ديانة الميديين والفرس
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج13 ص 493 ــ 495
2025-06-28
321
تدل أول بادرة لاحت لنا عن الشعب الآري على أنه كان من طبقة عباد الطبيعة؛ فقد كان يعبد السماء الصافية والنور والنار والرياح والغيث التي تمنح الحياة بوصفها كائنات مقدسة، في حين أنه كان يعد الظلام والقحط شيطانين. وقد كان للسماء في تعداد المعبودات المكانة الأولى، وكانت الشمسُ تدعى «عين السماء»، كما كان البرق يدعى «ابن السماء»، وقد يدعي البعضُ أنَّ معظم الديانات تحتوي على هذه الأساطير التي نجدها في واقع الأمر منتشرةً انتشارًا واسعًا، ولكن نجد في حالة الآريين أنه لا يوجدُ استعطافُ الأرواح الشريرة، كما هي الحال عند السوماريين، بل على العكس كان لا بد من مواجهتها والتغلُّب عليها بالأرواح الخيرة الطيبة التي كانت بدورها تستندُ كثيرًا في نجاحها على الصلوات والقربات التي يقدمها الإنسان، وعلى ذلك كان بدهيًّا — من بادئ الأمر — أن مكانة الإنسان كانت ذاتَ قدر مَكِين، كما كانت حالُهُ تَدُلُّ على الرجولة نحو آلهته الذين كان يتعبد إليهم طلبًا للمساعدة، يُنشد لهم أناشيدَ المدح والثناء، ويقدم لهم الضحايا، وفوق كل ذلك كان يصب لهم شرابًا مقربًا من «الهاؤما Haoma» (1) المقدسة، وكان الآري يشعر بأنه بمثل هذه الصلوات وبمثل هذه القربات قد ساعد الآلهة الأبرار على أن يحاربوا في جانبه قوى القحط والظلام، وإنه لمن الأهمية البالغة حقًّا أن نقرأ كيف أن إله أسماء «فارونا Varuna» وهو «أورانوس Ouranos» عند الإغريق كان يُعبد بوصفه الإله الأعلى الذي كان لزامًا على الناس أنْ تُوَجِّهَ إليه الصلوات، وكيف أن الصفات الخلقية قد تجمعتْ حوله، وكيف أنه بوجه خاص قد مقت الكذب، وتلك حقيقةٌ كان لها تأثيرُها العميق على الإيرانيين، كما يمكن أن يشاهد في نقوش الملك «دارا الأول» وكذلك في صفحات تاريخ «هردوت».
وكان يشترك مع السماء الأثير الوضاء الذي كان يشخص باسم «مترا»، فكانا يحرسان سويًّا القلوب وأعمال البشر، وكان كُلٌّ منهما يرى كل شيء، ويعرف كل شيء، وكذلك النار كانت تلعب دورًا بارزًا في صورتها الأصلية بوصفها البرق في الصراع الأبدي الذي يشنه باستمرار آلهة النور على قوى الظلام، وقد ذكر لنا «هردوت» (راجع: Herod. 1, 131) أنهم (أي الفرس) كانوا معتادين صعود أعلى الجبال وتقديم القربان إلى «زيوس Zeus»، وقد أطلقوا اسم «زيوس» على كل الدائرة السماوية، وفضلًا عن ذلك كانوا يُقَرِّبُون القربان إلى الشمس والقمر والأرض والنار والماء والرياح.
ومما هو جديرٌ بالذكر هنا أن عبادة قُوى الطبيعة التي ذكرها لنا «هردوت» كانت مِنْ خَوَاصِّ كُلِّ السلالات الآرية، ولكن يلفت النظر هنا كذلك أن الآريين الهنود والإيرانيين كانوا يشتركون في ديانةٍ واحدةٍ وثقافةٍ واحدةٍ لمدة طويلة من الزمن انتهت قبل الوقت الذي نتناولُ البحث فيه بفترة قصيرة نسبيًّا (2).
والواقع أن آريي الهند كان لهم كتاباتٌ مقدسةٌ أُوحي بها تدعى «فيداس Vedas» أو «المعرفة» وتشتمل على مجموعة من الأناشيد يبلغُ عددُها أكثرَ مِن ألف أُنشودة، قد حافظ عليها الآريون القدامى الذين فتحوا بلاد «البنجاب»، ونجد الآن بوجهٍ خاص أن عصر «فيداس» المبكر بين أهل «البنجاب» في نفس درجة التطور العام التي نجدها في إيران، كما نجد كذلك نفس عبادة قوى الطبيعة.
هذا، ونجد تعابيرَ مماثلة في البلدين فمثلًا نجد اسم «آسورا Asura» (وباللغة السنسكريتية Asura, Avesto Ahura، ويعني: السيد)، واسمًا آخر هو «دايفا Daiva» (وباللغة السنسكريتية Deva, Avesta, Daeva) وهو مشتق من الكلمة الهندو-أوروبية التي تعني: «الآحاد السماوية»، وقد استمر الاسمُ الأخيرُ بوصفه كلمة تعبر عن لفظة إله في الآرية في صور مثل «تيوس Theos» أو «ديوس Deos» وقد اشتق من اللفظ الأخير اللفظة المعروفة التي تعبر عن إله Dieu في الإغريقية واللاتينية والفرنسية على التوالي.
هذا، ونلحظ في عهود الفيديين المبكرة أن طبقتي الآلهة «أهوراس Ahuras» و«دائفاس Daevas» كانتا تعدان مناهضتين الواحدة للأخرى بالنسبة لتقديسهما عند رجال القبائل، فنجدُ أنَّ فِي الهند كان أتباعُ «دائفاس» يعتبَرون أصحاب الكلمة العُليا، وفي عهد «فيدا Veda» المتأخر كان «الأسوراس Asuras» يعدون شياطين، ولكن في «إيران» من جهة أُخرى كان «الأهوراس» في المكانة العُليا، ومن ثم نجدُ أن الوعي الديني عند الإيرانيين بعلاقته مع «أهورا» قد نما وتطور، أما «الدائفاس Daevas» فقد انحط إلى المنزلة التي كانت أعطيت «آسوراس» في الهند.
................................................
1-الهاؤما نباتٌ جبليٌّ مُقَدَّس موحدٌ مع «السوما» الهندية غير أن أصل حقيقته يعترضه بعض الشك.
2- راجع عن هذا الفصل: Williams Jackson, Zoroaster the Prophet of Ancient Iran; J. Moulton Early zoroastrianism
الاكثر قراءة في العصور القديمة في العالم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة