهما نحو الآخر وتخلق منهما مفرداً. وبهذا الاتحاد ينالان الجدارة لتقلّد وسام ((الأبوين)) والوقوف إزاء اسم أصل الوجود والتوحيد الباري عز وجل:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
إن اتحاد بل اندماج ووحدة هذين الشخصين يشق طريقه في الدوافع والميول لا في الايديولوجيات النفعية أو التكيفات المصطنعة بل يتلخص الأمر كله في أنه لباس لها وهي لباس له يستر كل منهما الآخر ويحفظه. وقضية الكفء تتطلب أن لا يكون هذا اللباس قصيراً أو نجساً أو... إنها ملحمة الحياة التي تشرع بطلب كل منهما الخير للآخر.
يقف العريسان على عتبة الحياة الزوجية كما وقفا عند ولادتهما على عتبة الحياة وكما أنهما ولدا مجبولين على الفطرة وهي القانون السماوي المنساق إلى الجنة فإن استيعابهما وتفهمهما لطابع الجنة في المكان الذي يجتمعان فيه ليلة الزفاف يتيسر بالتفاتة صغيرة من كليهما لقداسة موضوع الزواج.
أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أمر في ليلة زفاف بضعته الفريدة: ((هيئوا لابنتي وابن عمي في حجري بيتاً))(1).
إن كل كلمة من كلمات هذا الحديث النبوي إنما تنطق بمفاهيم وتعاليم يجمل في سياقها قانون إلهي يهدي لما هو ضروري من الإجراءات التي ينبغي اتخاذها ليلة زفاف أي عريسين.
تتضمن كلمة هيئوا هيكلية ذات مفاهيم ينبغي ترسيخها في أعماق أجسام وأرواح سكنتها بل كل من يكون على صلة بها. إن زليخا وجهت بقولها «هيت لك» الدعوة ليوسف النبي ليأتيها في عرسها الكاذب إلا أن خاتم الأنبياء والمرسلين استخدم الكلمة (هيئوا) عندما أمـر بـإعداد الحجرة لعرس صادق، عرس علي المظلوم وابنته المحرومة، أو عرس كافة الشباب والشابات الكريمات من أتباعه الصادقين، وعلى مثل هذا العرس تترتب فاعلية الآية {صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] لا غير. وفي مثل هذا الزفاف يتحتم على الرجل دخول الحياة الزوجية بمروءة والخروج منها بشهامة الرجال وان يتطبع بالرجولة في كل حين وحال لا أن تقتصر على لحظات لقب فيها بهذا اللقب البهيج (العريس). لقد فر يوسف الصديق من عرس كاذب نادت فيه الفتاة ((هيت لك))، فأجابها: {معاذ الله}. وقد يأمر الرجل الفتاة في عرس كاذب: «تأهبي» فتعرض عنه قائلة: أستعيذ بالله.
وهنالك أعراس مخيبة على نوعين: العلني والخفي.
عرس كاذب علني تدخل فيه العروس الحجرة وقد أزيلت بكارتها في جماع سابق.
وعرس كاذب خفي تكون الفتاة فيه قد ذاقت طعم الجماع سابقاً دون أن تفقد بكارتها، وسأشرح جميع هذه الحالات في بحث الزفاف.
ان أهم ما يعنينا هو التهيؤ واتخاذ الهيئة الصحيحة واجتناب الطريقة المنحرفة والهيئة الخاطئة دوماً، هيئة لا يعرف الغبار سبيلاً للتراكم عليها، لا كتلك الهيئة الكاذبة التي تحاول الإيقاع بأمثال يوسف الصديق (عليه السلام) بل التي يخصها الله دوماً برحمته ويسودها الرقي وتعمها النعمة... {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16] أو {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10].
إذن اللفظة (هيئ) ذكرت في كلا الآيتين فيما يخص المأوى فالحالة الأولى تسرد أحداث استقرار هذه الثلة المؤمنة في {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]. وتضرعهم إلى الله مستهلين الدعاء بكلمة (هيئ). وتكرر الموضوع في الحالة الثانية عندما أمرهم كبيرهم باللجوء إلى الكهف: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف: 16]. إذن لا تستخدم لفظة «الهيئة» إلّا عندما يدور الحديث عـن صالح الفعال وفي المواقف الصادقة، سواء كانت هذه الهيئة كهفاً وغاراً أو منطلقاً للحفاظ على أنسال عباد الله الصالحين سواء عندما يقضي أمثال دقيانوس عليهم ولا يبقي منهم سوى سبعة يلجأون إلى الكهف أو في غرفة عرس زوجين افترشا بقعة من أرض الجنة تحت قدميهما وستطأها قدما الأم غداً وخطوات أسرة هانئة انبثقت من الجنة بعد غد.
________________________________
* تأليف هذا الكتاب عندما كان الاتجاه الشيوعي في ذروة نشاطه.
(1) بحار الأنوار، ج 43، ص 95.
الاكثر قراءة في مقبلون على الزواج
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة