الجحود أمام اليقين بقدرة الخالق
المؤلف:
الشيخ ماجد ناصر الزبيدي
المصدر:
التيسير في التفسير للقرآن برواية أهل البيت ( عليهم السلام )
الجزء والصفحة:
ج 5 ص390-393.
2025-07-09
576
الجحود أمام اليقين بقدرة الخالق
قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 61 - 68].
قال الشيخ الطبرسي ( رحمه اللّه تعالى ) : ثم عجب سبحانه ورسوله والمؤمنون من إيمان المشركين بالباطل مع اعترافهم بأن اللّه هو الخالق الفاعل ، فقال : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي : إن سألت يا محمد هؤلاء المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي : من أنشأهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود .
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي : من ذللهما وسيرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا تختلف . لَيَقُولُنَّ في جواب ذلك اللَّهُ الفاعل لذلك ، لأنهم كانوا يقولون بحدوث العالم ، والنشأة الأولى . فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي : فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة حجر لا ينفع ، ولا يضر.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} أي : يوسعه لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي : ويضيق ذلك على قدر ما تقتضيه المصلحة . وإنما خص بذكر الرزق على الهجرة ، لئلا يخلفهم عنها خوف العيلة إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالح عباده فيرزقهم بحسبها وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ في الجواب عن ذلك اللَّهُ قُلِ يا محمد عند ذلك الْحَمْدُ لِلَّهِ على كمال قدرته ، وتمام نعمته ، وعلى ما وفقنا للاعتراف بتوحيده ، والإخلاص في عبادته . ثم قال : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ توحيد ربهم مع إقرارهم بأنه خالق الأشياء ، ومنزل المطر من السماء ، لأنهم لا يتدبرون ، وعن الطريق المفضي إلى الحق يعدلون ، فكأنهم لا يعقلون .
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ لأنها تزول كما يزول اللهو واللعب ، ويستمتع بها الإنسان مدة ، ثم تنصرم وتنقطع .
- وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني الجنة لَهِيَ الْحَيَوانُ أي : الحياة على الحقيقة ، لأنها الدائمة الباقية التي لا زوال لها ، ولا موت فيها ، وتقديره : وإن الدار الآخرة لهي دار الحيوان ، أو ذات الحيوان ، لأن الحيوان مصدر كالنزوان والغليان ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه . والمعنى : إن حياة الدار الآخرة هي الحياة التي لا تنغيص فيها ، ولا تكدير . لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الفرق بين الحياة الفانية ، والحياة الباقية الدائمة أي : لو علموا لرغبوا في الباقي ، وزهدوا في الفاني ، ولكنهم لا يعلمون .
{فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أخبر اللّه سبحانه عن حال هؤلاء الكفار فقال : إنهم إذا ركبوا في السفن في البحر ، وهاجت به الرياح ، وتلاطمت به الأمواج ، وخافوا الهلاك . أخلصوا الدعاء للّه مستيقنين أنه لا يكشف السوء إلا هو ، وتركوا شركاءهم فلم يطلبوا منهم إنجاءهم .
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي : فلما خلصهم إلى البر ، وأمنوا الهلاك ، عادوا إلى ما كانوا عليه من الإشراك معه في العبادة
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إن جعلت اللام للأمر فمعناه التهديد أي :
ليجحدوا نعم اللّه في إنجائه إياهم ، وليتمتعوا بباقي عمرهم ، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم . وإن جعلتها لام كي : فالمعنى أنهم يشركون ليكفروا . . .
أوَلَمْ يَرَوْا أي : ألم يعلم هؤلاء الكفار أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً يأمن أهله فيه من القتل والغارة وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي : يقتل بعضهم بعضا فيما حولهم ، وهم آمنون في الحرم . ذكرهم سبحانه النعمة بذلك ، ليذعنوا له بالطاعة ، وينزجروا عن عبادة غيرهم . ثم قال مهددا لهم : أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أي : يصدقون بعبادة الأصنام ، وهي باطلة مضمحلة وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ التي أنعم بها عليهم يَكْفُرُونَ .
ثم قال : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي : لا ظالم أظلم ممن أضاف إلى اللّه ما لم يقله من عبادة الأصنام وغيرها ، أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ أي بالقرآن . وقيل بمحمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم . لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ هذا استفهام تقرير أي : أما لهؤلاء الكفار المكذبين مثوى في جهنم . وهذا مبالغة في إنجاز الوعيد لهم « 1 ».
_______________
( 1 ) مجمع البيان : ج 8 ، ص 40 - 41 .
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة