جماعات المحترفين والطوائف الاجتماعية
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 157 ــ 160
2025-10-11
293
والواقع أننا إذا استثنينا السكان الذين كانوا يعملون مباشرة في أرض الضَّيْعة، أو في بيت «زينون» فإن كل السكان تقريبًا الذين كانوا في الضواحي قد ارتبطوا بصورة خاصة مع ضيعة «أبولونيوس» العظيمة، ومع ذلك كانت هناك درجات مختلفة من حيث الاستقلال، وكذلك درجات مختلفة في الاستغلال الجزئي الاقتصادي الذي كانوا يتمتعون به؛ فنجد أن أسفل طبقة في المجتمع أي الكتل البشرية المجهولة، وهم الذين يسمون «اللاوي»، وهذه الطبقة من الشعب — التي تعتبر أحط طائفة — ليست متكافئة من حيث السلالة، وإن كان المصريون يؤلفون منها السواد الأعظم، ومن هذه الطبقة تجند عمال اليومية، وبوجه خاص صغار المؤاجَرين الذين كانوا يزرعون أراضي الضَّيْعة جماعات في حين أن أصحاب اليسار كانوا يزرعون الأرض كل على حدة.
هذا وقد تحدثنا عن هذه الطبقة في غير هذا المكان (راجع مصر القديمة الجزء 14). كما تحدثنا كذلك عن الأفراد الذين كانوا يقومون بتربية الحيوان والعمال والصيادين، وقد صادفنا هناك عددًا عظيمًا من المصريين الذين كانوا يؤجرون حمامات، وحوانيت جعة، أو تجار تجزئة. أما في أعمال الري والبناء فإن الإغريق هم الذين كانوا يلعبون الدور الموجه. هذا، ونجد اليد العاملة الضرورية بسهولة منذ قرون في مصر، وذلك لإقامة السدود، وحفر الترع، ويرجع الفضل في ذلك إلى نظام السُّخْرة الذي كان سائدًا، وقد كان الموقف مماثلًا فيما يخص أنواع أعمال البناء الأخرى، فكان أصحاب الحرف ذوو الشهرة، مثل نحاتي الأحجار، يتقاضون أجورًا عالية جدًّا، وعلى العكس كان ضاربو الطوب يتقاضون أجورًا ضئيلة جدًّا على عملهم.
وأهم حرفة كانت منتشرة في مصر هي صناعة الفخار، وكانت صناعة النسيج منظمة على أساس مبادئ تختلف قليلًا عن صناعة الفخار. فقد كان «أبولونيوس» يملك مصانعه في ضيعته بمنف في حين نجد في فيلادلفيا عددًا من الناس — وبخاصة من الإغريق — يضعون نسيجهم في البيت، وهذه الحرفة كانت تزاولها كل الأسر.
وهناك أصحاب حرف آخرون لم يظهروا في سجلات «زينون» إلا بصفة عارضة، وكان صغار ملاك القوارب الذين يؤجِّرون خدماتهم لأبولونيوس يشتغلون بصيد السمك، وأحيانًا كان يُفرَض هذا النوع من الخدمات على سكان الضواحي بوصفه سُخْرة، وكذلك في أمور الملاحة في النيل نجد أن المصريين هم الذين كانوا متفوقين حتى إنهم كانوا يشغلون وظائف هامة جدًّا في هذه الحرفة. أما الإغريق فنجدهم يعملون في أسطول الوزير في معظم الأحيان.
وكثير من الجنود أصحاب الأراضي كانوا يتسلمون أراضيهم في الأماكن القريبة جدًّا من فيلادلفيا، أو في مقاطعة «منف». أما المسائل المرتبطة بهذه الفئة فإنها كانت تؤلف جزءًا من مجموع مسألة أراضي الجند في مصر، وقد تحدثنا عن ذلك في غير هذا المكان.
ويُلحَظ أن الموظفين الذين يظهرون في سجلات «زينون» لا يحتلون فيها — في معظم الأحيان — إلا مكانًا من الدرجة الثانية، وذلك لأن الغالبية العظمى بينهم ليست في نظرنا إلا مجرد وظائف لا الرجال الأحياء الذين يشغلونها، وعلى ذلك لا يمكننا أن نذكر عنها شيئًا له قيمة من حيث مكانتهم في المجتمع.
أما الكهنة فهم بصفة عامة من المصريين جميعًا، وتحدثنا عنهم في غير هذا المكان أيضًا (راجع مصر القديمة الجزء 14).
ومن الغريب أن ممثلي أعلى طبقة في المجتمع لا يظهرون — إذا استثنينا بعض حالات شاذة — إلا بصفة عابرة، فمن ضمن هؤلاء الشواذ الوزير «أبولونيوس»، وأقرب الناس في بطانته، وكذلك أعضاء البلاط الملكي الذين كانوا يختلفون على الفيوم لأغراض مختلفة … وغيرهم، وهم على أية حال قليلون جدًّا.
وكانت هناك عوامل كثيرة تعمل في الحياة الاجتماعية لمصلحة التدخل المتبادل، وامتزاج القوميات سويًّا، ويجب أن نقتبس من ذلك قبل كل شيء الحياة اليومية، والعمل، والحياة الأسرية؛ حيث نصادف الزواج المختلط منذ زمن مبكر في هذه الفترة.
ومن جهة أخرى نصادف عوامل أخرى في كل خطوة تقريبًا تعترض السكان الأصليين مع الوافدين الجدد أي الفاتحين، وهذه العوامل بوجه خاص هي: اللغة والثقافة والعادات والتقاليد، أضف إلى ذلك حقيقة أن كل السكان المصريين كانوا عيالًا على الإغريق المستعمرين سواء كان ذلك على الملك أو الموظف أو الفرد العادي، وإذا استثنينا بعض شواذ من الإغريق الذين يظهرون في سجلات «زينون» فإنهم بوجه عام أكثر ثراء، وأعظم قوة، وذلك لأن المصريين كانوا يقومون بالأعمال اليدوية، ولا يشغلون إلا الأماكن القليلة الأهمية من حيث الوظائف.
والواقع أن إغريق الفيوم — على حسب ما جاء في سجلات «زينون» — هم زينون نفسه وبطانته المقربة إليه جدًّا، ومن أجل ذلك دُهش الأستاذ «روستوفتزف» عندما لمس حقيقة أن الإنسان يصادف هناك عددًا عظيمًا جدًّا من أهالي «كاريا» أو من المدن المجاورة لها في آسيا الصغرى، فكانوا يؤلفون على حدِّ قول القائل وكرًا كاريًّا، وهؤلاء كانوا في بادئ الأمر على علاقة وثيقة مع وطنهم القديم، ومع ذلك فإنه بمرور الزمن ضعفت عُرَى هذه الروابط إلى أن أصبح الاتصال مع الوطن الأصلي والأهل يقل شيئًا فشيئًا، والواقع أن الوافدين الجدد أخذوا يتأقلمون بسهولة، ويتعودون على الأحوال السياسية المختلفة جدًّا عن العادات التي تُعتَبر من خصائص الهيلانيين، ومع ذلك فإنهم ليسوا إغريقَ العصر الكلاسيكي؛ إذ الواقع أنهم ليسوا إغريقًا إلا بروحهم، وثقافتهم، وهذا إلى أن النسبة المئوية من الدم الإغريقي الذي يجري في عروقهم قليلة جدًّا؛ ولم تكن الأحداث السياسية تهم «زينون» أو الإغريق الذين التفُّوا حوله؛ إذ إن عاطفة الوطنية في هؤلاء الأجانب قد حلَّ محلها عاطفة الولاء نحو الملك الذي كان يسمح لهم أن يشتركوا في أبهته وثرائه، وذلك بالصلات الشخصية التي كانت تربطهم مع «أبولونيوس» أو مع آخر على شرط أن يكون أكثر قوةً منهم، وأخيرًا بما كان لديهم من ضمير فخور بانتسابهم لأسرة الهيلانيين العظيمة، وإنهم يُعدُّون داخل الإطار الضيق لَجماعة صغيرة من الناس ارتبطوا بأصلهم المشترك — وأحيانًا بقرابتهم — وبنفس التقاليد، والتعليم، والثقافة، والمصالح المشتركة، وبمكانة مشابهة لمكانتهم في المجتمع.
هذا، ونجد أكبر مظهر لتماسك هذه الجماعة — على ما يُظَن — في رسائل التوصية التي نجدها كثيرًا جدًّا في سجلات «زينون» وأحيانًا يمكننا أن نلحظ كذلك مظاهر القبول والمحبة المتبادلين بين أعضاء الجالية الإغريقية، أما عن مسألة دخل «زينون» الشخصي ودخل بطانته فقد تحدثنا عنه في غير هذا المكان.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة