تقهقر عشرة الآلاف إغريقي (الخالدين)
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج13 ص 563 ــ 565
2025-07-08
351
ليس في أعمال بني الإنسان الخالدة ما يسترعي إعجابنا أكثر من التقهقر الذي قام به عشرة الآلاف الخالدين، ففي الصباح الذي تلى موقعة «كونكسا» كان الإغريق على أهبة الزحف لشق طريق لهم للحاق برئيسهم «كورش»، ولكنهم عندئدٍ سمعوا بموته وفرار أتباعه من الفرس، فلم يهنوا ولم يخافوا، وأرسل «كليركوس» إلى «ارياوس Ariaeus » القائد الفارسي يعرض عليه تاج البلاد، غير أنه اعتذر عن ذلك بحزم بسبب أن أشراف «فارس» لا يقبلونه ملكًا عليهم.
وقد وصل في آخر النهار نفسه رسلٌ من قِبل «تيسافرنس» قائد «أرتكزركزس» يطلبون إلى الجنود الإغريق أن يُسَلِّمُوا أسلحتَهم، وأن يَقصدوا باب قصر الملك؛ ليحصلوا منه على أي شروط في صالحهم بقدر المستطاع، وقد سبب هذا الطلب صخبًا شديدًا بينهم، ولكنهم بعد أن ناقشوا الموقف ووصل إليهم رفض «ارياوس» وقرروا أن زحفهم لن يكون من الحكمة في شيء.
وقد بدأ تقهقرهم المشهور أثناء الليل فوصلوا ثانية إلى المكان الذي غادروه في اليوم الذي كان قبل المعركة، وهنا انضموا إلى جنود «ارياوس»، وبعد ذلك عقد مجلس حربي أظهر لهم فيه القائدُ الفارسيُّ أنَّ مسألة المؤنة تقف حجر عثرة في سبيل تقهقُرهم على الطريق التي أتوا منها، ونصح لهم باتخاذ طريقٍ أطول نحو الشمال؛ تفاديًا من الأخطار، وأضاف أنه باقتحام مسلكين أو ثلاثة في وسط جُنُود العدو يُمكنُهُم أن ينجوا من جيش الملك العظيم الذي كان جيشه يسير ببطء، وفي الصباح سارتْ قوتُهُم المتجمعةُ شمالًا على حسب الخطة المرسومة، غير أنَّ دهشتهم كانت عظيمة عندما تصادموا مع جيش الملك العظيم.
وقد ارتاع الفرسُ أكثر من الإغريق الذين كانوا في فزع طوال الليل، وفي اليوم التالي بدأت المفاوضات لعقد هدنة على يد «تيسافرنس»، وبعد نقاش طويل اتفق الطرفان على أن يعود الإغريقُ إلى وطنهم دون أية مضايقة، وأخيرًا ساروا في طريقهم، وقد صحبهم جنود «تيسافرنس» و«ارياوس» — وقد اصطلح الأخيرُ مع الملك العظيم في أثناء ذلك — ووصلوا نهر «دجلة» وعبروه على ظهر سبعة وثلاثين قاربًا.
وقد أدى بهم السير بعد أربع مراحل إلى «أوبيس Opis» وموقعُها معروفٌ الآن، وبعد أنْ مَرُّوا بها وصلوا إلى نهر «الذاب الأصفر»، وقد أغرى هنا «تيسافرنس» القائد «كليركوس» وقُوَّادًا آخرين إلى عَقْدِ اجتماع، ولكنه خَانَهُمْ وقبض عليهم، على أن هذه المحنة التي تُعتبر أقسى محنة مرت بجماعة من الناس في مركزهم؛ لم تَفُتَّ في عضد الإغريق الشجعان وتجعلهم يستسلمون كما كان لا بد من حدوثه مع أيَّةِ قوة أُخرى، وفي الحال انتخبوا قائدَ الفيلق الأسبرتي قائدًا عامًّا عليهم، كما انتخبوا «اكزنوفون» أركان حرب له.
وبدأ السير من جديد في وجه الفرس الذين أظهروا لهم العداء صراحة، وقد سار هذا الجيش الصغير مأخوذًا بالمدن القديمة الآشورية، ولكنه على الرغم من الاتفاق الذي حدث بين الطرفين كان يضايقهم من وقت لآخر القائد «تيسافرنس» الذي كانت هجماته على أيَّةِ حال ضعيفة تنقصُها الشجاعةُ الجريئةُ، هذا فضلًا عن أنَّ قُوَّتَه كانت تنسحب مبكرة دائمًا؛ لأجل أن تُعسكر على مسافة من الهيلانيين الذين كان الفرس يخشون بأسَهم.
وفي نهاية الأمر تنصل الفرسُ من القتال، غير أنَّ الصعاب التي كان يلاقيها «الخالدون» في جبال «الكرد» وفي هضاب «أرمينيا» كانت أعظم من التي تَخَلَّصُوا منها من قبل، وقد كانت هجماتُ القبائل المتوحِّشَة عليهم تُصَدُّ باستمرار، وذلك باتباع خطط جبلية جميلة كان رجال الهضاب من الإغريق يحذقونها، كما أنهم كانوا يحصلون على المؤن — بوجه عام — بشيءٍ من الصعوبة، غير أنهم كانوا يواجهون مشاقَّ جسمانية عظيمة، كتحمل سقوط الثلج والبرد الشديد.
ومما يدل على قوة هذا الجيش المعنوية وعلى نفوذ «اكزنوفون» عليهم؛ أن خسارتهم في الأرواح كانت ضئيلة جدًّا، وقد ساروا قدمًا مارين إلى الغرب من بحيرة «وان» وعبر وسط «آسيا الصغرى» إلى أن تَسَلَّقُوا أخيرًا في يوم سعيد ممرًّا رأوْا من خلاله البحر، ووصلوا إلى «ترابيزوس Trapezus » (ترابيزوند الحالية)، بعد أنْ أَتَمُّوا عملًا عظيمًا لم يَفُقْهُ من قبل عملٌ آخرُ مماثل.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في العالم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة