ليس هناك اختلاف في مسألةٍ ما بقدر الاختلاف في الله تعالى
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص212-216
2025-08-20
480
إنّه لأمر جلل، ومعضلة يكتنفها الغموض أن يكون وجود الله الرحمن الرحيم والحيّ العليم والقدير موضع اختلاف وتباين في الأفكار والعقائد بين الامم والشعوب إلى حدّ يمكن القول إنّه ليس هناك مسألة أو معضلة اختُلِفَ فيها إلى هذا الحدّ كما هو الحال مع هذه المسألة التي هي من أكثر المسائل بديهيّة ووضوحاً، بل أن بداهة ووضوح جميع المسائل تنبع من بركات بداهة ووضوح هذه المسألة، وقد وصل الحال ببعض الامم العريقة إلى إنكار أصل وجوده تعالى.
وقد أشار حكيمنا القدّوسيّ وعارفنا القدّيسيّ المرحوم الحاجّ الملّا هادي السبزواريّ أعلى الله رتبته في كتابه «منظومة الحكمة» إلى أن سبب ذلك هو شدّة ظهوره تعالى:
يَا وَاهِبَ العَقْلِ لَكَ المَحَامِدُ *** إلى جَنَابِكَ انْتَهَى المَقَاصِدُ
يَا مَنْ هُوَ اخْتَفَى لِفَرْطِ نُورِهْ *** الظَّاهِرُ البَاطِنُ في ظُهُورِهْ
بِنُورِ وَجْهِهِ اسْتَنارَ كُلُّ شَيءْ *** وعِنْدَ نُورِ وَجْهِهِ سِوَاهُ فَيءْ
وعلى هذا فلمّا كان الله العلى الأعلى هو الوجود المحض وكان ظاهراً بنفسه، ولمّا كانت بقيّة الموجودات في الوجود ووجودها ظاهرة بوجوده؛ فإنّ شدّة هذا الظهور وفرط هذا النور نيّر وساطع لدرجة أنّه تسبّب في اختفاء ذواتها. وقد أنكر جماعة وجود الله من الأساس وقالوا: ليس هناك في العالم إله حيّ مدرك عليم قادر كبير متعال؛ فالطبيعة محضة وصِرفة. والطبيعة والمادّة هما غير الحياة والعلم والقدرة. وهؤلاء هم المادّيّون والطبيعيّون.
إذا تجاوزنا هؤلاء، فإنّه حتى القائلين بوجود الله والمؤمنين به والذين يُقال لهم الإلهيّون قد اختلفوا في ماهيّته ووصفه؛ وفي صفاته وأفعاله، وفي علاقة الموجودات به، وكيفيّة إمكاننا ووجوبه.
وقال بعضهم: ليس هناك أيّ تشابه أو تلائم بين الله وأيّ من الموجودات بأيّ وجه من الوجوه. وليست هناك أيّة رابطة وجوديّة، بل أساساً لا يوجد أيّ تشابه. فأين الموجود المخلوق من الله الخالق؟ إن ذات الله المقدّسة منزّهة عن كلّ ما يخطر ببال الإنسان من تصوّرات وأفكار ونسبتها إليه. وذاته أطهر من أيّة صفة حتى من صفة الوجود نفسها. بل أن نوع وحقيقة وجود الله يختلف عن ذلك الذي تملكه المخلوقات والموجودات الأخرى، ويختلف في مفهومه أيضاً.
وقد تقدّست وتنزّهت ذاته عن كلّ ما يتراءى للعيان، وصفاته وأسماؤه وأفعاله عن كُلّ ما يُتصوّر. ولذا فلا يمكننا إقامة أيّة علاقة مع الله، لأنّنا موجودات ممكنة الوجود ومخلوقات ضعيفة وفقيرة، والعجز والجهل متأصّلان فينا، أمّا هو، فواجب الوجود والخالق القويّ الغنيّ وهو القادر المتمكّن والعالم والخبير، بكلّ ما لهذه الكلمات من معانٍ.
وتُدعى هذه الجماعة بأهل التنزيه (المُنَزِّهة). اي يريدون أن ينزّهوا الله ويقدّسوه ويطهّروه إلى أبعد الحدود. وهم يبالغون في تنزيه الله وتقديسه إلى الحدّ الذي يقطعون أيّة رابطة للموجودات به ويُعلنون صراحةً: بأن ليس هناك سبيل لمعرفة الله؛ لا إلى أفعال الله ولا إلى أسمائه أو صفاته أو ذاته.
فلا سبيل لنا إلى ذلك المقام الأعلى والذروة الأسنى، حتى أنّنا لا يمكننا إطلاق كلمة الوجود على الله انطلاقاً من وجهة نظر العقل، فهؤلاء يشكّلون فرقة خاصّة بهم، ومن المتأخّرين من ينتمي إلى هذه الفرقة أيضاً. ومن القائلين بهذا النوع من التنزيه بعض الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم من كبار العلماء ومن الطراز الأوّل، في حين أنّه (أي التنزيه المذكور) كان عقيدتهم المعلنة. ومن جملة هؤلاء، الشيخ أحمد الأحسائيّ، حيث أن عباراته التي كتبها في شرحه للزيارة الجامعة الكبيرة (شرح الزيارة) توضّح بجلاء انتمائه لهذه العقيدة.
جاء في بداية رسالة «لقاء الله» للمرحوم آية الله الحاجّ الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ قدّس الله تربته، وتحديداً في المقطع الذي يقول فيه: «و خلاصة القول فإنّ المذاق الأوّل هو مذاق طائفة من متكلمي العلماء الأعلام. فهؤلاء قد استدلّوا بظاهر بعض الأخبار، وقاموا بتأويل الآيات والأخبار والأدعية الواردة التي تخالف أهواءهم». وهنا يكتب المرحوم الحاشية التالية بخطّ يده: «و يعبّر هذا المذاق عن صريح كلمات الشيخ أحمد الأحسائيّ وتابعيه. ولكنّهم يُؤوِّلون أخبار اللقاء والمعرفة على نحو آخر كما سيأتي ذكره، ويفسّرون جميع الأسماء والصفات على أساس أنّها من أسماء وصفات مرتبة المخلوق الأوّل. بل إنّهم لا يعتبرون الذات القدسيّة منشأ انتزاع الصفات، ويقولون بالتنزيه الصِّرف- منه عُفيَ عنه».
وقال البعض الآخر: أن هناك تشابهاً بين الله وبين الموجودات من جميع الوجوه؛ سواء أكان في ذاته أم في صفاته أم في أفعاله. أن للّه رابطاً مع مخلوقاته وللمخلوقات رابطٌ يربطها بالله. ومعنى الرابط هو الوحدة والملاءمة والمشابهة بين ذات العلّة وذات المعلول، وصفات العلّة وصفات المعلول، وأفعال العلّة وأفعال المعلول.
إن عالم المُلك والملكوت برمّته هو مخلوق من قِبل الله. وعليه فيجب أن يكون تشابه بين الله سبحانه وتعالى وبين هذه المخلوقات من جميع النواحي. ويقال لهذه الجماعة أهل التشبيه (المُشَبِّهة).
أي أنّهم يقارنون بين الله والموجودات في الذات والصفات. ولا نعلم أحداً من الشيعة على هذا المذهب، ولكنّه كانت هناك جماعة من العامّة، وما تزال، تنتمي إلى أهل التشبيه.
هذه أيضاً عقيدة خاطئة، لأنّ الله خالق الموجودات لا يمكن أن يتشابه معها من جميع النواحي. فأيّ دليل يوصلنا إلى أنّه يجب أن يكون هناك تشابه من جميع الجهات في علّيّة الخِلقة وعالم الوجود؟ وذهبت هذه الجماعة إلى حدّ القول بجسميّة الله. لأنّ الموجودات المُلكيّة هي أجسام. وبالطبع فإنّ هذه النظريّة والعقيدة باطلة.
الاكثر قراءة في التوحيد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة