معبد إدفو وقيمته الأثرية
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 183 ــ 186
2025-10-13
354
لا نزاع في أن معظم المعابد الفرعونية المنتشرة في أنحاء البلاد المصرية من الإسكندرية حتى الشلال الرابع قد أصبح معظمها الآن إما مشوَّهًا أو خرِبًا باستثناء معبد أبو سمبل الذي يُعدُّ درَّة في جبين الدهر الذي قاومه؛ ولا غرابة في ذلك فإنه قد نُحِت في الصخر الأصم.
والواقع أن معظم المعابد المصرية المبنية بالحجر قد أُعيد بناؤها، أو أضيف إليها أجزاء في العصور الفرعونية البحتة، وفي العهدين البطلمي والروماني، غير أن يد التخريب — كما قلنا — قد امتدت إليها جميعًا على كرِّ الأزمان، وتقلُّب الدهور، حتى أصبحت غير متناسقة في أجزائها الباقية، ومن ثَم أصبح من الصعب على الزائر الحديث العادي أن يتعرف على تصميمها الأصلي، أو أن يكوِّن لنفسه فكرة سليمة واضحة عن طبيعتها وحالتها التي كانت عليها عند إقامتها، يُضاف إلى ذلك أنه أصبح من العسير جدًّا على الفرد العادي أن يتصور كيف كانت تؤدَّى في هذه المعابد العبادات، وتُقام فيها الصلوات على حسب الطرق المصرية القديمة، والواقع أن حسن الحظ قد حفظ لنا معبدًا يكاد يكون كاملًا من كل الوجوه، ويسدُّ كل نقص تقريبًا نلحظه في المعابد الأخرى، وأعني به معبد «إدفو» الذي يُعدُّ أحدث المعابد المصرية التي أقيمت في أرض الكنانة على الطراز الفرعوني الأصيل.
وليس لدينا أي شك في أن كلًّا من معبد «إدفو» ومعبد «دندرة» يختلف عن معابد العصر الفرعوني بأنه محفوظ بدرجة كبيرة نسبيًّا، كما يمتاز بطبيعة نقوشه الكثيرة والرسوم والمناظر التي تغطي جدرانه، وتمتاز المتون التي على جدران هذين المعبدين بأنها مطوَّلة، وتغطي جدران حجراتهما تمامًا، ومما يلفت النظر أنه قد ذُكِر على جدران كل حجرة أو قاعة أو دهليز من مباني هذين المعبدين الاسم المميز لها بصورة واضحة، كما ذُكِر الغرض الذي خصصت له هذه الحجرة أو القاعة، يضاف إلى ذلك أنه قد نُقِش، فضلًا عن ذلك، ما في هذه الحجرات أو القاعات من زينة كما حُدِّدت كذلك مساحتها.
وتحتوي كل حجرة أو قاعة في العادة على متون إضافية نُقِشت على جدرانها كُرِّر فيها ذكر اسمها، هذا فضلًا عن أن هذه المتون تقدم لنا معلومات وافية عن الغرض الذي من أجلها أُقِيمت، وقد عُنِي الكهنة بوضع إيضاحات عدة حتى للزائر المعتاد الذي يعرف أسرار اللغة المصرية القديمة؛ من ذلك أن اسم كل باب قد نُقِش عليه، كما نقشت كذلك على كل باب متونٌ توضح في أي وقت كان يُستَعمل، ولأي غرض أُقِيم، ولدينا فضلًا عن ذلك سلسلة متون تشرح لنا الأعياد التي كان يُحفَل بها في المعبد في كل سنة، كما تذكر لنا تاريخ الأحفال الخاصة بكل عيد، وعدد أيام الاحتفال به، وأحيانًا تقدم لنا هذه النقوش ملخصًا عن الأحفال التي كانت تُقام في المعبد.
وهذا الكنز العظيم من الوثائق الموضحة والمفسرة في أغلب الأحيان بمناظر محفوظة لنا حتى الآن حفظًا جيدًا إلى حدٍّ بعيد نسبيًّا إذا ما قرنت بمتون معابد أخرى؛ يساعدنا على أن نصف ماهية كل جزء من أجزاء المعبد من أصغر مقصورة فيه إلى أكبر قاعة أو ردهة، وكذلك ما فيه من نافورات المياه إلى البوابات والمسلات الشاهقة (1).
وليس من العسير علينا بما لدينا من نقوش أن نعيد تأثيث بعض حجرات المعبد، وإعدادها كما كانت عليه، كما أنه من المستطاع أن نحدد كيف وأين كانت تُجهَّز القرابين التي كانت تقدَّم في المعبد في الأيام العادية وفي الأعياد، كما يمكن كذلك تحديد الأبواب التي كان يدخل منها الناس والكهنة إلى المعبد، وكذلك يمكن تعقُّب ترتيب الشعائر والطرق التي كانت تسير فيها المواكب العظيمة الإلهية، وأخيرًا يمكن معرفة ماذا كان مصير القرابين الضخمة التي كانت تُقدَّم في المعبد بعد انتهاء إقامة الشعائر والاحتفال بالأعياد.
هذا، ولا يفوتنا أن نذكر هنا حقيقةً هامةً لا بد من الإدلاء بها في هذا البحث، وهي أن هذه المتون المنقوشة على جدران هذه المعابد كانت بوجه عام — على الرغم من حداثة عهدها — ترتكز على تقاليد قديمة مأخوذة عنها، كما هي عادة المصري بالتمسك بالقديم، وبخاصة في المسائل الدينية، يُضاف إلى ذلك أن المتون التي على جدران هذه المعابد ترجع من جهة مفرداتها في غالبها إلى العهود الأولى من الحضارة المصرية القديمة، ومن أجل ذلك فإنه لو اعتُني بفحصها فحصًا علميًّا دقيقًا لمدتنا بمعلومات أصيلة منقطعة القرين عن الشعائر الدينية المصرية التي كانت في معابد الفراعنة، وهي التي لم نعثر عليها فيما بقي لنا من النقوش التي أبقت عليها عوادي الدهر في معابد الدول القديمة، والوسطى، والحديثة، والعصر المتأخر من تاريخ أرض الكنانة.
وعلى أية حال فإن معبد «إدفو» الذي وضع أساسه «بطليموس الثالث» الذي كان على ما يظهر مهتمًّا بالمسائل الدينية المصرية إلى حدٍّ بعيد، يحتل مكانة فريدة في بابها بين كل المعابد المصرية القائمة في وادي النيل حتى يومنا هذا، ولا غرابة في ذلك فهو المعبد الوحيد الذي ظلَّ محفوظًا لنا نسبيًّا، وإن كانت بعض أجزائه المكملة لا تزال مدفونة تحت مباني بلدة «إدفو» الحالية تنتظر من يميط اللِّثام عنها حتى يصبح بعد ذلك معبد «إدفو» أعظم معبد في العالم المصري من حيث الروعة والجلال والكمال والفائدة العلمية.
أُقِيم معبد «إدفو» في مدة قصيرة من الزمن إذا ما قُرِن بغيره من المعابد الأخرى، ويظهر لنا الآن على ما هو عليه وحدة كاملة؛ إذ لم تمتد إليه يد التخريب بصورة بينة في خلال الألفي سنة التي مضت على اليوم الذي وضع فيه أساسه.
والمعبد الأصلي لا يزال سليمًا؛ فسقفه لم يُمَسَّ بسوء، وأعمدته لا تزال قائمة في أماكنها، أما المسلتان اللتان كانتا منصوبتين أمامه عند المدخل كما هي العادة في كل المعابد المصرية الكبيرة، وكذلك بعض المقصورات التي كانت مقامة على سطحه فإنها اختفت، في حين أن البحيرة المقدسة التي كانت تُحفَر في كل معبد، وكذلك مخازن المعبد ومذابحه والمباني الأخرى الخاصة بالإدارة، فإن جيمع ذلك — كما نوَّهنا من قبل — لا يزال مدفونًا تمامًا تحت منازل إدفو الحديثة الواقعة شرقي المعبد.
ومن كل ما سبق سرده نفهم أن معبد «إدفو» يمكن أن يقدم لنا أحسن فرصة ممكنة حتى الآن لدرس المعبد المصري كما كان في العهد الفرعوني من كل الوجوه، وكذلك يمكن للباحث بوساطته درس النشاط الديني المنوع الذي كان يُجرَى بين جدرانه يوميًّا طوال العام.
ولما كان عهد البطالمة يعدُّ في نظر الكهنة المصريين عهدًا فرعونيًّا خالصًا، وأن الاستعمار الإغريقي لم يكن له أي تأثير على عبادتهم، بل على العكس قد أثرت المعتقدات المصرية في العقائد الإغريقية، فإن ما نقشه هؤلاء الكهنة على جدران هذا المعبد وغيره من معابد القطر في عصر البطالمة يُعدُّ صورةً طبق الأصل من الشعائر والمعتقدات المصرية التي تضرب بأعراقها إلى أقدم العهود الفرعونية؛ ومن أجل ذلك يجدر بنا أن نقدم موجزًا مختصرًا جدًّا عن العبادات اليومية التي كانت تُقام فيه، ونصف بعض الأعياد السنوية التي كان يُحتَفل بها في هذا المكان المقدس، والمقصود هنا وصف الشعائر الدينية بكل اختصار، كما جاء ذكرها في النقوش على جدران هذا المعبد، وقد أفاض في وصفها الأثري «الليو» في كتابه «العبادة» كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ومن أراد المزيد فليرجع إلى هذا السِّفر الجليل(2) الذي اعتمدنا عليه كثيرًا في بحث موضوعنا هذا.
.......................................................
1- Chronipue d’Egypte, No. 57, (January 1954). PP. 29–45.
2- Alliot, Le culte d’Horus au temps des Ptolémées, 2 Tomes.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة