مسجد براثا قبل بغداد بأكثر من قرن !
قال الحموي في معجم البلدان : 1 / 362 : « براثا : بالثاء المثلثة والقصر : محلة كانت في طرف بغداد في قبلة الكرخ وجنوبي باب محول ، وكان لها جامع مفرد تصلي فيه الشيعة » .
وفي أمالي الطوسي / 199 ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما رجع من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء فقال للناس : إنها الزوراء فسيروا وجَنِّبوا عنها ، فإن الخسف أسرع إليها من الوتد في النخالة ، فلما أتى موضعاً من أرضها قال : ما هذه الأرض ؟ قيل أرض بحرا ، فقال : أرض سباخ ، جنبوا ويَمِّنوا . فلما أتى يمنة السواد فإذا هو براهب في صومعة له فقال له : يا راهب ، أنزلُ هاهنا ؟ فقال له الراهب : لا تنزل هذه الأرض بجيشك . قال : ولمَ ؟ قال : لأنه لا ينزلها إلا نبي أو وصي نبي بجيشه يقاتل في سبيل الله ، هكذا نجد في كتبنا . فقال له أمير المؤمنين : فأنا وصي سيد الأنبياء ( صلى الله عليه وآله ) وسيد الأوصياء . فقال له الراهب : فأنت إذن أصلع قريش ووصي محمد ؟ قال له أمير المؤمنين : أنا ذلك .
فنزل الراهب إليه فقال : خذ عليَّ شرائع الإسلام ، إني وجدت في الإنجيل نعتك ، وأنك تنزل أرض براثا بيت مريم وأرض عيسى ( عليه السلام ) !
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قف ولا تخبرنا بشئ ، ثم أتى موضعاً فقال : إلكزوا هذه ، فلكزه برجله ( عليه السلام ) فانبجست عين خرارة ، فقال : هذه عين مريم التي انبعثت لها ! ثم قال : اكشفوا هاهنا على سبعة عشر ذراعاً ، فكشف فإذا بصخرة بيضاء فقال علي ( عليه السلام ) : على هذه وضعت مريم عيسى من عاتقها وصلت هاهنا ؟
فنصب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الصخرة وصلى إليها ، وأقام هناك أربعة أيام يتم الصلاة ، وجعل الحرم في خيمة من الموضع على دعوة ( مسافة قريبة ) ثم قال : أرض براثا ، هذا بيت مريم ( عليها السلام ) هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء ( عليهم السلام ) » !
وفي من لا يحضره الفقيه : 1 / 232 : « وأما مسجد براثا ببغداد ، فصلى فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما رجع من قتال أهل النهروان » .
وفي تهذيب الأحكام : 3 / 264 ، أن الراهب قال : « إنما بنيت هذه الصومعة من أجل هذا الموضع وهو براثا ، وقرأت في الكتب المنزلة أنه لا يصلي في هذا الموضع بذا الجمع إلا نبي أو وصي نبي ، وقد جئت أن أسلم ، فأسلم فخرج معنا إلى الكوفة فقال له علي ( عليه السلام ) : فمن صلى هاهنا ؟ قال : صلى عيسى بن مريم وأمه . فقال له علي ( عليه السلام ) : أفأفيدك من صلى هاهنا ؟ قال : نعم قال : الخليل ( عليه السلام ) » .
وفي مناقب آل أبي طالب : 2 / 100 : « قال أمير المؤمنين : فاجلس يا حباب ، قال : وهذه دلالة أخرى ، ثم قال : فانزل يا حباب من هذه الصومعة وابن هذا الدير مسجداً ، فبنى حباب الدير مسجداً ، ولحق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الكوفة ، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فعاد حباب إلى مسجده ببراثا .
وفي رواية أن الراهب قال : قرأت أنه يصلي في هذا الموضع إيليا ، وصي البارقليطا محمد نبي الأميين ، الخاتم لمن سبقه من أنبياء الله ورسله ( عليهم السلام ) ، في كلام كثير ، فمن أدركه فليتبع النور الذي جاء به » .
وفي عيون المعجزات / 2 : « لما رجع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من قتال أهل النهروان أخذ على النهروانات وأعمال العراق ، ولم يكن يومئذ بنيت بغداد . . الخ . » .
وفي اليقين لابن طاووس / 421 : « فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : وأين تأوي ؟ فقال : أكون في قلاية ( صومعة ) لي هاهنا . فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بعد يومك هذا لا تسكن فيها ، ولكن ابن هاهنا مسجداً وسمه باسم بانيه فبناه رجل اسمه براثا ، فسمي المسجد ببراثا باسم الباني له . ثم قال : ومن أين تشرب يا حباب ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، من دجلة هاهنا . قال : فلم لا تحفر هاهنا عيناً أو بئراً ؟ فقال له : يا أمير المؤمنين ، كلما حفرنا بئراً وجدناها مالحة غير عذبة ! فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إحفر هاهنا بئراً فحفر فخرجت عليهم صخرة لم يستطيعوا قلعها . فقلعها أمير المؤمنين فانقلعت عن عين أحلى من الشهد وألذ من الزبد ، فقال له : يا حباب ، يكون شربك من هذه العين . أما إنه يا حباب ستبني إلى جنب مسجدك هذا مدينة وتكثر الجبابرة فيها ويعظم البلاء » .
أقول : دل هذا الحديث وغيره على أن إبراهيم ( عليه السلام ) صلى في موضع براثا ، واشترى أرض كربلاء وسماها كربلاء . وعلى أن مريم ( عليها السلام ) عاشت سنوات من تشريدها مع ابنها عيسى ( عليه السلام ) في العراق ، ويفهم من روايات سيرتها ( عليها السلام ) أن اليهود والرومان ضايقوها فاضطرت إلى الهجرة وبقيت مع ابنها في الشام ومصر والعراق نحو ثلاثين سنة ، ثم أمر الله عيسى ( عليه السلام ) فرجع إلى القدس ودعا الناس حتى حاولوا قتله فرفعه الله تعالى .
مقبرة براثا
في كامل الزيارات / 546 ، بسنده عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إن إلى جانبكم مقبرة يقال لها : براثا ، يحشر منها عشرون ومائة ألف شهيد كشهداء بدر » .
وفي تاريخ بغداد : 1 / 134 : « وبنواحي الكرخ مقابر عدة ، منها مقبرة باب الكناس مما يلي براثا ، دفن فيها جماعة من كبراء أصحاب الحديث » .
3 - كان سكان الكرخ شيعة قبل تأسيس بغداد
كانت الكرخ قرية عامرة قبل تأسيس بغداد وكان فيها شيعة ، ففي بصائر الدرجات / 355 ، أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) سأل إبراهيم الكرخي : « يا إبراهيم أين تنزل من الكرخ ؟ قلت : في موضع يقال له شادروان ، قال فقال لي : تعرف قَطَفْتَا ؟ قال : إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين أتى أهل النهروان نزل قطفتا ، فاجتمع إليه أهل بادرويا ، فشكوا إليه ثقل خراجهم وكلموه بالنبطية ، وأن لهم جيراناً أوسع أرضاً وأقل خراجاً ، فأجابهم بالنبطية : ( وغرزطا من عود يا ) قال فمعناه : رب رجز صغير خير من رجز كبير » . ومعنى الرجز هنا السهم من الأرض .
وتدل النصوص على أن قطفتا وبادرويا وشادروان والكرخ ، كانت قرى كبيرة عامرة ، وعبر عن بعضها بمدينة . وترجمت المصادر الرجالية لعدد من الكرخيين في أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) غير إبراهيم المذكور ، وفيهم علماء مؤلفون .
وفي الكافي : 5 / 141 ، و 268 ، عن إبراهيم الكرخي قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الرجل تكون له الضيعة الكبيرة فإذا كان يوم المهرجان أو النيروز أهدوا إليه الشئ ليس هو عليهم يتقربون بذلك إليه . . . قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أشارك العلج فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ويكون على العلج القيام والسقي والعمل في الزرع حتى يصير حنطة وشعيراً وتكون القسمة ، فيأخذ السلطان حقه ويبقى ما بقي على أن للعلج منه الثلث ولي الباقي ، قال : لا بأس بذلك » .
وذكر في الكافي : 3 / 529 ، خالد بن الحجاج الكرخي ، روى عن الصادق ( عليه السلام ) .
وقال الحموي في معجم البلدان : 4 / 448 : « والأشعار في الكرخ كثيرة جداً ، وكانت الكرخ أولاً في وسط بغداد والمحال حولها ، فأما الآن فهي محلة وحدها مفردة في وسط الخراب وحولها محال . . وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية ، لا يوجد فيهم سني البتة » .
معروف الكرخي ليس من كرخ بغداد
قال الحموي في معجم البلدان : 4 / 449 : « كرخ جُدَّان : بضم الجيم ، وسمعت بعضهم يفتحها والضم أشهر والدال مشددة وآخره نون . زعم بعض أهل الحديث أن كرخ باجدا وكرخ جدان واحد ، وليس بصحيح ، فأما باجدا فهو كرخ سامرا ، وأما كرخ جدان فإنه بليدة في آخر ولاية العراق يُنَاوح خانقين عن بعد ، وهو الحد بين ولاية شهرزور والعراق ، وإلى هذا الكرخ ينسب الشيخ معروف الكرخي بن الفيرزان أبو محفوظ ، وأخوه عيسى بن الفيرزان » .
وفي الأنساب للسمعاني : 5 / 50 : « هذه النسبة إلى عدة مواضع اسمها الكرخ . . . ومنها إلى كرخ باجدا ، قرية بنواحي العراق منها معروف بن الفيرزان الكرخي أبو محفوظ ، المشتهر . وأخوه عيسى بن الفيرزان الكرخي ، حكى عن أخيه معروف . . . حدثني عنه أبو العلاء الحافظ بأصبهان قال : سمعت خلفاً الكرخي المجهز يقول : نحن من كرخ باجدا ، منها معروف الكرخي ، وبيته معروف يزار إلى اليوم . . . وكان أحد المجتهدين المشهورين بالزهد والعزوف عن الدنيا ، يغشاه الصالحون ويتبرك بلقائه العارفون . وكان يوصف بأنه مجاب الدعوة ، ويحكى عنه كرامات . . ومات في سنة مائتين » .
من تاريخ مظالم الشيعة في بغداد
تكاثر الشيعة في بغداد ولم تمنعهم عداوة المنصور العباسي من ذلك ، وعمرت بغداد بسرعة وسكنها علماء وشخصيات ، وكان ثقل الشيعة في الكرخ التي اتسعت وصارت محلة كبيرة من بغداد حتى اتصلت ببراثا ، وصار مسجد براثا مركزاً علمياً وعبادياً واجتماعياً للشيعة ، ومَعْلَماً من معالم بغداد .
ولم تسلم براثا من حملات المتعصبين فكان فيها وفي الكرخ أحداث ، رواها المؤرخون .
قال السيد محمد الكثيري في كتابه : السلفية بين أهل السنة والإمامية / 619 ، ما خلاصته : « يقول ابن كثير في حوادث سنة 354 : ثم تسلطت أهل السنة ( الحنابلة ) على الروافض فكبسوا مسجدهم براثا الذي هو عش الروافض ، وقتلوا بعض من كان فيه من القومة ! وفيها أحرق الكرخ ببغداد فألقي في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال ، من ذلك ثلاث مائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجداً ، وسبعة عشر ألف إنسان ! وعند ابن خلدون عشرون ألف إنسان !
أنظر لهذه الهمجية اللا إنسانية واللا دينية !
مثال آخر لإهدار الدم الشيعي المسلم : فقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 363 : ثارت العامة من أهل السنة ينصرون سبكتكين لأنه كان يتسنن ، فخلع عليهم وجعل لهم العرفاء والقواد ، فثاروا بالشيعة ، وحاربوهم وسفكت بينهم الدماء وأحرقت الكرخ حريقاً ثانياً ، وظهرت السنة عليهم .
ويقول ابن كثير في حوادث سنة 375 : فيها في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض ، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة ( الحنابلة ) والرافضة ، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه بعيد عن السداد . وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسموها عائشة ، وتسمى بعضهم بطلحة وبعضهم بالزبير وقالوا : نقاتل أصحاب علي ! فقتل من الفريقين خلق كثير !
وفي سنة 389 : أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم ، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، فقاتلهم جهلة آخرون من المنتسبين إلى السنة فادعوا أنه في مثل هذا اليوم حصر النبي ( ص ) وأبو بكر في الغار .
وفي هذا السياق نفسه يقول ابن كثير في حوادث سنة 389 : ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتماً يظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي ، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة السنة فادعوا إن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير ، فعملوا له مأتماً كما تعمل الشيعة للحسين !
إن النصوص التاريخية التي وصفت الفتن لا تترك مجالاً لأي قارئ أو باحث ، أن يشك في أن الحنابلة كانوا هم السابقين دائماً لإثارة الفتن والتهجم على الشيعة يراقبونهم ويتتبعون جميع تصرفاتهم وعبادتهم ! فأي فعل أو قول يخالف المذهب الحشوي يعني الابتداع والكفر ، ومن ثَم الهجوم فالقتل » ! انتهى .
ومما يؤيد كلام الكثيري أن فتنة الحنابلة المجسمة كانت مع غير الشيعة أيضاً كالطبري الفقيه المؤرخ ، فقد هاجموا داره ورجموه ، ولما مات منعوا دفنه في مقابر المسلمين ، ( معجم الأدباء : 9 / 57 ) . كما أخرجوا ابن حبان من سجستان لأنه أنكر أن يكون الله تعالى محدوداً ! قال السبكي : من أحق بالإخراج : مَن يجعل ربه محدوداً أو من ينزهه عن الجسمية ؟ ! » ( المجروحين لابن حبان ، والعقائد الإسلامية : 2 / 265 ) .
وهاجموا أئمة المذاهب في المدرسة النظامية ، قال ابن كثير في النهاية ( 12 / 143 ) : « ثم دخلت سنة سبعين وأربع مائة . . . وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية ، وحمي لكل من الفريقين طائفة من العوام ، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلاً ، وجرح آخرون » !
وفي النجوم الزاهرة : 5 / 59 : « سنة ثمان وأربعين وأربع مائة . أقيم الأذان في مشهد موسى بن جعفر ومساجد الكرخ ، بالصلاة خير من النوم ، على رغم أنف الشيعة ! وأزيل ما كانوا يقولونه في الأذان من حي على خير العمل » .
وفي تاريخ الذهبي : 30 / 9 : « سنة ثلاث وأربعين وأربع مائة ، فلما كان في ربيع الآخر خطب ( وزير الخليفة ) بجامع براثا مأوى الشيعة ، وأسقط من الأذان حي على خير العمل ، ودق الخطيب المنبر بالسيف ، وذكر في خطبته العباس » .
هذا ، وقد وصف ابن كثير سيطرة السلاجقة على بغداد ، وفرضهم مذهبهم ، ومصادرتهم الحرية المذهبية التي كانت زمن الدولة البويهية الشيعية ! فقال في النهاية : 12 / 86 : « وفيها أُلْزِمَ الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل ، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح بعد حي على الفلاح : الصلاة خير من النوم مرتين ، وأزيل ما كان على أبواب مساجدهم من كتابة : محمد وعلي خير البشر ، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة ! وذلك أن نَوْءَ الرافضة اضمحل لأن بني بُويَهْ كانوا حكاماً وكانوا يقوونهم وينصرونهم ، فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم ، والله المحمود أبداً على طول المدى . وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض ، لما كان يتظاهر به من الرفض والغلو فيه ، فقتل على باب دكانه ، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره » ! انتهى .
وهكذا يحمدون الله على توفيقهم لظلم الناس ، وإكراههم على الأذان والعبادة على مذهبهم ، ويفتخرون بقتل أحد علماء الشيعة وصلبه على باب دكانه ، واضطرار مرجع الشيعة إلى الهرب من بغداد إلى النجف ! وقد تأسفوا لأنهم لم يستطيعوا قتله ، لكنهم نهبوا داره ومكتبته !
وفي مقابل هذا القمع الحنبلي لم يسجِّل الرواة أن الشيعة أجبروا أحداً على صلاتهم ومذهبهم ، أو قتلوا علماء السنة عندما كانت لهم كلمة ، كما في دولة البويهيين ، ودولة الخليفة الناصر العباسي الشيعي ، ودولة السلاطين المغول الشيعة ، بل احترموا علماء المذاهب وعامتهم ! وبهذا صح قول ابن الصيفي :
فحسبكمُ هذا التفاوتُ بيننا وكل إناءٍ بالذي فيه يَنْضَحُ .
من العوائل الشيعية في بغداد
آل يقطين : في رجال النجاشي / 273 : « علي بن يقطين بن موسى البغدادي ، سكنها وهو كوفي الأصل ، مولى بني أسد ، أبو الحسن ، وكان أبوه يقطين بن موسى داعية ( للعباسيين ) طلبه مروان ( الحمار ) فهرب . وولد علي بالكوفة سنة أربع وعشرين ومائة ، وكانت أمه هربت به وبأخيه عبيد إلى المدينة حتى ظهرت الدولة رجعت . مات سنة اثنتين وثمانين ومائة في أيام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) » .
وفي فهرست ابن النديم / 279 : « وهربت أم علي به وبأخيه عبيد بن يقطين إلى المدينة فلما ظهرت الدولة الهاشمية ظهر يقطين وعادت أم على بعلي وعبيد . فلم يزل يقطين في خدمة أبي العباس وأبي جعفر ( المنصور ) ومع ذلك يرى رأى آل أبي طالب ويقول بإمامتهم ، وكذلك ولده . وكان يحمل الأموال إلى جعفر بن محمد بن علي والألطاف ، ونمَّ خبره إلى المنصور والمهدي فصرف الله عنهم كيدهما . وتوفي علي بن يقطين بمدينة السلام سنة اثنتين وثمانين ومائة ، وسِنُّهُ سبع وخمسون سنة ، وصلى عليه ولي العهد محمد بن الرشيد . وتوفي أبوه بعده في سنة خمس وثمانين ومائة . ولعلي بن يقطين ، كتاب ما سئل عنه الصادق من أمور الملاحم . كتاب مناظرته للشاك بحضرة جعفر » .
وفي ذيل تاريخ بغداد : 4 / 202 : « وكانت له وصلة بعيال جعفر بن محمد الصادق ، فأتت منزله بابنيها ، فاستدنى جعفر علياً وأقعده على حجره ومسح على رأسه . فلما ظهر بنو العباس ظهر يقطين وعادت أم علي بعلي وعبيد . . . ولما نقل المهدي إلى الرصافة صُيِّرَ في حجر يقطين ، فنشأ المهدي وعلي بن يقطين كأنهما أخوان ، فلما أفضت الخلافة إلى المهدي استوزر علي بن يقطين وقدمه ، وجعله على ديوان الزمام وديوان البسر والخاتم ، فلم يزل في يده حتى توفى المهدي وأفضى الأمر إلى الهادي ، فأقره على وزارته ولم يشرك معه أحداً من أمره ، إلى أن توفي الهادي وصار الأمر إلى الرشيد فأقره شهراً ، ثم صرفه بيحيى بن خالد البرمكي » .
وقال العلامة في الخلاصة / 174 : « علي بن يقطين بن موسى البغدادي ، سكن بغداد وهو كوفي الأصل ، روى عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) حديثاً واحداً ، وروى عن أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) فأكثر ، وكان ثقة جليل القدر ، له منزلة عظيمة عند أبي الحسن ( عليه السلام ) ، عظيم المكان في هذه الطائفة . قال أبو عمرو الكشي : علي بن يقطين مولى بني أسد وكان يبيع الأبزار وهي التوابل ، ومات في زمن أبي الحسن موسى وأبو الحسن ( عليه السلام ) محبوس سنة ثمانين ومائة . . . عن داود الرقي قال : دخلت على أبي الحسن ( عليه السلام ) يوم النحر فقال مبتدئاً : ما عرض في قلبي أحد وأنا في الموقف إلا علي بن يقطين ، فإنه ما زال معي وما فارقني حتى أفضت » !
وقال السيد الخوئي في المعجم : 13 / 242 ، ملخصاً : « علي بن يقطين ( رحمه الله ) ثقة جليل القدر ، له منزلة عظيمة عند أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) عظيم المكانة في الطائفة . . .
ولعلي بن يقطين رضي الله عنه كتب منها : كتاب ما سأل عنه الصادق ( عليه السلام ) من الملاحم ، وكتاب مناظرة الشاك بحضرته ( عليه السلام ) ، وله مسائل عن أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) أخبرنا بكتبه ومسائله ، الشيخ المفيد ( رحمه الله ) والحسين بن عبيد الله . . .
وعده ابن شهرآشوب من خواص أصحاب الكاظم ( عليه السلام ) .
سمعت مشايخ أهل بيتي يحكون أن علياً وعبيداً ابني يقطين ، أدخلا على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقال : قربوا مني صاحب الذؤابتين وكان علياً ، فقرب إليه فضمه إليه ودعا له بالخير .
لما قدم أبو إبراهيم موسى بن جعفر ( عليه السلام ) العراق ، قال له علي بن يقطين : أما ترى حالي وما أنا فيه ؟ فقال : يا علي إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي !
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) لعلي بن يقطين : إضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثاً ، فقال علي : جعلت فداك ، وما الخصلة التي أضمنها لك وما الثلاث اللواتي تضمنهن لي ؟ قال : فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : الثلاث اللواتي أضمنهن لك أن لا يصيبك حر الحديد أبداً بقتل ، ولا فاقة ، ولا سقف سجن ، قال : فقال علي : وما الخصلة التي أضمنها لك ؟ قال : فقال : يا علي ، وأما الخصلة التي تضمن لي أن لا يأتيك ولي أبداً إلا أكرمته ، قال : فضمن له علي الخصلة وضمن له أبو الحسن الثلاث .
وقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إن لله مع كل طاغية وزيراً من أوليائه يدفع به عنهم » .
آل نوبخت : كان المنصور عاملاً لابن المهلب على خراج بليدة في الأهواز كما ذكر الذهبي ، فكسر الخراج أي سرقه ، فحبسه ابن المهلب ! وتعرَّف في السجن على نوبخت المنجم جد آل نوبخت البغداديين . ( تاريخ بغداد : 10 / 53 ) .
وفي تاريخ بغداد : 10 / 56 ، وتاريخ دمشق : 32 / 53 ، وسير الذهبي : 7 / 88 ، أن نوبخت أخبر المنصور بأنه سيحكم بلاد المسلمين ، فاستبشر المنصور بذلك وكتب له : « بسم الله الرحمن الرحيم ، يا نوبخت إذا فتح الله على المسلمين وكفاهم مؤونة الظالمين ورد الحق إلى أهله ، لم نغفل ما يجب من حق خدمتك إيانا . وكتب أبو جعفر . قال نوبخت : فلما ولي الخلافة صرت إليه فأخرجت الكتاب ، فقال : أنا له ذاكر ولك متوقع ، فالحمد لله الذي صدق وعده وحقق الظن .
وجعله المنصور منجمه الخاص بمرتبة وزرائه ، وأقطعه محلة النوبختية ببغداد ، وهي منطقة سوق الشورجة . وكان منهم وزراء وعلماء وأطباء ومنجمون ومترجمون إلى العربية : « وفي القرنين الثالث والرابع كان لكثير من النوبختية الشيعة نفوذ كبير في الدولة العباسية ، منهم : الحسين بن علي بن العباس ، الذي كان يتولى الكتابة للأمير أبي بكر محمد بن رائق ، وكان في مرتبة الوزراء ببغداد ، مدبر الأمور حاكماً على الدولة . وقال الذهبي في علي بن عباس النوبختي : رئيس ولي وكالة المقتدر توفي 324 . ( مجلة تراثنا : 55 / 211 ) .
وفي هامش الذريعة : 1 / 69 : « آل نوبخت بيت جليل من متكلمي الإمامية ، جدهم نوبخت كان من الفرس ومن أفاضل المنجمين صاحب المنصور الدوانيقي ، وقام مقامه ولده الذي غير المنصور اسمه وسماه بأبي سهل ، وكان الفضل بن أبي سهل هذا صاحب التصانيف وخازن كتب دار الحكمة للرشيد ، وقام مقامه ولده إسحاق بن الفضل ، وله ولدان إبراهيم بن إسحاق صاحب الياقوت وعلي بن إسحاق الذي ذكر في رجال الشيخ أنه من أصحاب الرضا والجواد وبقي إلى عصر الهادي ( عليهم السلام ) .
وأما إسماعيل بن علي صاحب إبطال القياس ، فقد صنف في فنون العلوم أكثر من ثلثين كتاباً ذكرها ابن النديم . وقال النجاشي إنه شيخ المتكلمين من أصحابنا لقي العسكري ( عليه السلام ) وروى عنه وحضر وفاته سنة 260 ، وهو خال الحسن بن موسى النوبختي صاحب الفرق والمطبوع غير مرة ، وتخرج عليه جماعات كأبي الجيش المظفر بن محمد البلخي وأبي الحسن الناشي والحمدوني والسوسنجردي وغيرهم . وهو الذي أظهر كذب الحسين بن منصور الحلاج ومحمد بن علي الشلمغاني » .
وقد نبغ من آل نوبخت علماء كبار وأولياء ، وكان منهم ولي الله أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي ( قدس سره ) السفير الثالث للإمام المهدي صلوات الله عليه ، وستأتي ترجمته . ( راجع في بني نوبخت : فهرست ابن النديم / 225 و 333 ، والشيعة وفنون الإسلام / 68 ، وتهذيب المقال : 2 / 195 ، وأعيان الشيعة : 2 / 93 ) .
آل فرات ، وهم من العوائل المعروفة البارزة في بغداد وكان منهم رئيس وزراء وكذا الباقطانيون ، وكذا آل بسطام الجعفيين ويقال لهم بنو سبرة ، وكذا آل حمدان التغلبيين أمراء الموصل وحلب ، وكان بعضهم في بغداد ، ثم آل مقلة ، ومنهم الخطاط المشهور علي بن مقلة ، الذي طور الخط العربي .
وفي نشوار المحاضرة / 1066 ، دافع الوزير ابن الفرات عن إعطائه مناصب كبيرة للشيعة بأنهم أكفأ من غيرهم ، قال : « يتمعضني الناس بتعطيلي مشايخ الكتاب وتفريقي الأعمال على آل بسطام وآل نوبخت ، والله لولا أنه لا يحسن تعطيل نفر من العمال وقد قلدتهم ، لما استعملت في الدنيا إلا آل نوبخت دون غيرهم . قال أبو الحسين : وإنما كان يتعصب لآل بسطام لرياسة أبي العباس عليه وللمذهب ، ويتعصب لآل نوبخت للمذهب » .
المراسم الدينية عند الشيعة في بغداد
تكاثر الوجود الشيعي في بغداد مع سرعة عمرانها ، فسكن فيها كثير من شيعة الكوفة والمدينة وبلاد الشام وإيران ، ولم يمض قرن من الزمان حتى صاروا مع الشيعة السابقين جمهوراً واسعاً ، وبرزت منهم شخصيات علمية وسياسية .
وكانت أهم مواسمهم الدينية زيارة الإمام موسى الكاظم والجواد ( عليهما السلام ) في بغداد وزيارة الإمام الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء . وكانوا يقيمون مراسم عاشوراء في محلاتهم فيعطلون أسواقهم ويرفعون أعلام السواد ، ويعقدون مجالس التعزية ، ينشدون فيها الشعر ويقرؤون فيها سيرة الحسين ( عليه السلام ) ومقتله .
وكان ذلك يثير المتعصبين فيعملون لمنع إقامة المآتم والزيارة ، ويحركون الحكومة ضدهم لتمنعهم ، فكانت تمنع إقامة مراسم عاشوراء في بعض السنوات فتحدث مصادمات بين الشرطة والشيعة . وكانت أحياناً لا تستجيب للحنابلة فيتصدون هم لمنعها بالقوة ، فتحدث مصادمات بينهم وبين الشيعة !
وكان مجسمة الحنابلة يكايدون الشيعة ، فيعلنون الفرح في محلاتهم ببغداد يوم عاشوراء ! تقليداً لبني أمية الذين جعلوه عيداً واحتفلوا فيه ، وأفتوا باستحباب توزيع الحلوى والتوسعة على العيال ، وأفتوا بصيامه شكراً لله على انتصار يزيد على الحسين ( عليه السلام ) ووضعوا أحاديث باستحباب الفرح يوم عاشوراء !
قال العجلوني في كشف الخفاء : 2 / 234 : « من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم ترمد عيناه ، رواه الحاكم والبيهقي في شعبه والديلمي عن ابن عباس ، رفعه . وقال الحاكم : منكر ، وقال في المقاصد : بل موضوع . وقال في اللآلئ بعد أن رواه عن ابن عباس من طريق الحاكم : حديث منكر ! والإكتحال لا يصح فيه أثر فهو بدعة ، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ، وقال الحاكم أيضاً : الاكتحال يوم عاشوراء لم يرو عن النبي ( ص ) فيه أثر ، وهو بدعة ابتدعها قتلة الحسين رضي الله عنه وقبحهم . نعم رواه في الجامع الصغير بلفظ : من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً . . وقال ابن رجب في لطائف المعارف : كل ما روى في فضل الاكتحال والإختضاب والاغتسال فيه موضوع لم يصح » .
ونص أحد فقهاء السنة على أن الفرح بعاشوراء بدعةٌ من يزيد وابن زياد !
قال البكري الدمياطي في إعانة الطالبين : 2 / 301 : « قال العلامة الأجهوري : أما حديث الكحل فقال الحاكم إنه منكر ، وقال ابن حجر إنه موضوع ، بل قال بعض الحنفية إن الاكتحال يوم عاشوراء لما صار علامةً لبغض آل البيت وجب تركه . قال : وقال العلامة صاحب جمع التعاليق : يكره الكحل يوم عاشوراء ، لأن يزيداً وابن زياد اكتحلا بدم الحسين هذا اليوم ، وقيل بالإثمد ، لتقر عينهما بفعله » !
فكان حنابلة بغداد المتعصبون ومعهم بعض المسؤولين العباسيين يقلدون بني أمية في الفرح يوم عاشوراء !
ثم رأى أتباع بني أمية أن عملهم شماتة مفضوحة بآل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاخترعوا صوم يوم عاشوراء شكراً لله على نجاة بني إسرائيل ليغطوا به على عيد يزيد ! ودونوه في صحيح بخاري ومسلم : « كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم ! فقال رسول الله ( ص ) : فصوموه أنتم » ( مسلم : 3 / 150 ، ونحوه بخاري : 2 / 251 ) .
والى الآن ما زلنا نرى في السعودية صوم الشكر ومظاهر الفرح بإقامة الأعراس في يوم عاشوراء ! وكل ذلك إرثٌ من بني أمية ومجسمة حنابلة بغداد !
وقد سجل المؤرخون حدوث اضطرابات سنوية في بغداد بسبب اعتداء الحنابلة أو السلطة على الشيعة لمنعهم من إقامة مراسم عاشوراء ، أو منعهم من زيارة الإمامين الكاظم والجواد ( عليهما السلام ) في بغداد ، والحسين ( عليه السلام ) في كربلاء .
قال الذهبي في تاريخه : 26 / 17 : « أحداث سنة أربع وخمسين وثلاث مائة : فيها عمل يوم عاشوراء ببغداد مأتم الحسين كالعام الماضي » .
وقال في حوادث سنة 355 : « أقيم المأتم يوم عاشوراء ببغداد على العادة » .
وقال في حوادث 382 : « فمنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح ( شعارات السواد ) ، كان كذلك يعمل من نحو ثلاثين سنة » .
« في عاشوراء أغلق أهل الكرخ أسواقهم ، وعلقوا عليها المسوح وناحوا ، وذلك لأن السلطان انحدر عنهم فوقع القتال بينهم وبين السنة ثم أنزل المسوح وقتل جماعة » . ( تاريخ الذهبي : 29 / 5 ) .
« تقدم إلى أهل الكرخ أن لا يعملوا مأتماً يوم عاشوراء فأخلفوا ، وجرى بين أهل السنة والشيعة ما زاد على الحد من القتل والجراحات » . ( تاريخ الذهبي : 30 / 5 ) .
« وفي يوم عاشوراء أغلق أهل الكرخ الدكاكين وعلقوا المسوح ، وأقاموا المأتم على الحسين ، وجددوا ما بطل من مدة . فقامت عليهم السنة ، وخرج مرسوم الخليفة بإبطال ذلك ، وحبس جماعة مدة أيام » . ( تاريخ الذهبي : 30 / 291 ) .
وقال في الكامل في حوادث سنة 358 : « وفيها عمل أهل باب البصرة يوم السادس والعشرين من ذي الحجة زينة عظيمة وفرحاً كثيراً ، وكذلك عملوا ثامن عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء ، وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب وتعلق الثياب للزينة اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الغدير ، وكانوا يعملون يوم عاشوراء من المأتم والنوح وإظهار الحزن ما هو مشهور ، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك بعد يوم الغدير بثمانية أيام مثلهم ، وقالوا هو يوم دخل النبي ( ص ) وأبو بكر الغار ، وعملوا بعدة عاشورا بثمانية أيام مثل ما يعملون يوم عاشوراء ، وقالوا هو يوم قتل مصعب بن الزبير » .
وفي تاريخ الذهبي : 39 / 5 : « ظهر في أيام عاشوراء من الرفض ببغداد أمر عظيم حتى سبوا الصحابة ، وكانوا في الكرخ إذا رأوا مكحلاً ضربوه » .
ولم يذكر الذهبي أن المكحلين والمخضبين كانوا من مجسمة الحنابلة يأتون إلى أحياء الشيعة للتحدي ، فقد روى الصفدي في الوافي ( 11 / 300 ) قول أبي الحسين الجزار :
« ويعود عاشوراء يذكرني * رزء الحسين فليت لم يعدِ
فليتَ عيناً فيه قد كُحلتْ * بمسَرَّةٍ لم تَخْلُ من رمدِ
ويداً به لشماتةٍ خُضِبَتْ * مقطوعةً من زندها بيدي »
ثم أخذت السلطة تستدعي علماء سنيين معتدلين للخطابة في بغداد ، ليجمعوا الشيعة والسنة على حب أهل البيت ( عليهم السلام ) والترضي على أبي بكر وعمر ، وقد سجل المؤرخون خبر مجالس ابن الجوزي الكبيرة ، الذي كان يروي فيها مناقب أهل البيت ( عليهم السلام ) ويترضى عن الشيخين وعن الإمام الحسين ( عليه السلام ) ويلعن يزيد ومن شاركه في قتل الحسين ( عليه السلام ) ، وقد ألف كتاباً في جواز لعن يزيد .
قال ابن الجوزي عن سنة 568 : « جلست يوم عاشوراء بجامع المنصور ، فحضر من الجمع ما حزر بمائة ألف » ( تاريخ الذهبي : 39 / 43 ) . وقال : « تقدم إليَّ بالجلوس تحت المنظرة ، فتكلمت في ثالث المحرم والخليفة حاضر ، وكان يوماً مشهوداً . ثم تقدم إليَّ بالجلوس يوم عاشوراء فكان الزحام شديداً زائداً على الحد ، وحضر أمير المؤمنين » . ( تاريخ الذهبي : 40 / 5 ) .
ولم تعجب هذه المجالس الذهبي فقال في تاريخه ( 41 / 368 ) عن أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني ، إمام الشافعية : « قال ابن النجار : كان رئيس أصحاب الشافعي وكان إماماً في المذهب والخلاف والأصول والتفسير والوعظ . . . وكان يجلس بالنظامية وبجامع القصر ويحضر مجلسه أمم . . ولما ظهر التشيع في زمان ابن الصاحب التمس العامة منه يوم عاشوراء على المنبر أن يلعن يزيد فامتنع ، ووثبوا عليه بالقتل مرات فلم يُرَعْ ولا زلَّ له لسان ولا قدم وخلص سليماً . وفي أيام مجد الدين بن الصاحب صارت بغداد كالكرخ وجماعة من الحنابلة تشيعوا ، حتى أن ابن الجوزي صار يسجع ويلغز إلا رضي الدين القزويني فإنه تصلب في دينه وتشدد »
يقصد الذهبي أن ابن الجوزي مال إلى الشيعة ، ولا يصح قوله ، بل كان ابن الجوزي يعتقد بجواز لعن يزيد ، وألف كتاباً في ذلك .
وفي النهاية لابن كثير : 12 / 33 : « وفيها ( سنة 420 ) ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحلَّ بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلاً ذريعاً وصلباً شنيعاً ، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي ، فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار . . وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة ، وقرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله ، فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة ، وفيه الرد على أهل البدع ، وتفسيق من قال بخلق القرآن . . .
وفي يوم الاثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضاً كلهم ، وقرئ عليهم كتاب آخر طويل يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع . . . وذكر فضائل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة ، وأخذت خطوطهم بموافقة ما سمعوه . وعزل خطباء الشيعة وولى خطباء السنة ، ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره . وجرت فتنة بمسجد براثا وضربوا الخطيب السني بالآجر ، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه ، فانتصر لهم الخليفة وأهان الشيعة وأذلهم » !
وقال ابن خلدون ( 4 / 477 ) : « كانت مدينة بغداد قد احتفلت في كثرة العمران بما لم تنته إليه مدينة في العالم منذ مبدأ الخليقة فيما علمناه . . . وربما حدثت الفتن من أهل المذاهب ومن أهل السنة والشيعة ، من الخلاف في الإمامة ومذاهبها ، وبين الحنابلة والشافعية وغيرهم ، من تصريح الحنابلة بالتشبيه في الذات والصفات ونسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد وحاشاه منه ، فيقع الجدال والنكير ، ثم يفضي إلى الفتنة بين العوام ، وتكرر ذلك منذ حُجِر الخلفاء .
ولم يقدر بنو بُويَهْ ولا السلجوقية على حسم ذلك منها ، لسكنى أولئك ( البويهيين ) بفارس وهؤلاء ( السلاجقة ) بأصبهان ، وبعدهم عن بغداد ، وإنما تكون ببغداد شحنة ( حامية عسكرية ) تحسم ما خف من العلل ، ما لم ينته إلى عموم الفتنة » .
منعت السلطة زيارة مشهد الكاظمين والحسين ( عليهم السلام )
شملت تعديات السلطة ومجسمة الحنابلة زوار الإمامين الكاظمين والإمام الحسين ( عليهما السلام ) ، ففي الكافي ( 1 / 525 ) : « خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحاير ، فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له : إلق بني الفرات والبرسيين وقل لهم : لا يزوروا مقابر قريش فقد أمر الخليفة أن يتفقد كل من زار فيقبض عليه » .
ولم يكتف الخليفة بمنع الشيعة من زيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) بل أراد هدمه !
ففي أمالي الشيخ الطوسي / 328 : « بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم ( المتوكل ) أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) فيصير إلى قبره منهم خلق كثير ، فأنفذ قائداً من قواده وضم إليه كتفاً من الجند كثيراً ليشعب قبر الحسين ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره ( عليه السلام ) . فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر ، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين ، فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه وقالوا : لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته ، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا ، فكتب بالأمر إلى الحضرة فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها والإنكفاء إلى المصر ! فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين ، فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين وأنه قد كثر جمعهم كذلك وصار لهم سوق كبير ، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند ، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين ، ونبش القبر وحرث أرضه وانقطع الناس عن الزيارة ، وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة رضي الله عنهم ، فقتل ولم يتم له ما قَدَّر » .
وفي أمالي الطوسي / 327 : « قال : حدثني أبو برزة الفضل بن محمد بن عبد الحميد قال : دخلت على إبراهيم الديزج وكنت جاره ، أعوده في مرضه الذي مات فيه فوجدته بحال سوء ، وإذا هو كالمدهوش وعنده الطبيب ، فسألته عن حاله وكانت بيني وبينه خلطة وأنس يوجب الثقة بي والانبساط إليَّ ، فكاتمني حاله وأشار لي إلى الطبيب ، فشعر الطبيب بإشارته ولم يعرف من حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله ، فقام فخرج وخلا الموضع ، فسألته عن حاله فقال : أخبرك والله وأستغفر الله : إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين ، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر ، فوافيت الناحية مساء معنا الفعلة والروزكاريون ، ( العمال الميامون ) معهم المساحي والمرور ، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه ، فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت ، فذهب بي النوم فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية وجعل الغلمان ينبهونني ، فقمت وأنا ذعر فقلت للغلمان : ما شأنكم ؟ قالوا : أعجب شأن . قلت : وما ذاك ؟ قالوا : إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر ، وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب ، فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا !
وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض فقلت : إرموهم ، فرموا فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهمٌ منها إلا في صاحبه الذي رمى به فقتله ! فاستوحشت لذلك وجزعت وأخذتني الحمى والقشعريرة ورحلت عن القبر لوقتي ! ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لما لم أبلغ في القبر جميع ما تقدم إلي به !
قال أبو برزة : فقلت له : قد كفيت ما تحذر من المتوكل ، قد قتل بارحة الأولى وأعان عليه في قتله المنتصر ، فقال لي : قد سمعت بذلك وقد نالني في جسمي ما لا أرجو معه البقاء ! قال أبو برزة : كان هذا في أول النهار فما أمسى الديزج حتى مات .
قال ابن خشيش : قال أبو الفضل : إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة ( عليها السلام ) فسأل رجلاً من الناس عن ذلك فقال له : قد وجب عليه القتل إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر . قال : ما أبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر ، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر » !
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة