إن تاريخ وفاة الفرعون «رعمسيس الثالث»، ثم تولي ابنه «رعمسيس الرابع» مكانه على عرش الكنانة له أهمية عظيمة من الوجهتين؛ التاريخية والدينية في عهد الأسرة العشرين؛ غير أن هذا الموضوع قد ظل بكل أسف حتى زمن قريب ولا يزال يحوطه الإبهام والغموض مما أدى إلى بحوث طويلة منوعة لإزالة هذا الإبهام، وجلاء ذلك الغموض (راجع Struve V, Ort der Herkunft und zweck des. Grossen Papyrus Harris, Aegyptus, 7 (1926. p 3–40); Meyer, Ed. Geschechte des Altertums II, 1,2 (1928) P. 599–607; Borchardt, L. zwei Kronungstage Aus 20 Sten Dynastry. A. Z. 70 p. 102–103; Cerny, J. Datum des Todes Ramses III und der Thronbesteigung Ramses IV, A. Z, 72 (1936) p. 109–118, Borchardt. L: Der Kronung Ramses V., A. Z, 73 p. 60–66; Borchardt: Wo wurde der grosse Papyrus Harris gefunden Und Wer ihn Zusammerstellen lassen? A. Z, 73 (1937) p. 114–117; etc.
وقد كتب أخيرًا في هذا الصدد الأستاذ «شادل» مقالًا ممتعًا؛ فحص فيه كل الأبحاث السابقة فوافق على بعض ما جاء فيها، وناقض بعضها الآخر بما لديه من حجج وبراهين. ومع ذلك لم يصل إلى نتيجة حاسمة، وقد أوردنا بعض آراء هؤلاء الكتاب في هذا الموضوع في الجزء السابق من هذه المجموعة (راجع: مصر القديمة ج7).
ولأهمية هذا الموضوع سنلخص هنا ما كتبه المؤرخون، وبخاصة ما جاء في مقال الأستاذ «شادل»، وهو آخر من بحث هذا الموضوع (راجع A. Z. 74. P. 96).
والواقع أن هذا الموضوع بأكمله يُمِيط اللثام عنه ما جاء في كثير من الوثائق، التي وصلت إلينا مكتوبة على قطع «الإستراكا» العديدة التي عثر عليها في حفائر قامت حديثًا في «دير المدينة» «بطيبة الغربية». وما جاء بصدده في ورقة «هاريس» الكبرى التي تحدثنا عنها بالتفصيل في الجزء السابق؛ وكذلك ما جاء في ورقة «تورين» الخاصة بالمؤامرة التي قد دبرت لاغتيال «رعمسيس الثالث»؛ وقد فصلنا القول فيها كذلك في الجزء السالف (راجع: مصر القديمة ج7).
وأول موضوع يجب بحثه هنا هو التاريخ الذي بدأ فيه «رعمسيس الرابع» حكم البلاد. وقد أثبت أولًا الأستاذ «شرني» — على حسب ما جاء على «الإستراكون» رقم 39، التي عثر عليها في «دير المدينة»، وكذلك ما جاء على قطعة بردي محفوظة بمتحف «تورين» (رقم 1949 + 1946) — أن اليوم السادس عشر، من الشهر الحادي عشر، من السنة الثانية والثلاثين، هي السنة التي تغير فيها الحكم بوفاة «رعمسيس الثالث»، وتولى بعده مباشرة خلفه «رعمسيس الرابع «.
وقد أُعلن ذلك رسميًّا في اليوم السالف الذكر بين عمال الجبانة في «طيبة الغربية». وهذا التاريخ يمكن التسليم بصحته قطعًا، إذ ليس هناك ما ينقضه حتى الآن.
غير أن لدينا بعض الشك والإبهام عن المدة التي كانت بين يوم وفاة الفرعون «رعمسيس الثالث»، واليوم الذي بدأ فيه «رعمسيس الرابع» حكمه.
وقد ذكر لنا في هذا الصدد الأستاذ «شرني» أنه عثر كذلك في «دير المدينة» من نفس الحفائر على «إستراكون» أخرى رقم 44، جاء فيها: أن اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر، يبتدئ بالسنة الثانية من حكم ملك من ملوك الأسرة العشرين، وفي الوقت نفسه كان هذا اليوم هو وقت «ظهوره» (أي: الفرعون) الذي احتفل فيه (راجع Cerny A. Z., 72 p. 112) بتوليته.
وهنا يطيب للمرء أن يسأل إلى أي ملك يشير هذا التاريخ الأخير؟ فيقول الأستاذ «شرني»: إنه الملك «رعمسيس الرابع»، ويستند في قوله هذا على «إستراكون» أخرى رقم 45 تشير إلى ذلك، وقد كُتبت في وقت واحد مع «الإستراكون» رقم 44 — على ما يظهر — بيد رئيس عمال من الذين كانوا يعملون بالتناوب في جبانة «طيبة». وعلى ذلك فإنه من الجائز جدًّا أن «الإستراكون» رقم 44 هي كذلك من عهد «رعمسيس الرابع «.
وعلى العكس من ذلك يظن الأثري «بورخارت» أن «رعمسيس الخامس» قد توج في هذا اليوم، وقد عزز هذا الظن بأن هذا اليوم على حسب رأيه هو: هو يوم تمام القمر، وفي رأيه أن يوم التمام هذا يكون دائمًا فيه تتويج الفرعون (راجع A. Z. 73. p 60–66).
ومن هنا استنبط أن «الإستراكون» رقم 45 لا بد أن تكون من عهد «رعمسيس الخامس» وأن الملك الذي جاء ذكره فيها هو «رعمسيس الرابع»، ثم قال: إن تناوب رؤساء العمال قد حدث في مدة أطول من السابقة، وقد وصل إلى أنه في السنة الأولى من حكم «رعمسيس الرابع»، وكذلك من حكم «رعمسيس الخامس» كان رئيس العمال يعمل في نفس اليومين، ومن أجل ذلك خرج بالنتيجة التالية: وهي أن تناوب رئيس العمال لا يمكن أن يكون برهانًا قاطعًا لكلا الرأيين، ولا بد أن يكون رأي الأستاذ «شرني» غير ممكن.
ومن جهة أخرى فإن الرأي الذي أدلى به «بورخارت»، وهو القائل: بأن «الإستراكون» رقم 45 تحدثنا عن تدنيس حصل لقبر «رعمسيس الرابع» المتوفى، فتكون من عهد «رعمسيس الخامس». وقد نقض هذا الرأي «شرني» بقوله: إن ترجمة «بورخارت» لهذا النص خاطئة.
والآن يجب أن نبحث فيما إذا كان يوجد لدينا مصدر تاريخي يقطع بأن تاريخ اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر من سنة تغيير الملك لا يتفق مع تاريخ تتويج أحد هذين الفرعونين اللذين نحن بصددهما، وهما «رعمسيس الرابع» و«رعمسيس الخامس». وعلى ذلك يكون من الجائز أن الملك الآخر قد توج في هذا اليوم أو على الأقل بدأ حكمه في هذا التاريخ.
والواقع أن لدينا مصدرًا من هذا النوع، وهو معروف منذ زمن بعيد، غير أنه لم يفحص حتى الآن على ضوء الحقائق الصحيحة، وهذا المصدر هو «إستراكون» من جبانة «طيبة» محفوظة الآن بمتحف «القاهرة» (راجع Daressy, Ostraca Cat. Gen. No. 25290).
وقد جاء عليها: «إنه في السنة السادسة من حكم الفرعون؛ اليوم السادس عشر من الشهر الحادي عشر، زار الوزير «نفررنبت» جبانة «طيبة»؛ ليتفقد أحوال العمال فيها.» والسنة السادسة هذه لا يمكن إلا أن تكون للفرعون «رعمسيس الرابع»؛ وذلك لأن الوزير «نفررنبت» كان يشغل هذا المنصب العالي في عهد هذا الفرعون، على حين أن «رعمسيس الخامس» لم يحكم إلا أربع سنوات. وعلى ذلك فإن مدة حكم ست السنوات لا علاقة لها بهذا الفرعون، ولكنا نعلم من جهة أخرى أن «رعمسيس الرابع» لم يحكم أكثر من ست سنوات، فلا بد أن خلفه «رعمسيس الخامس» قد بدأ حكمه في هذه السنة السادسة السالفة الذكر. ولا يمكن أن يكون اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر هو يوم بداية حكمه — أي: يوم ظهوره وبداية السنة الأولى من حكمه (1) — في مدينة الأموات دون أن يكون معروفًا لدينا أي تغيير سابق في عرش الملك، فلا بد إذن أن تكون هذه «الإستراكون» مؤرخة بالسنة الأولى، إذا كنا نعلم أنه في اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر، قد حدث التغيير في سنة الحكم. ومن جهة أخرى فإنه لا يمكن أن يتصور الإنسان بصفة جدية أن الملك الجديد «رعمسيس الخامس» قد بدأ حكمه، أو بتعبير أدق قد احتفل بيوم «ظهوره» دون أن يكون أكبر موظف في المملكة، وهو وزيره «نفررنبت» قد وصل إليه علم بذلك، وهذا الوضع على ذلك لا يمكن أن يكون حقيقة تاريخية.
ومن الضروري على أية حال أن نسأل عن معنى كلمة «ظهور» — أي: ظهور الملك — في الأصل؟ وأي يوم في السنة يتفق مع سنة تغيير الحكم كما جاء في «الإستراكون» رقم 44. والواقع أن السنة الأولى من حكم أي فرعون جديد كانت تبتدئ بيوم «الظهور» هذا، وقد اعترف كل من الأستاذ «شرني» والأثري «بورخارت» أن هذا الظهور للفرعون يكون هو وتتويجه في يوم واحد. وكلمة «الظهور» في اللغة المصرية «خعي» تعني عندما تضاف إلى الفرعون أنه قد ارتقى العرش. فهذه الكلمة لا تعني تتويج الفرعون بل تعني بداية حكمه، وهذا «الظهور» الذي به يبتدئ حساب سِنِي حكم الفرعون هو بداية زمن حكمه، ويمكن تشبيهه بإعلان تولي الملك العرش. وهذا ما ذكره الأستاذ «زيته» في كتابه الخاص بتمثيلية «الرمسيوم». (راجع مصر القديمة ج3) إذ يقول: «إن الاحتفال بعيد التتويج يبتدئ في أماكن عدة من البلاد. وكانت هذه الأحفال تحدث قبل دفن الملك القديم، وقد كانت أيضًا موضوع التمثيلية التي كانت تمثل في هذه الآونة «.
ومن المهم إذن أن نعلم أن التتويج الخاص الذي كان يقام على هيئة رواية تمثيلية تمثل موت «أوزير» وتتويج ابنه «حور» بدلًا منه على عرش مصر يقع في المدة التي بين يومي ممات الفرعون ودفنه، لا بعد الدفن. وذلك يدلنا على الحادث الحاسم وهو أن تسلم الفرعون الجديد مقاليد الأمور كان يقع قبل انتهاء السبعين يومًا المخصصة للحداد على الفرعون المتوفى.
وكان ذلك الحادث في الواقع يُعد أول «ظهور» الفرعون، يضاف إلى ذلك أنه كان من المستحيل على أي ملك جديد أن يقضي سبعين يومًا بعد ممات سلفه دون أن يبتدئ سني حكمه، ويظهر في البلاد ملكًا فعليًّا. وليس لدينا ما يدعو إلى الشك في التحدث عن الاحتفال بعيد تتويج الملك، كما يتحدث عن «ظهوره» وكما يتحدث عن العيد الثلاثيني أو أي عيد آخر. ولكن «الظهور» الذي كان يبدأ به حساب سني الفرعون لم يكن هو عيد التتويج، بل هو بداية إعلان حكمه.
ولا يتفق هذا اليوم مع يوم ممات الفرعون؛ إذ كان «ظهوره» الأول إجراء حكوميًّا غاية في الأهمية، يجتمع من أجله عظماء الدولة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن بد من إخبار المصالح الحكومية المختلفة بتغير الجالس على العرش، كما كان من الضروري أن تؤرخ كل الوثائق، حكومية وغير حكومية — على نسق واحد — بالسنة الأولى من حكم هذا الملك الجديد. وذلك لا يتأتى بين عشية وضحاها بسبب صعوبة المواصلات، وبعد الشُّقَّة بين أطراف البلاد، وبخاصة في عهد الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين إذ كانت عاصمة الملك وقتئذ «قنتير» (بر رعمسيس) الواقعة في شمال الدلتا، في حين كان الوزير يسكن «طيبة» الجنوب، أي إن المسافة بين البلدين كانت تبلغ حوالي 830 كيلومترًا.
والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: كم من الوقت كان يلزم لجمع رؤساء رجال الحكومة والكهنة في مجلس البلاط. والواقع أن السعاة كان في مقدورهم أن ينقلوا الأخبار من عاصمة الملك «قنتير» إلى «طيبة» في أربعة أيام، كما كان في مقدور الوزير أن ينحدر في النهر من «طيبة» إلى «قنتير» في قارب سريع في بضعة أيام.
وعلى أية حال يجب أن يتصور الإنسان أنه كانت توجد في مصر في هذه الفترة — وبخاصة في عهد الدولة الحديثة، التي بلغت من المدنية شأوًا عظيمًا — طرق لتوصيل الأخبار الهامة بوساطة إشارات المشاعل، والدق على الطبول بحيث يمكن الوزير وهو في طيبة أن يعرف أخبار عاصمة الملك في يوم وليلة.
ومن أجل ذلك ينبغي للإنسان أن يسلم بأن أول «ظهور» للملك قد احتفل به بعد موت الفرعون بتسعة — أو عشرة — أيام، وهي المدة التي كان يمكن أن يجتمع فيها عظماء الدولة المبعثرون في أنحاء البلاد في عاصمة الملك. ومما سبق يمكن أن نستبعد الرأي القائل بأن «رعمسيس الخامس» أصبح ملكًا، وأنه احتفل في اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر بعيد «ظهوره». وبذلك يمكننا أن نؤكد تاريخيًّا تسلم «رعمسيس الرابع» في هذا اليوم مقاليد الحكم، كما أشار إلى ذلك من قبل الأستاذ «شرني«.
أما التاريخ الذي كان معروفًا حتى الآن بأنه هو بداية حكم «رعمسيس الرابع»، وأعني بذلك اليوم الرابع عشر من الشهر الأول من سني تغير الحكم — وهو التاريخ الذي جاء على «الإستراكون» المحفوظة بمتحف «تورين»، وهي التي دون عليها أنشودة مدح لهذا الفرعون، فيحتمل أن يكون إما يوم الفراغ من كتابة هذا المتن، أو اليوم الذي بدأ فيه أحد أعياد التتويج بعد انقضاء مدة الحداد وليس بيوم بداية حكم هذا الفرعون. وعلى ذلك يكون حساب «بورخارت» — الذي يؤكد فيه أن اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر هو يوم تتويج الملك «رعمسيس الخامس» — لا قيمة له على حسب الزعم القائل بأن يوم التمام هو اليوم الذي يحدث فيه تتويج؛ ولهذا لا يمكن الاعتماد عليه بوصفه تاريخًا مؤكدًا.
ويظهر أن كلام «بورخارت» القائل بأن التتويج لا بد أن يحدث في يوم اكتمال القمر مجرد نظرية لم يحققها الواقع من الأمثلة التي لدينا حتى الآن، وينبغي أن يظل في دائرة النظريات ما لم يؤيده متن مصري معروف يخبرنا أن تتويجًا معينًا قد حدث في يوم تمام معين من شهر بعينه. وبذلك يمكن أن نسميه تتويج الملك القمري.
حقًّا إن «بورخارت» بحسابه قد وجد أن كثيرًا من أعياد تتويج الملوك كان يقع في يوم اكتمال القمر، غير أن الأثري «إدجارتون» قد دحض كثيرًا من هذه التواريخ (راجع Edgerton W. F. On the Chronology of the Early 18th Dynasty, A. J. S. L, 53 (1937 p. 188–177).).
ومما سبق يمكن معارضة نظرية «بورخارت» هذه التي تحتم أن يكون تتويج الفرعون في يوم اكتمال القمر.
ويمكن أن نؤكد هنا أن «رعمسيس الرابع» قد بدأ يحكم في اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر، وأن تغيير العرش هذا قد أُعلن رسميًّا في اليوم السادس عشر من الشهر الحادي عشر في جبانة «طيبة» على لسان قائد الشرطة. وعلى ذلك فلا بد لنا من تفسير تاريخ ثالث جاء في ورقة «هاريس»، وهو اليوم السادس من الشهر الحادي عشر. فنحن نعرف أولًا أن الأستاذ «إرمان» قد برهن على أن هذا اليوم هو يوم وفاة «رعمسيس الثالث». وبذلك يكون هذا الفرعون قد ظهر في «ورقة هاريس» على أنه يحدثنا من العالم الآخر، ولا بد أن نسلم بذلك ما لم توجد لدينا براهين قاطعة تدحض هذا الرأي.
أما الاقتراحان اللذان عرضهما الأستاذ «شرني» الخاصان بهذا التاريخ، وهما؛ أولًا: أن اليوم السادس من الشهر الحادي عشر هو يوم قيام الثورة في القصر لاغتيال «رعمسيس الثالث»، أو ثانيًا: أنه اليوم الذي غير فيه تاريخ الورقة؛ فقول لا يعدو أن يكون مجرد محاولة لحل هذا الموضوع المعقد (راجع A. Z. 72 p. 144). وهو يعني بالرأي الأخير أن الورقة كانت مؤرخة باليوم السادس عشر وغيرت إلى اليوم السادس فقط. والآن نتساءل: ما موقع يوم وفاة «رعمسيس الثالث» من التاريخين الآخرين اللذين ذكرناهما هنا؟
وجوابًا على ذلك نقول: إنه في اليوم السادس من الشهر الحادي عشر مات الفرعون «رعمسيس الثالث» في مقر ملكه «قنتير» (بر رعمسيس) بالوجه البحري (راجع مصر القديمة ج7). وبعد تسعة أيام من وفاته — وهي المدة التي تذكر لنا فيها ورقة «تورين» الخاصة بالمؤامرة على حياة الفرعون أن محكمة قد شكلت لمحاكمة المجرمين — نرى قيام الاحتفال بظهور «رعمسيس الرابع» في اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر. وفي هذا اليوم ابتدأ الحساب الجديد بسني الفرعون الجديد. وفي اليوم التالي لذلك — وهو اليوم السادس عشر من الشهر الحادي عشر — أعلن رسميًّا تغير عرش الملك بجبانة «طيبة «.
ولا نكون بعيدين عن الصواب إذا سلمنا بأن إعلان تولي الملك الجديد عرش الملك كان لا بد أن يتم في وقت واحد في جميع أنحاء البلاد، وهذا أمر تدعو إليه الحاجة إلى تسيير أمور الدولة ومصالحها الحكومية على وتيرة واحدة. فقد كان من الضروري أن تكون تواريخ كل المكاتبات الرسمية والخاصة واحدة في جميع أنحاء البلاد. وبدهي أن ذلك الإجراء كان ممكنًا وعمليًّا داخل حدود مصر نفسها، أما في مستعمراتها النائية فكان يتطلب كثيرًا من الوقت لإعلان نبأ بداية حكم الملك الجديد.
وبهذه المناسبة نجد من الأهمية بمكان بقاء «إستراكون» محفوظة بالمتحف المصري جاء عليها الإعلان الرسمي بتغير الجالس على العرش. ففي اليوم التاسع عشر من الشهر الخامس من السنة السادسة أعلن في جبانة «طيبة» موت الملك «سيتي الثاني»، وفي الوقت نفسه أعلنت بداية حكم الملك الجديد، وهذا يشبه ما حدث وذكرناه آنفًا عند تغير الجالس على العرش بعد موت «رعمسيس الثالث» في اليوم السادس عشر من الشهر الحادي عشر على لسان رئيس الشرطة نفسه في غربي «طيبة». وخلافًا لذلك تذكر لنا نفس «الإستراكون» أن نفس اليوم قد أرخ بالسنة الأولى من حكم الفرعون الجديد، وهو «رعمسيس سبتاح» (راجع مصر القديمة ج7).
ولا نزاع في أن وجه الشبه بين هذين المثالين، اللذين يرجع عهدهما للدولة الحديثة عن تغير الجالس على العرش لا يجعلنا نتردد في أن هذا الإجراء كان الطريقة المتبعة وقتئذ، وأن السنة الجديدة لحكم الفرعون الجديد كان يبتدئ الحساب بها رسميًّا.
وعلى ذلك فإن بداية حكم «رعمسيس الرابع» — أي: ظهوره — وهو اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر، قد نشر في اليوم التالي له مباشرة الإعلان الرسمي بتولي هذا الفرعون عرش البلاد، ومن ذلك نستنبط أنه عقب موت الملك كان يعلن في كل مصالح الحكومة الهامة أنه بعد يوم الظهور مباشرة، لا بد أن يكون التاريخ بالسنة الجديدة للفرعون الجديد. وقد كانت المدة التي تقع بين موت الفرعون وإعلانه فرعونًا على البلاد تتراوح بين تسعة وعشرة أيام، فكان بذلك لدى أولي الأمر في البلاد وقت كافٍ لإحاطة كل مصالح الحكومة علمًا بذلك.
وإذا كان ما ذكر حتى الآن لا لبس فيه، فإن الرأي الذي قررناه هنا عن طريقة تغيير الجالس على عرش الملك أيًّا كان يحتاج إلى براهين كثيرة قبل أن نحكم بأنه قاعدة ثابتة، ومع ذلك فإنه رأي يمكن الأخذ به حتى الآن إلى أن يظهر ما يزيد في تأكيده أو ما يدحضه.
وفي ختام هذا الموضوع يجب أن نضيف بعض ملاحظات عن الموقف التاريخي العام الخاص بتغير عرش الملك، الذي نحن بصدده الآن وعما فيه من أسئلة تحتاج إلى الإجابة عليها.
فنجد من جهة أن الأستاذ «ستروف« Aegyptus, 7, p. 3–30. قد قدم لنا تفسيرًا جديدًا لكل من ورقة «هاريس» الكبرى وورقة «تورين»، التي تبحث في موضوع المؤامرة على اغتيال حياة «رعمسيس الثالث»، وهاتان الورقتان كما ذكرنا آنفًا هما المصدران الهامان لمعلوماتنا عن عصر هذا الفرعون وسلفه، وقد أظهر أن رعمسيس الرابع هو المؤلف لهاتين الوثيقتين، وقد كان هذا الرأي في جملته مقبولًا، ولكن ظهرت أخيرًا أبحاث جديدة عن هاتين الورقتين. فكتب الأستاذ «دي بك» (راجع مصر القديمة ج7) أخيرًا مقالًا برهن فيه على أن ورقة «تورين» ليست كما يعتقد حتى الآن وثيقة قضائية، بل هي مجرد سرد حوادث وقعت في الماضي عن المحكمة التي ألفت لمحاكمة المتهمين في قضية الاغتيال، ويعتقد «دي بك» أن الوثيقة واقعية وأنها ليست من نسج الخيال وأن ما قاله «ستروف» من أن «رعمسيس الرابع» هو الواضع لها لا يمت إلى الحقيقة بصلة. وكذلك يرى «بورخارت» أن ما قاله «ستروف» عن المكان الذي وجدت فيه ورقة «هاريس» الكبرى والغرض الذي من أجله ألفت قول مردود، ويجب التخلي عنه (A. Z, 73, p. 1169).
ولا بد أن نؤكد هنا أولًا أن الجزء الأول من مقال الأستاذ «ستروف»، وهو الخاص بالمكان الذي وجدت فيه ورقة «هاريس» وارتباطها بمعبد مدينة «هابو» قد سقطت قيمته وأصبح لا يعتمد عليه (راجع Peet. The Great Tomb Robberies of the 20th Dynasty p. 178.) ولكن على الرغم من ذلك كما يقول «شادل» فإن ما وصل إليه من نتائج في الجزء الثاني من مقاله يعتمد عليه، وهو الذي يقول فيه: إن هذه الورقة من عمل «رعمسيس الرابع» لا من عمل «رعمسيس الثالث»؛ وذلك لأنه من الحقائق التي لا تقبل الجدل أن ما كتب عن «رعمسيس الرابع» في هذه الورقة يبلغ ثلاثة أضعاف ما كتب عن والده في عالم الآخرة. ولقد ظن البعض أن ما جاء في هذه الورقة يوحي بأن «رعمسيس الرابع» كان شريكًا لوالده في الملك (راجع Maspero, Histoire Ancienne, II p. 480.).
غير أن هذا الرأي أصبح لا قيمة له بعد أن برهن «أرمان» عند معالجته ورقة «هاريس» على أن «رعمسيس الثالث» كان يتكلم في هذه الورقة بوصفه متوفى، وفضلًا عن ذلك فإنه لم يكن هناك أية إشارة فيما خلفه لنا «رعمسيس الثالث» من آثار توحي بأنه كان مشتركًا معه في حكم البلاد. ومن هذه الحقائق يتضح لنا أن «رعمسيس الرابع» هو المؤلف لوثيقة «هاريس» الكبرى.
وعلى ذلك يسأل الإنسان: ما الأسباب التي حدت «برعمسيس الثالث» في هذه الأحوال أن يدعو الإله لخلفه أكثر من نفسه؟
وإذا كان «رعمسيس الرابع» هو الذي ألف هذا المتن دعانا ذلك إلى السؤال عن الأسباب التي دعته إلى تأليفه. وإذا نظرنا نظرة عابرة إلى قوائم ورقة «هاريس» وجدناها تحتوي على المنح التي وهبها «رعمسيس الثالث» للآلهة، ومنها يمكننا أن نعرف الجواب عن السؤال الذي سألناه هنا؛ فقد كان الفرعون الجديد ينتظر في مقابل تثبيته للمنح الهائلة التي وهبها سلفه لمعابد البلاد المختلفة أن ينال معاضدة الكهنة له، وهذه المساعدة كانت ضرورية «لرعمسيس الرابع» بصورة ملحة لتثبيت عرشه المزعزع، ولا أدل على ذلك من قيام ثورة للقضاء على حياة الجالس عليه «رعمسيس الثالث»، وقد كان من غير الممكن القضاء على الموظفين ورجال الجند الذين كانوا أكبر عضد يساعد «بنتاور» لنيل مأربه دون أن تكون طائفة الكهنة في جانبه. ولما كانت أحقية وراثة «رعمسيس الرابع» لعرش الملك غير مؤكدة وأن «بنتاور» ربما كان أكثر شرعية لتولي الملك رأى «رعمسيس الرابع» من الأمور السياسية الضرورية أن ينسب تأليف المحكمة، التي ألفت لمحاكمة المجرمين إلى «رعمسيس الثالث»، وبهذا الإجراء وبما جاء في ورقة «هاريس» على لسان «رعمسيس الثالث» أوجد لنفسه الحق في تولي عرش الكنانة، وبذلك يكون ما استنبطه «دي بك» من نتائج عن ورقة تورين غير مقنع ولا يعتمد عليه. والواقع أن الغرض من هاتين الوثيقتين لم يكن ذا صبغة دينية خالصة عميقة، بل كان الغرض منه فكرة سياسية خاصة بمهام الدولة. وعلى ذلك فإن «دي بك» عندما قال إن ورقة «تورين» ليست وثيقة قانونية بل مجرد سرد قصة خاصة بتغير الجالس على العرش، قد قرر الحقيقة، وهي في ذلك تشبه ورقة «هاريس»، من حيث إنها ذات صبغة سياسية، وأنها من المحتمل قد استعملت لتقف السلطات الهامة في البلاد عن الحوادث التي وقعت في عاصمة الملك والقصر من جراء المشاحنة على العرش.
وقد حدثنا الأستاذ «زيته» (راجع Sethe, Untersuchungen. I. P. 59–64) في مقاله عن قائمة الأمراء في معبد مدينة «هابو»، وتسلسل أول ملوك الأسرة العشرين في أن تولي كل من «رعمسيس الرابع» و«رعمسيس الخامس» من بعده عرش الملك لم يكن شرعيًّا؛ ولذلك نجد أن خلفهما «رعمسيس السادس» قد محا اسميهما من الآثار كما هشم اسميهما من قائمة الأمراء. وبهذه المناسبة فكر الأستاذ «شادل» عند درسه هذا الموضوع أن يضع السؤال التالي: أليس من الجائز أن الأمير «رعمسيس» الذي ظهر في قائمة الأمراء بوصفه والد «رعمسيس السادس» وابن «رعمسيس الثالث» هو نفس الأمير «بنتاور»؟ (2) وإذا كان هذا هو الواقع فإن ذلك يوضح لنا عدم شرعية «رعمسيس الرابع» أكثر من ذي قبل، وبخاصة عندما وجد أنه من الضروري أن يلصق موضوع محاكمة المتهمين بوالده «رعمسيس الثالث»، وأنه هو الذي أمر بها قبل وفاته، ومن جهة أخرى يظهر ما اقترحه «شادل» على أن «بنتاور» كان صاحب حق عند ادعائه عرش الملك. ومن المحتمل إذن أن الثورة كانت قد بدأت في القصر لتأييد ومناصرة أحقية «بنتاور» للعرش في حين نرى أن جماعة رجال الدين الذين كانوا يناصرون «رعمسيس الرابع»، قد أخمدوا الثورة وقضوا على الفتنة بما لهم من قوة وبطش في طول البلاد وعرضها. ولا يبعد أن هذا الرأي الذي لا يخرج عن الحدس والتخمين كان حقيقة تاريخية.
ويمكن تلخيص موضوع تولي «رعمسيس الرابع» عرش مصر فيما يلي:
(1) في اليوم السادس من الشهر الحادي عشر من عام 32مات «رعمسيس الثالث».
(2) في اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر كان يوم إعلان (ظهور) خلفه «رعمسيس الرابع»، وبذلك يبتدئ حكمه.
(3) في اليوم السادس عشر من الشهر الحادي عشر أعلن رسميًّا تغير الجالس على العرش في «طيبة»، وفي الأماكن الأخرى من البلاد.
(4) إن يوم وفاة الملك القديم ويوم تولي الحكم (الظهور) وكذلك يوم تتويج الملك الجديد ليست موحدة، ولا يمكن أن يكون ذلك لاعتبارات عملية.
(5) إن كلًّا من ورقة «هاريس» وورقة «توين» قد ألفها «رعمسيس الرابع»، وإن الداعي لتأليفهما غرض سياسي قبل كل شيء.
نعود الآن إلى الأنشودة السالفة الذكر (انظر الشكل 1) التي تعد أغنية في مديح الفرعون؛ لأنه أعاد النظام إلى البلاد بعد القضاء على القلاقل الداخلية بتوليه العرش، وقد وصلت إلينا ممحوَّة في بعض نواحيها بعض الشيء، وهاك المتن كما ورد إلينا (راجع كتاب الأدب المصري القديم ج2 ص219):

شكل 1: تمثال «رعمسيس الرابع «.
ما أسعده من يوم! فالسماء والأرض في فرح؛ لأنك أصبحت رب مصر العظيمة، وهؤلاء الذين ولوا الأدبار، رجعوا ثانية إلى مدنهم، والذين اختبئوا عادوا كَرَّة أخرى إلى الظهور، والذين كانوا جياعًا أصبحوا بطانًا سعداء، والظامئون ارتووا، والعراة أصبح رداؤهم الكتان الجميل، والقذرون صارت لهم ملابس بيضاء، والمسجونون أُطلق سراحهم، والراسف في الأغلال أصبح مُفْعَمًا بالسرور، والمتنابذون في هذه الأرض أصلح بينهم، وأتت الفيضانات العالية من منابعها لتنعش قلوب الآخرين. وبيوت الأرامل (3) بقيت مفتوحة تستقبل من كان على سفر، والعذارى يرددن أغانيهن الدالة على سرورهن.
وقد استعرضن متحليات بالذهب، وقائلات (؟) … إنه يخلق جيلًا بعد جيل. أنت يا أيها الحاكم إنك ستعيش إلى الأبد.
والسفن تنشرح على البحر؛ لأنه لا أمواج فيه (؟) … وترسو على البر بالهواء وبالمجاديف، وإنها لمنشرحة حين تقول: «الملك «حق ماعت رع» محبوب «آمون» يلبس التاج الأبيض ثانية. وابن «رع»-«رعمسيس» قد تسلم وظيفة والده، وجميع الأرض تقول له: إن «حور» (الملك) جميل على عرش «آمون» الذي أرسله إلينا.»
»انتهى مديح شجاعة الملك، وقد دونه كاتب الجبانة «أمن نخت» في السنة الرابعة، الشهر الأول من فصل الزرع، اليوم الخامس عشر«.
وهذه الأنشودة كما نرى أغنية كانت تردد في عيد تتويج «رعمسيس الرابع»، وهي في مغزاها وما تحمل من معانٍ تشبه ما يحدث في عصرنا عند الاحتفال بعيد تتويج الملك. والغريب في هذه الأنشودة أنها الفريدة من نوعها التي عثر عليها حتى الآن بين الوثائق المصرية القديمة، فما أشبه أمس باليوم، فالسماح للمذنب الهارب بالعودة، والعفو الشامل للمحكوم عليهم بعقوبات صارمة، وتوزيع الغذاء والملابس، وفتح السجون، والإفراج عن المذنبين، كل ذلك له نظائره في عصرنا هذا.
والواقع أن من ينعم النظر في محتويات هذه القصيدة، وما جاء فيها من وصف الرخاء والسعادة والنعيم التي عمت البلاد عند تولية هذا الفرعون لا يلبث أن يرجع بذاكرته إلى تلك الصورة المظلمة القاتمة التي قرأناها — في وصف الخراب والدمار، وما آلت إليه حالة البلاد المصرية من بؤس وشقاء، وانقلاب الأوضاع الاجتماعية — في تحذيرات المتنبئ «إبور«(4) ، وهي التي تعد قطعة أدبية من النماذج التي كان يسير على نهجها الكتاب والتلاميذ في عهد الدولة الحديثة؛ لذلك لا نشك كثيرًا في أنها كانت أمام الشاعر الذي ألف هذه الأنشودة التي نتحدث عنها، ولكنه نسج على منوالها بصورة معكوسة، فالتعابير في كليهما تكاد تكون موحدة الأسلوب، مع فارق البؤس في الأولى، وتصوير الرخاء والنعيم في الثانية في زمنها.
ولكن هل ما جاء في هذه القصيدة يطابق الواقع؟
والجواب عن ذلك أنه من المحتمل كثيرًا رخاء البلاد نوعًا ما في ذلك الوقت، وبخاصة أن هذا الفرعون قد جاء بعد «رعمسيس الثالث» والده الذي كان عهده فترة رخاء نسبي في البلاد، وإن كانت شواهد الأحوال تدل على أنه في الحقبة الأخيرة من حكمه قد حدث اضطراب في صفوف العمال بسبب عدم دفع أجورهم، وقلة المؤن التي كانت تورد لهم مما أدَّى إلى إضرابهم. هذا بالإضافة إلى أن الفترة الأخيرة من حكم «رعمسيس الثالث» كانت مضطربة، وكانت حالة البلاد تسير نحو الهاوية شيئًا فشيئًا، وعلى أية حال فإن مثل هذه الأوصاف والتعابير الخلابة تكون في العادة من نسج خيال الشاعر وتمنياته، وما تصبو إليه نفسه، وما يرجو أن تكون عليه حالة البلاد حقيقة، ولكن الواقع يخالف ذلك.
..........................................
1- وذلك لأن «الإستراكون» السالفة الذكر تظهر لنا أن الوزير كان يفتش بعد ذلك اليوم.
2- وعلى ذلك يكون لدينا اسم آخر «لبنتاور» وهو «رعمسيس» بوصفه ملكًا، وهو الاسم الذي أعطاه إياه المتآمرون. وقد قال «دي بك» بحق إن اسم «بنتاور» هو الاسم الحقيقي للمدعي الملك، وإن الاسم الآخر قد استعمله بوصفه ملكًا وهو الذي خلعه عليه المتآمرون على قتل «رعمسيس الثالث»، وعلى ذلك كان «برستد» على حق عندما قال: إن اسم «بنتاور» هو اسم آخر لمدعي العرش (Br. A. R. IV § 416).
3- يحتمل كذلك النساء غير المتزوجات، وعلى كل حال فالمعنى أنهن قد سلمن أنفسهن.
4- راجع كتاب الأدب المصري القديم جزء1 ص295–317.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة