محاججة النبي لليهود والنصارى والمشركين
قال تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة : 30].
قال الإمام العسكريّ عليه السّلام : « قال الصادق عليه السّلام : لقد حدّثني أبي الباقر عليه السّلام عن جدّي عليّ بن الحسين زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن عليّ سيّد الشهداء ، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ) ، أنّه اجتمع يوما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أهل خمسة أديان : اليهود ، والنّصارى ، والدّهريّة ، والثّنويّة ، ومشركو العرب .
فقالت اليهود : نحن نقول : عزير ابن اللّه ، وقد جئناك - يا محمّد - لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك .
وقالت النّصارى : نحن نقول : إنّ المسيح ابن اللّه اتّحد به ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك .
وقالت الدّهريّة : نحن نقول : الأشياء لا بدء لها ، وهي دائمة ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك .
وقالت الثّنويّة : نحن نقول : إنّ النّور والظّلمة هما المدبّران ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك .
وقال مشركو العرب : نحن نقول : إنّ أوثاننا آلهة ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن تبعتنا فنحن أسبق إلى الصّواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خاصمناك .
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : آمنت باللّه وحده لا شريك له ، وكفرت بكلّ معبود سواه . ثمّ قال : إنّ اللّه تعالى بعثني بالحقّ إلى الخلق كافّة بشيرا ونذيرا ، حجّة على العالمين ، وسيردّ اللّه كيد من يكيد دينه في نحره .
ثمّ قال لليهود : أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجّة ؟ قالوا : لا .
قال : فما الذي دعاكم إلى القول بأنّ عزيرا ابن اللّه ؟ قالوا : لأنّه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ، ولم يفعل به هذا إلّا لأنّه ابنه .
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فكيف صار عزير ابن اللّه دون موسى ، وهو الذي جاء بالتوراة ، ورئي منه من العجائب ما قد علمتم ، ولئن كان عزير ابن اللّه لما ظهر من إكرامه بإحياء التّوراة ، فلقد كان موسى بالبنوّة أحقّ وأولى ، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب أنه ابنه ، فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من النبوّة ، لأنّكم إن كنتم إنّما تريدون بالبنوّة الولادة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمّهات الأولاد بوطء آبائهم لهنّ فقد كفرتم باللّه تعالى ، وشبّهتموه بخلقه ، وأوجبتم فيه صفات المحدثين ، ووجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا ، وأنّ له خالقا صنعه وابتدعه !
قالوا : لسنا نعني هذا ، فإنّ هذا كفر كما ذكرت ، ولكنّا نعني أنّه ابنه على معنى الكرامة ، وإن لم يكن هناك ولادة ، كما يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانة المنزلة من غيره : يا بني ، و : إنّه ابني . لا على إثبات ولادته منه ، لأنّه قد يقول ذلك لمن هو أجنبيّ لا نسب بينه وبينه ، وكذلك لمّا فعل بعزير ما فعل كان اتّخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة .
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فهذا ما قلته لكم : إنّه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه ، فإنّ هذه المنزلة لموسى أولى ، وإنّ اللّه تعالى يفضح كلّ مبطل بإقراره ، ويقلب عليه حجّته . إنّ ما احتججتم به إنّما يؤدّيكم إلى ما هو أكبر ممّا ذكرته لكم ، لأنّكم زعمتم أنّ عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبيّ لا نسب بينه وبينه : يا بنيّ ، وهذا ابني ، لا على طريق الولادة ، فقد تجدون أيضا هذا العظيم يقول لأجنبيّ آخر : هذا أخي . ولآخر : هذا شيخي ، وأبي .
ولآخر : هذا سيّدي ، ويا سيّدي ، على طريق الإكرام ، وإنّ من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، فإذن يجوز عندكم أن يكون موسى أخا للّه أو شيخا أو أبا أو سيّدا لأنّه قد زاده في الكرامة على ما لعزير ، كما أن من زاد رجلا في الإكرام ، فقال له : يا سيدي ، ويا شيخي ، ويا عمّي ، ويا رئيسي ، ويا أميري [ على طريق الإكرام ، وإنّ من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا للّه أو شيخا أو عمّا أو رئيسا أو سيّدا أو أميرا لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له : يا شيخي أو : يا سيّدي أو : يا عمّي أو : يا رئيسي أو : يا أميري ؟ ] .
قال : فبهت القوم وتحيّروا ، وقالوا : يا محمّد ، أجّلنا نتفكّر فيما قلته .
فقال : انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم اللّه .
ثمّ أقبل صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على النّصارى ، فقال لهم : وأنتم قلتم : إنّ القديم عزّ وجلّ اتّحد بالمسيح ابنه ، ما الذي أردتموه بهذا القول ؟ أردتم أنّ القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى ؟ أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما لوجود القديم الذي هو اللّه ، أو معنى قولكم : إنّه اتّحذ به ، أنّه اختصّه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه . فإن أردتم أنّ القديم تعالى صار محدثا ، فقد أحلتم « 1 » ، لأنّ القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا ، وإن أردتم أنّ المحدث صار قديما ، فقد أحلتم ، لأنّ المحدث أيضا محال أن يصير قديما ، وإن أردتم أنّه اتّحد به بأن اختصّه واصطفاه على سائر عباده ، فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتّحد به من أجله ، لأنّه إذا كان عيسى محدثا ، وكان اللّه اتّحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده ، فقد صار عيسى محدثا ، وكان اللّه اتّحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده ، فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين ، وهذا خلاف ما بدأتم تقولون .
قال : فقالت النصارى : يا محمّد ، إن اللّه تعالى لمّا أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر ، فقد اتّخذه ولدا على جهة الكرامة . فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فقد سمعتم ما قلت لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ، ثمّ أعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ذلك كلّه ، فسكتوا إلّا رجلا واحدا منهم ، قال له : يا محمّد ، أو لستم تقولون إنّ إبراهيم خليل اللّه ؟ [ قال : قد قلنا ذلك . فقال : ] فإذا قلتم ذلك ، فلم منعتمونا من أن نقول : إن عيسى ابن اللّه ؟ !
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : إنّهما لن يشتبها ، لأنّ قولنا : إنّ إبراهيم خليل اللّه ، فإنّما هو مشتقّ من الخلّة والخلّة ، فأمّا الخلّة فمعناه الفقر والفاقة ، فقد كان خليلا إلى ربّه فقيرا وإليه منقطعا ، وعن غيره متعفّفا معرضا مستغنيا ، وذلك لمّا أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث اللّه تعالى إلى جبرئيل عليه السّلام ، وقال له : أدرك عبدي . فجاءه فلقيه في الهواء ، فقال له :
كلّفني ما بدا لك ، فقد بعثني اللّه لنصرتك ، فقال : بل حسبي اللّه ونعم الوكيل ، إنّي لا أسأل غيره ، ولا حاجة لي إلّا إليه ، فسمّاه خليله ، أي فقيره ومحتاجه ، والمنقطع إليه عمّن سواه .
وإذا جعل معنى ذلك من الخلّة فقد تخلّل معانيه ، ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره ، كأنّ معناه العالم به وبأموره ، فلا يوجب ذلك تشبيه اللّه بخلقه ، ألا ترون أنّه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله ، وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله ، وأنّ من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده ، لأنّ معنى الولادة قائم .
ثمّ إن وجب - لأنه قال اللّه تعالى : إبراهيم خليلي - أن تقيسوا أنتم فتقولوا : إنّ عيسى ابنه ، وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى : إنّ موسى أيضا ابنه ، وإنّه يجوز أن تقولوا على هذا المعنى : شيخه وعمّه وسيّده ورئيسه وأميره ، كما قد ذكرته لليهود .
فقال بعضهم : ففي الكتب المنزلة أنّ عيسى قال : أذهب إلى أبي ؟
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون ، فإنّ فيه : ربّي وربّكم ، وأذهب إلى أبي وأبيكم ، فقولوا : إنّ جميع الذين خاطبهم كانوا أبناء اللّه ، كما كان عيسى ابنه ، من الوجه الذي كان عيسى ابنه ثمّ إنّ ما في هذا الكتاب يبطل عليكم هذا المعنى الذي زعمتم أنّ عيسى من جهة الاختصاص كان ابنا له ، لأنّكم قلتم : إنّما قلنا : إنّه ابنه لأنّه تعالى اختصّه بما لم يختص به غيره ، وأنتم تعلمون أن الذي خصّ به عيسى ، لم يخصّ به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى : أذهب إلى أبي وأبيكم . فبطل أن يكون الاختصاص لعيسى ، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى . وأنتم إنّما حكيتم لفظة عيسى وتأوّلتموها على غير وجهها ، لأنّه إذا قال : أبي وأبيكم . فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه . وما يدريكم لعلّه عنى : أذهب إلى آدم وإلى نوح ، إنّ اللّه يرفعني إليهم ، ويجمعني معهم ، وآدم أبي وأبوكم ، وكذلك نوح ، بل ما أراد غير هذا ؟
قال : فسكتت النّصارى ، وقالوا : ما رأينا كاليوم مجادلا ومخاصما ، وسننظر في أمورنا .
ثمّ أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على الدّهريّة ، فقال : وأنتم ، فما الذي دعاكم إلى القول بأنّ الأشياء لا بدء لها ، وهي دائمة لم تزل ، ولا تزال ؟
فقالوا : إنّا لا نحكم إلّا بما نشاهد ، ولم نجد للأشياء حدثا ، فحكمنا بأنّها لم تزل ، ولم نجد لها انقضاء وفناء [ فحكمنا بأنّها لا تزال ] .
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : أفوجدتم لها قدما ، أم وجدتم لها بقاء أبد الأبد ؟
فإن قلتم : إنّكم قد وجدتم ذلك أثبتّم لأنفسكم أنّكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ، ولا تزالون كذلك ، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذّبكم العالمون الذين يشاهدونكم .
قالوا : بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الأبد .
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما ، لأنّكم لم تشاهدوا حدوثها وانقضاءها أولى من تارك التمييز لها مثلكم ، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع ، لأنّه لم يشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد . أو لستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر ؟ فقالوا : نعم .
فقال : أترونهما لم يزالا ولا يزالان ؟ فقالوا : نعم .
قال : فيجوز عندكم اجتماع اللّيل والنهار ، فقالوا : لا .
قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فإذن ينقطع أحدهما عن الآخر ، فيسبق أحدهما ، ويكون الثاني جاريا بعده ، قالوا : كذلك هو .
قال : قد حكمتم بحدوثه ما تقدّم من ليل ونهار لم تشاهدوهما ، فلا تنكروا اللّه قدرة .
ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : أتقدّرون ما تقدّم من اللّيل والنهار متناه أو غير متناه ؟ فإن قلتم : غير متناه . فكيف وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوّله ؟ وإن قلتم : إنّه متناه . فقد كان ولا شيء منهما . قالوا : نعم .
قال لهم : أقلتم ، إنّ العالم قديم ليس بمحدث . وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به ، وبمعنى ما جحدتموه ؟ قالوا : نعم .
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فهذا الذي نشاهده من الأشياء ، بعضها إلى بعض مفتقر ، لأنّه لا قوام للبعض إلّا بما يتّصل به ، كما نرى أنّ البناء محتاج بعض أجزائه إلى بعض وإلّا لم يتّسق ولم يستحكم ، وكذلك سائر ما نرى .
وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فإن كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوّته وتمامه هو القديم ، فأخبروني أن لو كان محدثا فكيف كان يكون ؟ وما ذا كانت تكون صفته ؟ قال :
فبهتوا وعلموا أنّهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلّا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنّه قديم ، فوجموا ثم قالوا : سننظر في أمرنا .
ثمّ أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على الثّنويّة الذين قالوا : إنّ النور والظّلمة هما المدبّران ، فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا ؟
قالوا : لأنّا وجدنا العالم صنفين : خيرا ، وشرّا ، ووجدنا الخير ضدّ الشّر ، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشيء وضدّه ، بل لكّل واحد منهما فاعل ، ألا ترى أنّ الثّلج محال أن يسخن ، كما أنّ النار محال أن تبرد ، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين : ظلمة وضياء .
وقال آخرون منهم : إنّ اللّه لمّا خلق آدم وأمر الملائكة بالسّجود له ، كنّا نحن أحقّ بالسجود لآدم من الملائكة ، ففاتنا ذلك ، وصوّرنا صورته فسجدنا لها تقرّبا إلى اللّه ، كما تقرّبت الملائكة بالسّجود لآدم إلى اللّه تعالى ، وكما أمرتم بالسّجود بزعمكم إلى جهة مكّة ففعلتم ، ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها ، وقصدتم الكعبة لا محاريبكم ، وقصدتم بالكعبة إلى اللّه تعالى لا إليها .
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : أخطأتم الطريق وضللتم ، أمّا أنتم - وهو صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يخاطب الذين قالوا : إنّ اللّه يحلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصّور التي صوّرناها ، فصوّرنا هذه نعظّمها لتعظيمنا لتلك الصّور التي حلّ فيها ربّنا - فقد وصفتم ربّكم بصفة المخلوقات ، أو يحلّ ربّكم في شيء حتّى يحيط به ذلك الشيء ؟ فأيّ فرق بينه إذن وبين سائر ما يحلّ فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفّته ؟ ولم صار هذا المحلول فيه محدثا وذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما ؟ وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل يكون ذلك محدثا وهذا قديما ؟ وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال ، وهو عزّ وجلّ [ لا يزال ] كما لم يزل ؟ فإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال ، وما وصفتموه بالزّوال والحدوث وصفتموه بالفناء ، لأنّ ذلك أجمع من صفات الحالّ والمحلول فيه ، وجميع ذلك يغيّر الذات ، فإن جاز أن تتغيّر ذات الباري عزّ وجلّ بحلوله في شيء ، جاز أن يتغيّر بأن يتحرّك ويسكن ويسودّ ويبيضّ ويحمرّ ويصفرّ وتحلّه الصّفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثا تعالى اللّه عن ذلك .
ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فإذا بطل ما ظننتموه من أنّ اللّه يحلّ في شيء فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم . قال : فسكت القوم ، وقالوا : سننظر في أمورنا .
ثمّ أقبل على الفريق الثاني ، فقال لهم : أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد اللّه فسجدتم لها وصلّيتم ، ووضعتم الوجوه الكريمة على التراب ، فما الذي أبقيتم لربّ العالمين ؟ أما علمتم أن من حقّ من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوى به عبده ؟ أرأيتم ملكا عظيما إذا سويتموه بعبيده في التعظيم والخشوع والخضوع أيكون في ذلك وضع للكبير ما يكون زيادة في تعظيم الصغير ؟ فقالوا : نعم . فقال : أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظّمون اللّه بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون على ربّ العالمين ؟ فسكت القوم بعد أن قالوا : سننظر في أمورنا .
ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم للفريق الثالث : لقد ضربتم لنا مثلا وشبّهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء ، وذلك أنا عباد اللّه مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا ، وننزجر عمّا زجرنا ، ونعبده من حيث يريد منا ، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعدّ إلى غيره ممّا لم يأمرنا ، ولم يأذن لنا ، لأنّا لا ندري لعلّه أراد منّا الأوّل وهو يكره الثاني ، وقد نهانا أن نتقدّم بين يديه . فلمّا أمرنا أن نعبده بالتوجّه إلى الكعبة أطعنا ، ثمّ أمرنا بعبادته بالتوجّه نحوها في سائر البلدان التي نكون بها فأطعنا ، فلم نخرج في شيء من ذلك من اتّباع أمره ، واللّه عزّ وجلّ حيث أمر بالسّجود لآدم لم يأمر بالسّجود لصورته التي هي غيره ، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه ، لأنّكم لا تدرون لعلّه يكره ما تفعلون ، إذ لم يأمركم به .
ثمّ قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : أرأيتم لو أمركم رجل بدخول داره يوما بعينه ، ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره ؟ ولكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلها بغير أمره ؟ أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه ، أو عبدا من عبيده ، أو دابّة من دوابّه ، ألكم أن تأخذوا ذلك ؟ قالوا : نعم . قال : فإن لم تجدوه أخذتم آخر مثله ؟ قالوا : لا ، لأنّه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن لنا في الأوّل .
قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فأخبروني ، اللّه تعالى أولى بأن لا يتقدّم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين ؟ قالوا : بل اللّه أولى بأن لا يتصرّف في ملكه بغير أمره وإذنه . قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فلم فعلتم ، ومن أمركم أن تسجدوا لهذه الصّور ؟ قال : فقال القوم : سننظر في أمورنا ثمّ سكتوا .
قال الصادق عليه السّلام : فوالذي بعثه بالحقّ نبيّا ما أتت على جماعتهم ثلاثة أيّام حتى أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فأسلموا ، وكانوا خمسة وعشرين رجلا ، من كلّ فرقة خمسة ، وقالوا : ما رأينا مثل حجّتك - يا محمّد - نشهد أنّك رسول اللّه .
وقال الصادق عليه السّلام : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : فأنزل اللّه : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام : 1] فكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم : لمّا قال :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فكان ردّا على الدّهريّة الذين قالوا : إن الأشياء لا بدء لها وهي دائمة . ثمّ قال : وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فكان ردّا على الثّنويّة الذين قالوا : إنّ النّور والظلمة هما المدبّران . ثمّ قال :
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فكان ردّا على مشركي العرب الذين قالوا :
إنّ أوثاننا آلهة . ثمّ أنزل اللّه تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص : 1] إلى آخرها ، فكان فيها ردّ على من ادّعى من دون اللّه ضدّا أو ندا .
قال : فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأصحابه : قالوا : إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي نعبد واحدا ، لا نقول كما قالت الدّهرية : إنّ الأشياء لا بدء لها ، وهي دائمة . ولا كما قالت الثّنويّة الذين قالوا : إنّ النّور والظلمة هما المدبّران . ولا كما قال مشركو العرب : إنّ أوثاننا آلهة . فلا نشرك بك شيئا ، ولا ندعو من دونك إلها ، كما يقول هؤلاء الكفّار ، ولا نقول كما قالت اليهود والنّصارى : إنّ لك ولدا ، تعاليت عن ذلك » « 2 » .
وقال الطّبرسي في ( الاحتجاج ) : عن أمير المؤمنين عليه السّلام ، قال :
« قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي لعنهم اللّه أنّى يؤفكون ، فسمّى اللعنة قتالا ، وكذلك {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس : 17] أي لعن الإنسان » « 3 » .
______________
( 1 ) أحال : جمع بين المتناقضين في كلامه . « المعجم الوسيط - حال - ج 1 ، ص 208 » .
( 2 ) تفسير الإمام العسكري عليه السّلام : ص 530 ، ح . 323
( 3 ) الاحتجاج : 250 .
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة