ميكانيكا الكم وتحديات التصور الكلاسيكي: من مبدأ اللايقين إلى ازدواجية الموجة والجسيم
المؤلف:
فرينر هايزنبرج
المصدر:
الفيزياء والفلسفة ـ ثورة في العلم الحديث
الجزء والصفحة:
ص19
2025-10-11
240
نشأت ميكانيكا الكم منذ أكثر من ثمانين عاما، وأصبحت جزءا جوهريا وأساسيا لا غنى عنه من ذخيرة عالم الفيزياء النظرية. فضلا عن الكم الهائل من الكتب الدراسية التي تأخذ على عاتقها تدريس هذه النظرية بطرق قياسية، وتوضح راحة كيفية توظيف منهاهجها تعزز مبادئ ميكانيكا الكم عمل الليزر والأجهزة الإلكترونية، كما نجدها اليوم في مجالات لم تكن مألوفة لنا مثل مشغل أقراص الفيديو الرقمية (DVD) و آلات الدفع النقدي في الأسواق. كما إن الطبيب الذي يجري فحوصات لأعضاء داخلية لمريض ما، للكشف عن الخلايا الحميدة والخبيثة، والتي تتم عبر تصوير الرنين المغناطيسي، تعتمد على خاصية الكم للنواة الذرية. كما قدمت التفسيرات الميكانيكية للكم تنبؤات دقيقة فيما يتعلق بخصائص الجسيم الأولي التي تتوافق مع القياسات التجريبية ذات الدقة العالية. بعبارة أخرى، تم اختبار هذه النظرية بطريقة دقيقة، بحيث يمكن الاعتماد عليها على نحو نافع ومفيد للغاية. وعلى الرغم من كل هذه الألفة التي تتمتع بها هذه النظرية، بالنسبة لمعظم علماء الفيزياء؛ فإنه إذا مارسنا الضغط على هؤلاء، سيعترفون أن ثمة شيئا غريبا وغامضا لا يمكن استيعابه إلى حد بعيد في ميكانيكا الكم. فالتشغيل الداخلي للآلة يبقى محيرا يبقى أن نعرف أن هذه المقالات الواردة في هذا المجلد، مستمدة من محاضرات جيفورد التي ألقاها فيرنر هايزنبرج في جامعة أندرو بإسكتلاندا منذ نصف قرن مضى، وهي تدور حول القضايا نفسها التي ما زالت تمثل لغزا محيرا حتى يومنا هذا. لكن يظل الحل الذي يقدمه هايزنبرج، أو بالأحرى الاتجاه الفلسفي الذي ينصح به مفيذا للبعض، ومثيرا للجدل للبعض الآخر، وموضع تسليم من قبل مريديه.
لكي نفهم السبب الذي يجعل ميكانيكا الكم تثير مثل هذه الحيرة، علينا أن ننشغل بأصولها على نحو مختصر فقد قدم هايزنبرج في هذه القصة استبصارين حاسمين. الأول، وهو ما بات يعرف باسم نظرية الكم القديمة التي يرجع منشأها إلى نیلز بور Niels Bohr عام ، حيث تم تصوير الذرات باعتبارها أنظمة شمسية صغيرة. تدور الإلكترونات بدقة حول نواة صغيرة وضخمة، وفقا لمبادئ الميكانيكا النيوتونية. جاء مبدأ الكم ببعض القيود الإضافية على هذا النموذج، حيث حدد مدارات بعينها والتي كانت في حقيقة الأمر، مجازة خارج أي نطاق مطلق ممكن. عندما يقفز الإلكترون بين المدارات فإن الذرة إما أن تستوعب كما من الطاقة الكهرومغناطيسية، وإما أن ينتج عنها هذا الكم بحيث نجد تناظرا في الطاقة المختلفة بين المدارات - وهو ما عرف في وقت لاحق بالفوتون لقد تم تفسير هذه الآلية المتعلقة بالسبب الذي يجعل الذرات، كما كان معروفا منذ عقود، لديها هذه البصمات الطيفية المميزة التي ينبعث عنها الضوء، وتمتصه عند ترددات معينة ثابتة. تطورت نظرية الكم القديمة في أوائل العشرينيات بفضل جهود أرنولد سومرفيلد Arnold Sommerfeld في ميونخ، حيث أصبحت هذه النظرية أكثر تفاصيلاً وصعوبة، وفي الوقت ذاته فشلت في تفسير العديد من الأطياف الذرية. لقد بدا من الممكن أن تنتقل الإلكترونات في الذرات المتحركة، وفقا لقواعد تختلف جوهريا عن الميكانيكا الكلاسيكية. كان فيرنر هايزنبرج طالبا في المرحلة الجامعية الأولي مع سومر فيلد في ميونخ، جاء بنفسه ليتعرف على هذه الأزمة، حيث قدم فــي عـام 1925 حــلا غريبا ومذهلا ، يقول : " إن الفكرة المطروحة بذاتها هي أننا لا الإلكترونات، بل على أنها معادلات لترددات وسعات مفكوك فورييه Fourier Expansion".هذه العبارة المتواضعة بها قليل من التضخيم ففكرة هايزنبرج، التي يشير إليها تبدو واضحة له وحده تماما كما عند أينشتين في النسبية المعدلة عندما أعاد تعريف ما نعنيه بالمكان والزمان لهذا أجبر هايزنبرج في عام 1925 على إعادة
تقييم ممائل لمفاهيم واضحة بذاتها حتى الآن مثل مفهومي الموضع والسرعة. إن متسلسلة فورييه تمثل الآلة الرياضية القياسية التي يمكن تمثلها، كما هو الحال في تذبذب وتر الكمان على أنها مجموعة ملائمة من النغمات الأولية للأوتار. يتم التعبير لحظيا في مثل هذا التمثيل عن موضع وسرعة أي نقطة على طول الوتر من حيث مجموع أوزان الأوتار الأساسية والنغمات التوافقية. كــان العمــل الفـذ لهايزنبرج تطبيق نفس هذا المنطق على حركة الإلكترونات في الذرات. فبدلاً من التفكير في موضع الإلكترون وسرعته باعتبارهما سمات أولية وواضحة، وضع تعبيرات تمثل الموضع والسرعة بطريق غير مباشر، باعتبارها مركبات من ترددات أولية للذرة، وهذه هي سمات الترددات الطيفية. كان الإقدام على هذا الشيء يبدو غريبا لأول . . وهلة، فقد استبدل تعريفاته الجديدة عن الموضع والسرعة بقوانين ميكانيكية قياسية وهذا ما جعل هايزنبرج يستخلص اكتشافا مذهلا جديدا تماما، هو قانون التكميم. حيث تقدم معادلاته إجابات معقولة ، فقط إذا ما تم أخذ طاقة الإلكترون على أن لها مجموعة محددة من القيم. كان هايزنبرج من التواضع الجم أن يقول بشكل مباشر إنه اكتشف في هذه المقالات أصل ميكانيكا الكم. ومما هو جدير بالملاحظة، كما أثبت فيما بعد كل من ديراك Paul Dirac وباسكوال جوردان Pascual Jorda أن قوانين الميكانيكا الكلاسيكية التي تم إجازتها دون تغيير تماما كانت كمات - وكانت العناصر الأساسية للميكانيكا مثل موضع الجسم والسرعة - على ما يبدو، محكوم بتلك القوانين من هنا تبدأ المشكلة، فقد ذهب هايزنبرج بعـــد عامين من احتفائه بمبدأ اللايقين، في إثبات أن الموضع والسرعة ليسا واضحين المعالم في ميكانيكا الكم، في حين يتمتعان بمعنى جلي في الميكانيكا الكلاسيكية. فبدلا
من الخصائص الأساسية للجسيم والموضع والسرعة تصبح خصائص ثانوية يستنبط منها المجرب نظاما كميا ما من خلال نظام قياس مناسب هذا القياس ليس عملا بسيطا كما كان عليه من قبل. لذا من الأفضل لنا أن نقيس موضع الجسيم، لكن نادرا ما يمكنك معرفة سرعته والعكس صحيح كثيرا ما يتم التعبير عن مبدأ اللايقين بهذه ذلك فإن العبارة الأكثر دقة أن جسيمات الكم ليس لديها خصائص ومع جوهرية تتطابق بدقة مع الموضع والسرعة، وأن قوى القياس لنظام الكم تدفع بقيم
الألفاظ،
لهذه الكميات بالطريقة التي يتوقف عليها القياس الذي تم إنجازه.
المفهوم .
حتى لو اعتقدنا، في حقيقة الأمر، أنه قد تم خداعنا بمفهوم جسيم الكم، لأن الذي يسمى "جسيم" له دلالات لم تعد تنطبق عليه تماما. بعد صياغة هايزنبرج لميكانيكا الكم بأشهر قليلة، جاء إروين شرودنجر Erwin Schrödinger بمعادلة تحمل اسمه، والتي تقدم صورة مختلفة. فالإلكترون في صورة شرودنجر ينتمي إلى الذرة، حيث يأخذ شكل موجة منفصلة - موجة ثابتة - موجة تمثل احتمالية تقريبا كما نقول إنه تم العثور على الإكترون في هذا المكان أو حول النواة.
هل الإلكترون موجة أم جسيم؟ الإجابة كما يلح هايزنبرج في هذه المقالات بشدة، هي أن كلمات من قبيل "موجة" و"جسيم"، قد تم صياغتهما في الميكانيكا الكلاسيكية من خلال اشتقاق هاتين الكلمتين من تجربتنا اليومية، وعبر تعريف يقتصر على تبادلهما. بيد أن الموجة لا يمكن أن تكون جسيم، والجسيم لا يمكن أن يكون موجة. إن موضوع الكم، في حد ذاته، ليس هذا الشيء أو ذلك، فإذا ما قررت قياس خاصية موجة مثل طول الموجة في تجربة الحيود أو التداخل)؛ فإن الشيء الذي تلاحظه سيبدو مثل الموجة، وكذلك عند قياس خاصية الجــ
الموضع والسرعة) فإن ما نلاحظه يشبه سلوك الجسيم من جهة أخرى.
الاكثر قراءة في ميكانيكا الكم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة