الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في عهد البطلمي الأول
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج14 ص 543 ــ 545
2025-08-13
627
لا نزاع في أن النظام الاقتصادي كما لخصناه فيما سبق كان هدفه الوحيد تنظيم الإنتاج، وذلك بقصد الوصول إلى جعل الدولة، أو بعبارة أدق الملك، صاحب ثروة وقوة وجاه، ومن أجل ذلك كانت كل قوة الشعب وجهوده مركّزة في الوصول إلى هذا الغرض الرئيسي، فكان على كل فرد من أفراد الرعية أن يعمل أولا وقبل كل شيء للملك على حسب تصميم رسمته الحكومة وأعدته الإدارة، وفرض تنفيذه بشدة وحزم بكل أنواع الاعتمادات اللازمة، هذا إلى أن المسئولية المادية وكذلك الشخصية كانتا متحدتين في إنجاز هذا التصميم بحكمة ونفاذ رأي. وكان الدور الذي يقوم به الموظفون المصريون أهل البلاد في تنفيذ هذا النظام الاقتصادي شاقًا مرهقًا، هذا بجانب أنه لم تُتخذ أية مبادرة أو تُعطى أية فرصة لتحسين حالة هؤلاء الأشقياء من حيث مصالحهم الخاصة بالنسبة لسائر السكان الذين وفدوا على البلاد من جهات شتى أجنبية.
وطبيعي أن مجال الفائدة الفردية لطائفة المواطنين المصريين كانت ضئيلة جدا، بل الواقع أنهم لم يكونوا يجنون أية فائدة؛ فقد كانت تقع عليهم أعباء فادحة تفوق الوصف، ولا بد أن نذكر هنا أن السواد الأعظم من المصريين كانوا بطريقة أو بأخرى مرتبطين بالعمل للدولة سواء أكانوا مزارعي الملك أم كانوا ممن ـ تتألف منهم الطوائف المختلفة الذين يدفعون الضرائب، أم الرجال المتصلين بدخل البلاد، وهم عمال المصانع وتجار التجزئة، ورعاة الأغنام والماشية وصيادو الحيوان والأسماك المحترفون والغطاسون المحترفون والمجدفون، والنواتي، وعمال المناجم والمحاجر، وهلم جرا ، ومما زاد الطين بلة أنهم بالإضافة إلى أعمالهم العادية كانوا عرضة لأعمال السُّخرة بدرجة كبيرة، فكانوا يعملون في أعمال كرى الترع، وإقامة السدود، ثم العمل في المناجم والمحاجر من وقت لآخر، كلما دعت الأحوال إلى ذلك، ويحتمل كذلك في صيد السمك، والطراد، وزرع الأشجار، وأعمال النقل. وكثيرا ما كانت تعترض هذه السُّخرة أعمالهم اليومية العادية، ونحن لا نعلم بالضبط الصيغ القانونية التي كانت تُتخذ في تنفيذ هذه الأمور، والمَظْنُّون أنه في أغلب الأحيان كانت تُبرم مع هؤلاء التعساء عقود في هذه المناسبات، غير أن العقود التي : تُبرم بين الحكومة والفلاحين الذين يعملون لها كانت ذات طابع خاص؛ فقد كانت تلك العقود تحتوي بين موادها على مادة هامة، وذلك أنه في حالة عدم دفع الديون كانت الأحكام تُنفذ فيما يدعيه الملك، أما في حالة وفاء دين على الحكومة فكان الأمر خلافًا لذلك، ولدينا وثيقة كُشِف عنها حديثًا تبرهن على أن هذه الصيغة تدل على حق الحكومة في الاستيلاء على ما هو مستحق للتاج بتنفيذ الحكم على المدين، وهذا كان يقضي بالسجن أو بالرق، وتشير الوثيقة التي نتحدث عنها إلى الأحوال في سوريا وهي تعالج طبقة العمال فقط، فهل هذا يعني أنهم وحدهم كانوا مُعرَّضين للاستعباد ؟ ومن المحتمل أن نفس هذه القاعدة كانت مطبقة على مصر نفسها.
هذا وكان أكثر اعتماد الحكومة، أو بعبارة أخرى الملك على هؤلاء المواطنين من المصريين الذين كانوا يُرهَقون بالعمل والمسئولية وبخاصة في حقول الزراعة، والواقع أن مسئوليتهم الشخصية والمادية كانت ثقيلة كما أن عملهم كريه لأنفسهم، ولا غرابة إذن أن نجدهم يسعون بكل ما لديهم من قوة إلى الفرار من هذه السُّخرة، هذا وكانت المسئولية أكثر من الفائدة لأولئك الذين كانوا يشتغلون في وظائف صغيرة في الإدارة الملكية، وهذه الوظائف الحقيرة كانت الوحيدة المفتوحة أمام المواطنين المصريين، فكانوا يعملون رؤساء قرى وكتاب قرى. حقًّا كان هؤلاء يتمتعون بمكانة بارزة في القرى، ولكن من جهة أخرى كانت أعمالهم شاقة معقدة كما كانت تنطوي على مسئوليات مقيدة مرتبطة بعملهم، ولكن الفائدة الرئيسية كانت سُخرة لا شرفًا، فقد كان الاستحواذ عليها يوقع صاحبها في خطر ومسئولية أكثر مما كان يتمتع به من سلطان وفائدة، ومما لا ريب فيه أن الفلاحين المصريين لم يكونوا أرقاء حِرَف يُشْتَرَوْنَ ويُباعُون مع الأرض التي يعملون فيها (هؤلاء كان يطلق عليهم لفظ التملية)، وذلك لسبب بسيط وهو أنه لم تكن في مصر أرض تباع في عهد بطليموس الثاني، وعلى ذلك لا يمكن قرنهم بطبقة العمال الذين يعملون بمثابة أرقاء في الممالك الشرقية والمعابد أو بأولئك الذين كانوا يعيشون وقتئذ في دنيا الإغريق، والواقع أن العامل (الفلاح) المصري لم يكن مرتبطًا بالأرض ارتباطًا وثيقًا بأملاكه أو بمكان سكنه بل كان يتمتع بمقدار عظيم من الحرية الاقتصادية بوجه عام كما كان يتمتع بحرية التنقل بوجه خاص، وكانت علاقته العادية بالحكومة فيما يخص نشاطه الاقتصادي ترتبط بعقود، أما الخدمات الإجبارية التي كانت تفرض عليه فكان يتقاضى عليها أجرًا، غير أنه كان أجرًا ضئيلا ، وعلى أية حال لم يكن حرًّا تماما بل كان مرتبطًا . الحكومة، ولم يكن في مقدوره أن يفلت من هذه الحالة التي كانت تشبه العبودية؛ لأنه كان يتكل على الحكومة في كسب قُوتِه، والحقيقة أن هذه العبودية لم تكن لا حقيقية ولا اسمية؛ وذلك لأن الموظفين الملكيين وجباة الضرائب كانوا يتجسسون على الأمور المحلية الخاصة بأولئك الذين يعملون للحكومة، فقد كان كل عمل يقوم به عمال الملك يمكن أن يؤثر على إيرادات التاج، وهذا كان شيئًا مقدسًا في عَيْنَي الموظف، وكذلك الهدف النهائي الذي كان يجب أن تتجه نحوه كل مجهوداته، وهؤلاء العمال كانوا يلقنون جيدًا أن الحكومة كانت مهتمة بوجودهم بوجه خاص؛ لأن صيانة الدخل الملكي كان يتوقف على مجهوداتهم.
ومن ثم نجد أنه في شكاياتهم المتكررة لم يلجئوا لعدالة الملك وإنصافه، ولكن غالبًا جدا ما كانوا يعلمون أن المعاملة السيئة التي يعاملون بها قد تمنعهم من أداء عمل الملك وأن ذلك تكون نتيجته النقص الفاحش في دخله، ولا عجب أن الفلاح المصري كان تحت هذه الظروف لا يُظهر حماسا كبيرًا أو نشاطا منتجا في عمله، وكثيرًا ما كان يلجأ إلى الهرب من عمله كما سنشرح ذلك فيما بعد هذا، ولا يمكن أن نحدد نسبة عدد المواطنين المصريين الذين كانوا مرتبطين بالحكومة؛ فقد كان الكهنة وموظفو التاج بما في ذلك عدد قليل من الطبقة العليا، وكذلك مُلاك الأراضي الحرة يُعَدُّون خارج نطاق دائرة الاستعباد، يضاف إلى ذلك أصحاب الحرف الأحرار - إذا كانت هناك طبقة من هذا الصنف في مصر - كانوا في نفس الموقف؛ ويشك الإنسان في وجود عدد كبير من الوطنيين الذين كانوا يكسبون عيشهم بوصفهم عمالاً مأجورين ليس لهم عمل آخر في الوقت نفسه غير ذلك، وكان النساء والأطفال بطبيعة الحال ليسوا مرتبطين بالحكومة بطريقة مباشرة.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة