تمهيد[1]:
تُعتبر ظاهرة إقامة مجالس للحزن ومراسم للعزاء على رحيل الأقارب والأحبّة ظاهرةً طبيعيّة، منتشرة، ومتعارفة، كونها تنبع من العاطفة والمحبّة المغروستين في قلب كلّ إنسان.
ومع أنّ هذه الظاهرة منتشرة ومعمول بها منذ بداية خلق الإنسان وحتّى عصرنا الحاضر، إلّا أنّنا نقصر حديثنا هنا في هذه الوجيزة حول رؤية الإسلام لها وكيفيّة تعاطيه معها.
والأمر الذي لا شكّ فيه أنّ هذه الظاهرة تحكي نوعاً من الارتباط المعنويّ والاتّصال الروحيّ بين الأفراد، وأنّ جذورها إنّما تعود إلى حالةٍ من الصفاء في قلوبهم، وإلى إحساس طاهر تملّك بعضهم تجاه بعض. ولكون هذا سلوكاً طبيعيّاً وفطريّاً لدى البشر، فقد جاءت تعاليم الباري سبحانه وتعالى مؤيّدةً له وحاثّةً عليه.
مجالس العزاء في الإسلام:
بالعودة إلى الكتب والمصادر المعتبرة نجد أنّ خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم، هو أيضاً، بكى على موت كثيرين، بينهم: عمّه حمزة، وجعفر الطيّار، وولده إبراهيم، وعثمان بن مظعون[2].
بل إنّه صلى الله عليه وآله وسلم سمّى العام الذي كانت فيه وفاة زوجته خديجة وعمّه أبي طالب بمكّة المكرّمة (عام الحزن)، أي: عام العزاء، وأمر بإقامة مجالس للعزاء[3].
وقد أقام المسلمون أيضاً مجالس عزاء لشهداء صدر الإسلام، وأنشدوا في رثائهم المراثي والأشعار، ولم يكتفِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعدم نهيهم عن ذلك فحسب، بل إنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُظهر تأييده لعملهم هذا.
ثمّ بعد أن أسلم صلى الله عليه وآله وسلم الروح لبارئها[4]، بكى الصحابة على فراقه، وجزعوا له جزعاً شديداً، وأنشدوا في رثائه صلى الله عليه وآله وسلم الأشعار والمراثي، وقامت عائشة تضرب وجهها حزناً على وفاته صلى الله عليه وآله وسلم[5].
ولكن، منذ العام 61 هـ، وهو العام الذي كانت فيه شهادة أبي الأحرار الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، ومعه الأوفياء من أهل بيته وأصحابه، الذين قضوا عطاشى إلى جنب الفرات بأرض كربلاء، ونُكِّل بهم بنحوٍ فظيعٍ مفجعٍ لم يسبق له نظير من قبل، منذ ذلك العام، تحوّلت مراسم الحزن ومجالس العزاء إلى مدرسةٍ عامّة مستمرّة على امتداد الزمن، فكانت مصدر إلهام للكثيرين، ومربّيةً لأجيالٍ وأجيال على إحياء أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، بل إنّها باتت الوسيلة لتمييز الحقّ من الباطل، ومعرفة الحسينيّين من اليزيديّين.
حكم إقامة مجالس العزاء
لا خلاف بين المذاهب الإسلاميّة كافّةً في جواز البكاء على الأموات، بمعنى: فيض الدمع بلا صوت. وأجاز الشيعة والشافعيّة والحنابلة أيضاً البكاء مع رفع الصوت[6].
يقول الفقيه الماهر صاحب الجواهر في أثره النفيس جواهر الكلام:
ثمّ إنّه لا ريب في جواز البكاء على الميْت نصّاً وفتوى, للأصل والأخبار التي لا تقصر عن التواتر معنىً، من بكاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على حمزة وإبراهيم، وغيرهما، (كعثمان بن مظعون)، وفاطمة عليها السلام على أبيها وأختها (رقيّة)، وعليّ بن الحسين عليه السلام على أبيه، حتّى عُدّ هو وفاطمة عليها السلام من البكّائين الأربعة،...
ثمّ استفاد رحمه الله من هذه الأخبار جواز، بل استحباب، الندب والنوح إذا كان الميت ذا صفات وفضائل تستحقّ النشر ليُقتدى بها.
ومع قطع النظر عن كلّ ما دلّ على وجوب ذكر أيّام الله، وتعظيم شعائر الله[7]، ووجوب مودّة أهل البيت عليهم السلام ومواساتهم، وكذلك ما توفّر بأيدينا من الأدلّة الدالّة على مشروعيّة إقامة مجالس العزاء، من الأخبار والأحاديث، ومن عمل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام وسيرتهم المستمرّة على ذلك، مع قطع النظر عن كلّ هذه الأدلّة، يبقى بإمكاننا أن نقول: إنّ إقامة هذا النوع من المجالس هي من الأمور العقلائيّة المتداولة والمعمول بها في جميع أرجاء العالم، وقد جرت عادة الناس في كلّ حدبٍ وصوب على إقامة مجالس ومآتم للحزن والندب فيما يلمّ بهم من حوادث، شخصيّةً كانت أم اجتماعيّة، ما يعني: أنّ إقامة مجالس للعزاء ليست من الأمور التي يجيزها الشرع فحسب، بل لو أخذنا بعين الاعتبار آثارها والفوائد المترتّبة عليها، لوجدناها أمراً رائجاً ومقبولاً في أوساط العقلاء، بل والنخب وأهل العلم والمعرفة.
وبشهادة الإمام الحسين عليه السلام، بات المؤمنون أصحاب عزاء ومصيبة، فبكوا[8]، وأنشدوا المراثي، وشدّوا الرحال لزيارة قبور الشهداء. وما دام الإسلام باقياً وموجوداً، وما دام هناك أتباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ هذه المجالس والمراسم ستبقى وتستمرّ, لأنّ أقلّ ما تتطلّبه المحبّة لآل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأداء حقوقهم، هو ما يجري اليوم من إقامةٍ لمراسم الحزن والعزاء، مع ما يتخلّلها من لطم أو مسيرات جماعيّة تجوب الشوارع والأسواق، أو إضاءةٍ للمصابيح، أو رفعٍ للأعلام والرايات، ونحو ذلك من مظاهر الحزن التي جرت عليها العادة منذ قرون متمادية، وأيّدها وحثّ عليها كبار العلماء والمراجع العظام عملاً وفتوى.
ولو أنّ هذه المراسم كانت ممنوعةً شرعاً وغير جائزة لَمَنَعَها ونهى عنها أعلام هذا الدّين وحمَلته وحفَظته، وبخاصّةٍ من كان منهم من ذوي النفوذ والسلطة. غير أنّ سكوت هؤلاء العظماء، بل وحضورهم لهذه المراسم، ومشاركتهم فيها، يشكّل خير دليل على دعمهم لهم، ورضاهم بها، بل إنّ فقهاء الإسلام العارفين به كانوا، ولا يزالون، يرون في إحياء مراسم عاشوراء الضمانة لبقاء هذا الدّين، وبقاء العزّة للمسلمين، وهم لذلك، يوصون ويؤكّدون على ضرورة أن تبقى هذه المراسم حيّةً ونابضة.
مجالس العزاء الحسينيّ.. نبذة تاريخيّة
لم يبدأ الحديث عن الشهادة المباركة لسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام منذ زمن وقوع تلك الحادثة الدامية في كربلاء، بل هي قضيّة عرفتها البشريّة، وجرى تداولها واستعراضها والحديث عنها، منذ خلق النبيّ آدم عليه السلام. ولقد بكى لمصرعه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وحزنوا وتألّموا له عليه السلام، وتضمّنت الكتب المعتبرة أخباراً تحكي ضجيج بكاء الملائكة وأنينها عليه!
كما بكاه أيضاً صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى من قبل ولادته الميمونة عليه السلام، بعدما أُخبروا بما كان سيجري عليه مستقبلاً.
وأمّا بعد وقعة كربلاء، فقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام، ومعه عمّته زينب الكبرى، عقيلة الهاشميّين، ومعهما من تبقّى من الحرم والأطفال في كربلاء، أوّل من رووا ما جرى، وأخبروا عن تفاصيل تلك الحادثة الأليمة، من خلال بكائهم ونحيبهم، والعبرات الحرّى التي سكبتها العيون والآماق، والقلوب التي امتلأت حزناً وغمّاً.
وقد استطاع بكاء هؤلاء الطاهرين أن يهزّ ضمير كلّ كائنٍ حيّ ووجدانه، وفضح أمام الملأ ما حاق بشهداء كربلاء من ظلم وجور واعتداء، وما حلّ بهم من مصائب.
لم يكن يخلو موقف من المواقف من هذا البكاء، فقد بكوا إلى جانب الأجساد المقطّعة إرباً، وفي الأسواق، وعند أبواب المدن، وفي المجالس العامّة، وأحياناً في حال السجود وسط جمع المصلّين، وفي محضر حكّام الجور وولاته، كعبيد الله بن زياد، و.. بل كان إمامنا زين العابدين عليه السلام يعيش دائماً حالة الحزن والبكاء لما جرى يوم عاشوراء، حتّى إنّه بكى مصاب أبيه الحسين عليه السلام 35 عاماً، وكان كلّ همّه عليه السلام خلال هذه الفترة هو تجسيد ما جرى في كربلاء وجعله شاخصاً أمام أعين الناس، وإبقاء تلك الواقعة حيّةً في النفوس والقلوب.
وقد أوصى الإمام الباقر عليه السلام - وهو ممّن حضر وقعة الطفّ- المؤمنين بذكر مصاب جدّه الحسين عليه السلام في صحراء عرفات. ونقل عنه ولده الإمام الصادق عليه السلام أنّه كان كلّما ذكر أو ذُكرت عنده مصيبة أبي عبد الله الحسين عليه السلام سالت الدموع من عينيه، وكان عليه السلام قد أعدّ في داره مجلساً للبكاء.
ولقد كان المحرّم شهر الحزن والعزاء عند أهل البيت عليهم السلام، وكان الإمام الكاظم عليه السلام إذا دخل هذا الشهر لا يُرى فيه ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه.
وكان الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام يولي مجالس العزاء التي تُقام على الإمام الحسين عليه السلام أهمّيّة فائقة، وتائيّة دعبل الخزاعيّ التي أنشدها بمحضره في رثاء المولى أبي عبد الله عليه السلام معروفة ومشتهرة. وقد كان عليه السلام يوصي مَنْ بالمدينة مِنْ أرحامه بمواصلة هذا الطريق والاستمرار في إحياء هذه المجالس.
وكذا صنع سائر الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام، كلٌّ في عصره وزمانه، فقد عملوا على تكريس هذه السنّة ونشر العمل بها، بل كانوا عليهم السلام - هم أنفسهم - في كثير من الأحيان يذكّرون الناس بمصائب جدّهم عليهم السلام، فيَبكون ويُبكون، ويبيّنون للناس أنّ إظهار الحزن والجزع على مصائب كربلاء يُعَدّ من أفضل العبادات.
ومن هنا، فإنّ تحوّل واقعة عاشوراء إلى واحدةٍ من أهمّ المحطّات والوقائع التاريخيّة عند الشيعة، إنّما يعود سببه, في حقيقة الأمر, إلى هذا العمل الدؤوب والمستمرّ من أهل البيت عليهم السلام، وفي كلّ فرصة ومناسبة، على ذكر هذه الواقعة، واستعراض أحداثها، وسرد ما جرى فيها وتفصيله.
وبعد عصر حضور الأئمّة عليهم السلام، تابع علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام هذه المسيرة، وواصلوا السير على نفس الخطى تأسّياً واقتداءً بأئمّتهم الطاهرين عليهم السلام، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على مجالس العزاء التي تُقام على سيّد الشهداء عليه السلام، وبهذا حافظت هذه المجالس على رونقها وحيويّتها واستمراريّتها.
وقد واصل المخلصون من أتباع هؤلاء العلماء (من خواصّ الشيعة) العمل بهذه السيرة الحسنة، تأسّياً بالأنبياء والأولياء عليهم السلام، وعملاً بفتاوى كبار مراجع التقليد من الشيعة، فكانوا يقيمون مجالس العزاء على أبي عبد الله الحسين عليه السلام، بصورةٍ علنيّة، وفي الأماكن العامّة، كلّما سنحت لهم الفرصة لذلك.
وهذه كتب التاريخ تحدّثنا أنّ الشيعة كانوا يقيمون مراسم عزاء الإمام الحسين عليه السلام بصورة علنيّة كلّما أُتيح لهم ذلك، وفتحت لهم الحرّيّة أبوابها، وتنعّموا بقدرٍ منها، مهما كان ضئيلاً ومحدوداً، كما حدث فعلاً في عصر المأمون وبعض الخلفاء العباسيّين. غير أنّ هذه المراسم بدأت تُقام في الخفاء بعد عصر المعتصم، بسبب كثرة المضايقات التي مارسها عليهم الحكّام الظالمون في تلك العصور.. وقد استمرّ الوضع على هذه الحال إلى أن تسلّم السلطة معزّ الدولة الديلميّ- أحد كبار السلاطين البويهيّين -، وذلك في العام 352 هـ، والذي أمر - بشكلٍ رسميّ - بإقامة مآتم الحزن يوم عاشوراء في بغداد[9].
وكذلك اهتمّ ملوك الفاطميّين وخلفاؤهم في مصر بإقامة المآتم ومراسم العزاء[10]. فجعلوا القاهرة التي كانوا قد شيّدوها حديثاً كبغداد، فسيّروا فيها مواكب العزاء الحسينيّ يوم عاشوراء بالقاهرة.
ومنذ ذلك الحين، تواصلت مراسم العزاء الحسينيّ، يرتفع مستواها تارةً، وينخفض أُخرى، إلى أن بلغت في عهد التيموريّين القمّة في الروعة والجدّيّة والاهتمام، وهكذا حتّى اتّسعت حركة هذه المواكب وانتقلت إلى العديد من الدول الآسيويّة، كإيران، وعددٍ من الدول العربيّة وبلدان شمال أفريقيا.
إنّ حرارة دماء الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره الأوفياء، لا زالت تؤجّج النيران في قلوب أبناء الأمّة الإسلاميّة، وتدفعهم، في كلّ عام أكثر من سابقه، نحو إحياء هذه المناسبة، والحفاظ على تلك التضحيات، بحماسةٍ منقطعة النظير. بل يمكن القول: إنّ المجالس التي تُقام في المناطق الشيعيّة في إحياء ذكر أولياء الله تعالى، وبخاصّةٍ: ذكر مصيبة المولى أبي عبد الله عليه السلام، لا يضاهيها مجلس دينيّ، ولا سياسيّ، ولا أدبيّ، ولا اجتماعيّ آخر.
وقد بلغت أهمّيّة يوم عاشوراء حدّاً دفع بالكثيرين من أهل السنّة، فضلاً عن الشيعة، إلى أن يقيموا المآتم ومجالس العزاء[11]، وهو أمر طبيعيّ للغاية, لأنّ الأمر بالمودّة في القربى ليس مختصّاً بالشيعة فحسب. كما أنّ كثيراً من أتباع الأديان السماويّة يظهرون المودّة والاحترام للإمام الحسين عليه السلام، ويشعرون لدى سماعهم اسمه الشريف بحالةٍ من القرب والعلاقة الوطيدة التي تصل أحياناً إلى حدّ العشق والوله الشديد، ويقيمون عليه المآتم والمجالس، بخاصّةٍ في أيّام عاشوراء، ولا يبخلون في سبيل هذا الأمر المقدّس بأموالهم وأوقاتهم، وتراهم محزونين مغمومين في ذلك الشهر الذي هو شهر حزنٍ وغمّ على آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وبذلك، فهم يتعلّمون الإيثار والتضحية من مدرسة العشق للإمام الحسين عليه السلام.
إنّ كلّ هذا يجعلنا نقول: إنّه ليس بين المدافعين عن الحقّ والحقيقة، ولا في شهداء طريق الخير والفضيلة، أحد كالإمام الحسين عليه السلام، الذي بلغ ما بلغه من المنزلة والمحبّة في قلوب أتباع المذاهب كافّةً، كما أنّه ليس هناك أيّ حادثة في العالم يمكنها أن تترك مثل الأثر الذي تركته حادثة عاشوراء في مختلف الشعوب والأمم.
ولقد تركت حادثة الطفّ الأليمة آثارها العميقة وبصماتها الواضحة على أركان مدرسة التشيّع، بحيث دفعت بالجميع، كلٍّ على حسب طاقته ودرجة كماله، نحو أداء وظيفتهم الرساليّة تجاهها: فالمؤرّخون وأصحاب المؤلّفات والتصانيف من ذوي الالتزام والخبرة، تصدّوا لبحث ودراسة الأبعاد النظريّة والعمليّة والجوانب الثوريّة والحماسيّة في نهضة عاشوراء، وحاولوا على قدر وسعهم وطاقتهم أن يضيئوا على بعدٍ من تلكم الأبعاد، أو جانب من هذه الجوانب، واغترفوا من نمير ذلك البحر الفيّاض، فتركوا من الكتب والرسائل والمؤلّفات ما لا يعدّ ولا يحصى في هذا المجال[12].
وعشّاق الحسين ومحبّوه حرصوا على إقامة مجالس الذكر لأهل البيت عليهم السلام، وأقدم شعراء مدرسة العشق والولاء لأهل البيت عليهم السلام على نسج القصائد المشجية التي صوّرت بطولات رجالات الطفّ وشجاعتهم أفضل تصوير، ملهبةً العواطف والأحاسيس، ومجسّدةً حزناً عميقاً وألماً بالغاً يعتصر قلوبهم، ما جعل هذه القصائد والأشعار تبقى حيّةً مخلّدةً في الوجدان.
والخطباء وأهل الموعظة عملوا على تأجيج نيران الحزن والأسى في قلوب عشّاق الحسين عليه السلام، من خلال مواعظهم الجيّاشة وخطاباتهم الحزينة، فحفظوا بمراثيهم ذكر شهداء كربلاء. وأضفوا بها لوناً وطعماً خاصّاً على المجالس والمحافل، وجرت لها دموع الشيعة وآهاتهم، وهذا إن دلّ على شيءٍ فهو يدلّ على أنّ كلّ واحدٍ من هؤلاء كان مخلصاً لهذه القضيّة من موقعه الذي هو فيه، ما يوجب له الأجر والثواب الجزيل إن شاء الله.
وفي المختصر المفيد: فإنّ هذه المواكب والمجالس كان لها هالة مضيئة من العظمة والجاذبيّة جعلتها قادرةً على أن تشدّ إليها قلوب المحبّين والعاشقين، وتستقطب إليها شرائح واسعة من الناس.
وبهذا كُتب الخلود لملحمة عاشوراء الدامية التي جرت في شهر محرّم الحرام من العام 61 هـ، وبقيت حيّةً تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، ولم تتمكّن أحداث التاريخ من نسخها أو محوها أو القضاء عليها فحسب، بل إنّها بقيت عنصراً حيّاً، ونقطة انعطافٍ مشرقة في حياة البشريّة.
- أهداف إقامة المراسم
قامت هذه المراسم والمآتم المباركة، منذ القديم، بدورٍ فعّالٍ في تبلور العقائد الدينيّة والفضائل الخلقيّة والمناقب الإنسانيّة، وساهمت في صيانة ذكرى عاشوراء من أن تطالها يد النسيان، وفي تعريف الناس بمقام أئمّة المسلمين، وفضح جنايات الظالمين وجرائمهم.
وفيما يلي نشير إلى جملةٍ من الآثار والفوائد التي تترتّب على هذه المراسم:
إقامة العزاء الحسينيّ إحياء للشعائر الإلهيّة وتجلٍّ كامل للتولّي والتبرّي
لم يكن الهدف الذي أصرّ لأجله أئمّة أهل البيت عليهم السلام كلّ هذا الإصرار على إحياء المراسم التي يُذكر فيها صمود وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام، المحامي عن الحقّ، سوى إحياء أهدافه السامية، وإيصال صوت مظلوميّة آل عليٍّ عليه السلام إلى مسامع البشريّة جمعاء، وفي هذا السياق، فإنّ الأمّة التي لا تقف وقفة تبجيلٍ وإجلال عند تضحيات العظماء من رجالاتها فهي - لا محالة - أمّة محكومة بالزوال والفناء.
وتعدّ إقامة المآتم ومجالس العزاء الحسينيّ من أفضل الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها في تبليغ المعارف الإسلاميّة وأحكام الله تعالى، وفي صيانة الدّين من الانحراف، وحفظه من هجمات الأعداء وغدرهم، نظراً لما تتمتّع به هذه المآتم والمجالس من جاذبيّة شكليّة ومضمونيّة. كما تشكّل هذه المراسم أيضاً حركةً تبليغيّة نافعةً ومفيدة في العديد من المجالات، ولا سيّما في مواجهة الأفكار الباطلة التي تحاول التيّارات العلمانيّة أن تضخّها أو التي يعدّها الاستكبار العالميّ وأدواته لتقف في مقابل الإسلام.
وهذا - في الحقيقة - هو معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة"[13]، وإنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام العظيمة هي التي حفظت الإسلام، ولولاها لأفل فجر الإسلام منذ القرن الأوّل، ولم يبقَ من الشريعة النبويّة عين ولا أثر. وقد أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل عن الدور الكبير والاستثنائيّ الذي ستقوم به الثورة الحسينيّة في حفظ الإسلام وبقائه بقوله الشهير: "حسين منّي وأنا من حسين"[14]. وإلى هذا المعنى أيضاً تنظر العبارة المعروفة: "الإسلام محمّديّ الحدوث، حسينيّ البقاء". فإذا كان الإسلام مديناً في أصل وجوده وحدوثه للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو في استمراره وبقائه مدين للإمام الحسين عليه السلام، الذي هو - بحقّ - سيّد المدافعين عن الحقّ والحقيقة.
وهنا تتكشّف لنا الحقيقة الآتية، وهي أنّ كلّ ما لدينا فهو من بركات وجود الإمام الحسين عليه السلام, لأنّ تضحيته وإيثاره وشهادته المباركة هي التي حفظت لنا أحكام الإسلام حيّةً باقية إلى يوم القيامة. كما أنّ تلك المجالس التي تقام على سيّد الشهداء عليه السلام قد أسهمت في نشر روحيّة الإيثار والتضحية في المجتمع، وفي تعميق وتعميم الشعور بضرورة السعي نحو تحقيق العدالة، والانتقام من الظالمين، وهكذا بقيت هذه المشاعر حيّةً ومتوقّدة، وازداد معها الميل نحو الصبر والتجلّد في مواجهة المشكلات والملمّات.
إنّ تذكّر مفردات ومكوّنات النهضة الحسينيّة يشكّل واحداً من أقوى الدوافع التي تبعث على توسيع وتفعيل دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى إشعال فتيل الثورات الدامية على الظلم والظالمين.
وفي الواقع، إنّ إقامة هذا النحو من المجالس هو تجديد للبيعة مع الأئمّة عليهم السلام، وشكل من أشكال الإيفاء والتأدية لأجر الرسالة النبويّة, وذلك أنّ الحضور في مثل هذه المجالس يمثّل تأييداً ضمنيّاً للأفكار والأهداف السامية التي جسّدها الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام، والتي - بدورها - دعا إليها وحثّ عليها رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
واليوم، فإنّ المجالس التي تُعقد لذكر الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام شبيهة إلى حدٍّ كبير بالحجّ الإبراهيميّ، حيث إنّها - مثله - تُعدّ من أهمّ العوامل والأسباب القادرة على أن تحقّق الوحدة العاطفيّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة بين المسلمين[15]، علماً بأنّنا لو أردنا أن نحقّق هذه الوحدة بالمال والإمكانيّات المادّيّة، لوجدنا ذلك أمراً صعباً وعسيراً للغاية، بل يكاد يكون محالاً. فهذه المجالس هي بمثابة استعراضٍ تُعرض فيه روائع صور الكرامة الإنسانيّة التي رُسمت بيد الولاية، وفي هذه المجالس تهتزّ أرواح أحرار العالم، وتحلّق في الفضاء الرحب، وتطرب لذكر الشهداء الأحرار وسماع تضحياتهم.
ولو أنّ كلّ محبّ لأبي عبد الله الحسين عليه السلام امتلك المعرفة اللّازمة به عليه السلام، لسعى بكلّ ما أُوتي من قوّة إلى أن يجعل صفاته وسجاياه شبيهةً بصفات محبوبه وسجاياه، بل إلى أن يحوّل نفسه إلى مرآةٍ يتجلّى فيها جمال ذلك المحبوب، بل إلى أن تزداد هذه المرآة شفافيّةً ووضوحاً يوماً بعد يوم، ليبرز فيها ذلك الجمال بأروع صورةٍ ممكنة.
وفي ذلك يقول السيّد علي الخامنئي دام ظله:
"إنّ هذه المواكب الحسينيّة التي تتحرّك وتنشط في الأيّام العشرة الأُولى من شهر محرّم في كلّ عام هي كماء المطر الذي يجري على الأرض فيطهّرها وينظّفها ويزيل كافّة الأوساخ والأقذار منها، وهكذا تلك المواكب، فهي تطهّر بيئتنا الاجتماعيّة من كلّ الوساوس والشبهات والتلقينات الفاسدة التي يبثّها الأعداء، وتضفي عليها روحاً جديدة عابقةً بالعشق والإيمان الإلهيّ. "وإنّ تلك الدموع التي تُذرف في مجالس العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام لها دور كبير في هداية الآلاف وسوقهم خلال هذه القرون الأخيرة نحو أحضان الإسلام المحمّديّ الأصيل"[16].
"فهذه المجالس هي - في حدّ نفسها - من شعائر الإسلام، وفي ظلالها، ومن خلالها، وبوساطتها، يتمّ إحياء الكثير من شعائر هذا الدّين. ولقد عاين الشعب الإيرانيّ آثار هذه المجالس وبركاتها، ورأى بأمّ عينيه كيف انبثقت الثورة الإسلاميّة من تلك المجالس التي كانوا يقيمونها أيّام عاشوراء وتاسوعاء. ومن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ومن واقعة كربلاء الدامية، استلهم الثوّار دروس الصمود والثبات في مواجهة الكفر والظلم"[17].
ومن هنا نعرف السرّ فيما صنعه المرحوم آية الله العظمى السيّد حسين الطباطبائيّ البروجرديّ (أعلى الله مقامه)، وهو أحد كبار مراجع التقليد عند الشيعة في عصره وزمانه، حيث أوصى بثلث أمواله وقفاً لتُنفق في إقامة مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلاموإحيائها في كلّ عام[18].
وإذا كان لمجالس العزاء على أبي عبد الله الحسين عليه السلام هذه الدرجة من البركة والأهمّيّة، فهي - إذاً - فرصة لا يجوز تفويتها، بل يجب اغتنامها، واستغلالها، وهي جوهرة ثمينة تجدر المحافظة عليها، ويجب التمسّك بها، والعمل على تحسينها، وتطويرها.
وما ورد في هذا المجال من دعواتٍ صادقة ومخلصة من قبل عددٍ من علماء الإسلام، كالمحدّث الكبير الميرزا حسين النوريّ رحمه الله في كتابه (اللّؤلؤ والمرجان)، والعلّامة السيّد محسن الأمين رحمه الله في رسالة (التنزيه لأعمال التشبيه)، والأستاذ الشهيد آية الله مرتضى مطهّريّ رحمه الله في كتاب (الملحمة الحسينيّة)، فإنّما هو ناظر إلى هذا الأمر المهمّ الذي ذكرناه.
إنّ بإمكاننا أن نحافظ على هذه الجوهرة القيّمة، وأن نستفيد من قدرتها الهائلة على إحياء النفوس، وذلك لا يتمّ إلّا بتخليصها من الشوائب التي التصقت بها، وتنقيتها وتهذيبها من كلّ الخرافات والأخبار الزائفة، وعندئذٍ فقط، يمكن لنا أن نشهد تحوّلاً كبيراً في مواجهة الكفر والاستكبار.
- العوامل التي أسهمت في تخليد مجالس العزاء واستمراريّتها:
لا شكّ في أنّ ثورة عاشوراء تمتلك من الميّزات والخصائص ما لا نشاهده عادةً في غيرها من الثورات.
فمن ذلك: أنّها استطاعت أن تبقى وتستمرّ بالرغم من كلّ المساعي والجهود التي بذلها بنو أميّة وبنو العبّاس وغيرهم من حكّام الظلم والجور في سبيل دفنها وإخفائها وطيّها في عالم النسيان، عبر تشويه مجالس العزاء ومسخها وتحريفها أو تعطيلها.
وكم هي قليلة تلك الحوادث التاريخيّة التي كُتب لها أن تُدوّن على صفحات التاريخ بهذا الشكل الدقيق والتفصيليّ الذي نراه بالنسبة إلى حادثة الطفّ، هذه الحادثة الأليمة التي استطاعت أن تترك آثاراً راسخةً في عمليّة السير التكامليّ لدى الكثير من الشعوب والأمم، وكانت، ولا تزال، وستبقى من أهمّ العوامل القادرة على التحريك والتغيير، بل هي بمرور الزمان تزداد عمقاً وتكاملاً واتّساعاً.
هذا المستوى من العظمة الذي بلغته واقعة كربلاء، وهذا الخلود، وهذا العمق، جعلتها - تاريخيّاً - تحظى بكثرةٍ هائلة من المؤلّفات والتصنيفات، شعراً ونثراً، وبمختلف اللّغات. وهذه المؤلّفات أسهمت في تخليدها، وفي نشرها، وإبقائها حيّةً على امتداد العصور.
وإلى جانب هذه المؤلّفات، يمكن الإشارة إلى مجموعةٍ من العوامل كان لها دور أساسيّ ومفصليّ في خلود هذه الملحمة، وفي بقائها حيّةً نضرةً إلى يومنا هذا، منها: الإرادة والحكمة الإلهيّة، حقانيّة هذه الثورة، ونسائم الصدق والإخلاص والإيثار والفداء التي تفوح منها، وهذه التضحية الاستثنائيّة التي جسّدها شهداء كربلاء، والأخبار التي حدّثت بها السبايا ومن تبقّى من ثورة كربلاء، والأهداف السامية التي أعلنها الإمام الحسين عليه السلام، والجهود الكبيرة التي بذلها الشعراء وأصحاب المراثي في قبال مساعي المخالفين للأئمّة عليهم السلام.
وفيما يلي نتحدّث عن بعض هذه العوامل:
أ- حثّ الشعراء وتشجيعهم على إنشاد الشعر والمراثي[19]
التقى أئمّتنا عليهم السلام بالعديد من الشعراء الذين عُرف عنهم أنّهم ينظمون الشعر ويقولون الرثاء في أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا يحثّونهم ويشجّعونهم على رثاء الإمام الحسين عليه السلام[20].
فعن زيد الشحّام، قال: كنّا عند أبي عبد الله، ونحن جماعة من الكوفيّين، فدخل جعفر بن عفّان الطائيّ على أبي عبد الله عليه السلام، فقرّبه وأدناه، ثمّ قال: "يا جعفر"، قال: لبيك! جعلني الله فداك، قال: "بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين وتجيد"، فقال له: نعم، قال: "قل!", فأنشده، فبكى ومن حوله حتّى صارت الدموع على وجهه ولحيته.
ثمّ قال: "يا جعفر، والله لقد شهدت ملائكة الله المقرّبون ههنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعته الجنّة بأسرها، وغفر الله لك"[21].
بل في بعض الأحيان، كان الأئمّة عليهم السلام هم من ينشدون الشعر ويقولون الرثاء[22]. وإضافةً إلى تبجيلهم الشعراء وتكريمهم لهم معنويّاً، كانوا عليهم السلام يصلونهم بالعطايا والأموال، للمزيد من التشجيع لهم، كما يؤكّد ذلك عطايا الإمام الباقر عليه السلام للكميت، وهدايا الإمام الصادق عليه السلام لأشجع السلميّ، وشكره وثناؤه على السيّد الحميريّ، وعطايا الإمام الرضا عليه السلام لكلٍّ من دعبل الخزاعيّ وإبراهيم بن العبّاس، ما يشير إلى مدى أهمّيّة إقامة المآتم على شهداء كربلاء عند الأئمّة عليهم السلام.
هذا الاهتمام البالغ من قبل المعصومين عليهم السلام وهذا التشجيع منهم على إقامة مجالس العزاء، كان لهما أكبر الأثر في إحياء واقعة كربلاء، وفي تخليدها والحفاظ عليها على مرّ السنين، ليظلّ اسم الإمام الحسين عليه السلام رمزاً وشعاراً يرفعه كلّ ثائر في وجه الظلم والطغيان، وهو ما اتّسع يوماً بعد يوم بازدياد عدد الشعراء الملتزمين بقضيّة الثورة ضدّ الظلم.
وفي هذا الإطار أيضاً يندرج ما قدّمه الإمام السجّاد عليه السلام للفرزدق الشاعر من هدايا وصلات، وكذلك دعاؤه للكميت الأسديّ.
ب- البكاء والتباكي:
من العناصر المهمّة الأُخرى التي كان لها تأثير بالغ في تخليد ثورة الإمام الحسين عليه السلام، البكاء والدموع التي ذُرفت حزناً على مصيبته[23] ومصيبة من قضى معه من أبنائه وأصحابه.
وقد حثّ الأئمّة عليهم السلام على البكاء، بل كانوا يذرفون الدموع ويبكون حزناً على مصاب أبي عبد الله عليه السلام وأصحابه[24]، ويحثّون الناس على الندب والبكاء والتباكي[25].
وقد ورد في ذلك كثير من الأخبار والروايات. منها ما ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال للريّان بن شبيب: "يا بن شبيب، إن كنت باكياً لشيءٍ فابك للحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام, فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش"[26].
هذه الأحاديث شكّلت دافعاً قويّاً عند المحبّين للإمام الحسين عليه السلام للإقبال على البكاء عليه عليه السلام، لئلّا يُسجَّلوا في عداد الأشقياء الذين لا تنالهم الرحمة والمغفرة الإلهيّة.
وبحقٍّ نقول: لولا هذا البكاء، وهذه الدموع، فإنّ كربلاء لم تكن لتبقى بهذه العظمة، بل إمّا أنّها كانت ستزول وتضمحلّ كلّيّاً، وإمّا أنّها كانت ستبقى، ولكن مفرّغةً من محتواها، خاويةً من حقيقة مضامينها. ولولا تلك الدموع أيضاً لما وجدنا اليوم أحداً يعرف الإمام الحسين عليه السلام، ولضاع ذلك النهج الذي رسمه عليه السلام.
ج- التأكيد على زيارة سيّد الشهداء عليه السلام:
من الطرق والوسائل المؤثّرة التي اعتمدها حفظة مدرسة التشيّع بهدف الحفاظ على حادثة عاشوراء حيّة وخالدة، ذلك الاهتمام الكبير والبالغ بزيارة الضريح المقدّس لسيّد الشهداء عليه السلام. ويبدو جليّاً مستوى هذا الاهتمام وحجمه من خلال كثرة ما ورد في كتب المزار، ككتاب (كامل الزيارات) وغيره، من رواياتٍ وأحاديث اختلفت ألفاظها وتنوّعت، ولكنّها جميعاً تؤكّد على أهمّيّة الزيارة، ومدى اهتمام الأئمّة عليهم السلام بها.
هذه الأحاديث والروايات حثّت على الزيارة أيّام الأعياد، وأيّام الحزن والعزاء، وفي ليالي القدر، وفي الأيّام المخصّصة للعبادة، وفي يوم الجمعة وليلتها، وذكرت لها ثواباً جزيلاً.
هذا الحثّ والتشجيع على زيارة الإمام الحسين عليه السلام كان من جملة العوامل التي أسهمت في حفظ ذكرى عاشوراء، وفي تخليد تضحياته عليه السلام وتضحيات أصحابه[27].
د- تربة كربلاء:
من الوسائل الأُخرى التي اعتمدها الأئمّة عليهم السلام في إحياء الملحمة الحسينيّة، الحفاظ على التربة الحسينيّة، والأمر بالسجود عليها، لما امتزج في هذه التربة من معاني التوحيد لله عزَّ وجلّ، ومن مظاهر العشق بأروع صوره، إلى حدّ الاستعداد للتضحية بكلّ شيءٍ في الطريق إلى الله، فالمصلّي عندما يهوي إلى السجود على هذه التربة المباركة، يذكر تلك الأرواح النقيّة الطاهرة التي قُدّمت على مذبح الحبّ الإلهيّ، ما من شأنه أن يُدخل قلب الإنسان وروحه في جوٍّ من الأنس والمعرفة الوطيدة بالنهج العاشورائيّ، الذي له آثار تربويّة ومعنويّة استثنائيّة في قلب الإنسان وروحه[28].
هـ- الحثّ على إقامة مجالس العزاء[29]
حرص أئمّتنا عليهم السلام على إحياء ذكرى عاشوراء[30]، وحثّوا أصحابهم على إقامة مجالس الحزن والبكاء في كلّ عام. وكذلك فعل علماء الدّين، الذين ساروا أيضاً على هذا المنوال، مقتدين بأئمّتهم عليهم السلام في السعي إلى نشر هذه الثقافة الحسينيّة، وفي حثّ الشيعة على إحياء المجالس وإقامتها.
ويمكن القول: إنّ هذه العوامل المتقدّمة أسّست لقيام سنّةٍ ثابتة استطاعت أن تخلّد في النفوس ذكرى ثورة كربلاء وثوّارها، محوّلةً إيّاها إلى مدرسةٍ خالدة تستلهم الشعوب منها الدروس والعبر في مواجهة الطواغيت في كلّ عصرٍ وزمان، وتعلّمت منها كيف أنّ شعار "يا مظلوم" يمكن له أن يُهلك كلّ ظالم.
وبهذا استطاعت كربلاء النفوذ إلى أعماق قلوب الناس وأرواحهم، وامتزجت بمعتقداتهم الفكريّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، لتزرع في قلوبهم نفوراً دائماً وكراهية شديدة للظلم والظالمين، ما كان له أثر كبير في الحفاظ على نضارة التعاليم الإسلاميّة وحيويّتها.
وقد لاحظ كثير من المفكّرين ما للمجالس الحسينيّة من الآثار والمنافع والبركات الكثيرة. فهذا (مارتين) - الكاتب الألمانيّ - يعترف بأنّ المنابر الحسينيّة إذا ما أحسن المسلمون استغلالها وتنظيمها فهي من أهمّ العوامل والأسباب لتقدّمهم وارتقائهم.
وبالرغم من الأهمّيّة القصوى والمقام الرفيع الذي تحتلّه قضيّة عاشوراء في الفكر والثقافة الإسلاميّين، إلّا أنّنا نجد أنفسنا هنا مضطرّين إلى الاعتراف بأنّ هذه القضيّة اليوم قد فقدت كثيراً من عمقها ومحتواها في المجتمع الإسلاميّ، بسبب الغفلة عن حقيقة مضمونها، وعن رسالتها الأصليّة، وهي إحقاق الحقّ ورفض الظلم وتحقيق العدالة.
لو ركّز المجتمع الشيعيّ الموالي لأهل البيت عليهم السلام اهتمامه على مضمون الثورة الحسينيّة ومحتواها، وتعلّم من وحي دروسها الكبرى، لكان من أكثر المجتمعات الإنسانيّة رقيّاً وتقدّماً. ولكن، وللأسف الشديد، فإنّ السماح لبعض النواقص والسلبيّات بالنفوذ إلى قراءة العزاء حال، ويحول، دون استفادة المجتمع الشيعيّ منها بشكلٍ كامل[31].
إنّ تطوير مجالس العزاء وترشيدها وتقويمها يتطلّب الوقوف في وجه تلك النواقص والأمور السلبيّة تحت ظلال توصيات وإرشادات مراجع التقليد العظام وعلماء الدّين العاملين الذين لهم خبرة ومعرفة بالأخطار التي تهدّد قضيّة عاشوراء، وذلك من خلال تظهير قضيّة عاشوراء بدقّة، وتقديمها للناس بصورةٍ جليّةٍ، والتركيز على جوهرها وحقيقة مضامينها، وعلى كلٍّ ركن من الأركان التي تتشكّل منها هذه المجالس أن يتحمّل المسؤوليّة والوظيفة الملقاة على عاتقه، كلّ على حسب قدرته وطاقته.
ومن منطلق قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ نشير - تباعاً - إلى وظائف كلّ واحدٍ من هذه الأركان ومسؤوليّاته، وذلك على الشكل الآتي:
- وظائف عموم الشيعة ومسؤوليّاتهم:
الأمّة الإسلاميّة مَدينة لعاشوراء، ومن المعلوم أنّ أداء الدّين يرتّب عليها عدداً من المسؤوليّات. فمن سبق من الشيعة كان عليهم مسؤوليّات وفوا بها في عصرهم وزمانهم، وفي هذا العصر أيضاً هناك عدد من المسؤوليّات والوظائف الملقاة على عاتقنا، والتي توجب علينا السعي للمحافظة على قضيّة عاشوراء، وتخليد ذكرى شهدائها، ونشر مبادئهم وأهدافهم.
ويمكن تلخيص مسؤوليّات الشيعة اليوم تجاه قضيّة عاشوراء ضمن النقاط الآتية:
1- الشكر على نعمة الولاية، وعلى كون الإنسان قد تربّى على منهج أهل البيت عليهم السلام، وعلى التوفيق الربّانيّ للمشاركة في مجالس أهل البيت عليهم السلام، وطلب دوام هذه النعمة واستمرارها.
2- شكر الوالدين والدعاء لهما ولكلّ المربّين الذين أوصلونا إلى هذه الحالة من الأنس بمجالس الإمام الحسين عليه السلام، وتقدير الأشخاص الدائبين على إقامة المجالس الحسينيّة وتكريمهم.
3- إنّ أقلّ ما يُطلب ممّن يدّعون أنّهم من أتباع الإمام الحسين عليه السلام المخلصين والصادقين، هو التعرّف بشكلٍ كامل على فلسفة ثورته عليه السلام وأبعادها, والسعي الدؤوب لنشر ثقافة عاشوراء وخطاباتها، واستسهال التضحية بالغالي والنفيس، وبكلّ ما أُوتي من إمكانات، مادّيّة أو غير مادّيّة، في سبيل شلّ وتعطيل المؤامرات التي يحيكها أعداء عاشوراء، وصولاً إلى حدّ الإيثار والتضحية بالنفس.
4- أُولى مراتب العزاء هي الهمّ والحزن القلبيّان، بحيث يرى المعزّون بالإمام الحسين عليه السلام مصابه ومصاب أهل بيته أكبر بكثيرٍ من مصائبهم الشخصيّة أو مصائب عائلاتهم.
5- ويأتي إظهار الحزن والغمّ في أيّام حزن آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ليشكّل المرتبة الثانية من مراتب العزاء.
يقول الريّان بن شبيب: دخلت على الرضا عليه السلام في أوّل يوم من المحرّم، فقال لي: "يا بن شبيب، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنّ رجلاً تولّى حجراً لحشره الله عزَّ وجلّ معه يوم القيامة"[32].
6- لِبس السواد، ووضعه على المنازل والجدران، وفي الحسينيّات وحيث تُقام المآتم ومجالس العزاء, إذ ذلك من الأمور الكاشفة عن الحزن والغمّ، والتي تحكي عن تأجّج مشاعر العشق والحبّ والتعلّق في قلوب الشيعة تجاه مقام الإمامة والولاية.
7- إقامة مجالس العزاء، والمشاركة فيها، ودعمها، وتقويتها، وتحسينها، للوصول من خلالها إلى تحقيق الهدف، وهو التعرّف على الوظائف والأحكام الشرعيّة، ومعرفة سيرة أبي الأحرار عليه السلام وخطّه ومنهجه.
8- تشجيع الآخرين على إقامة مجالس أسبوعيّة أو شهريّة، داخل أسرهم وعائلاتهم, لأنّ الأفراد قد لا تسنح لهم الفرصة للمشاركة في المجالس العامّة، وأمّا المجالس التي تقيمها عائلاتهم فهم- في العادة- يشاركون فيها ولا يتركونها. وقد ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام مخاطباً الفضيل ابن يسار بخطابٍ تفوح منه نفحات التشجيع والتشويق، يقول عليه السلام: "تجلسون وتتحدّثون؟" فقال: نعم، فقال: "إنّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا"[33].
9- الحرص على الاستفادة المثلى من الأمكنة التي تُقام فيها المجالس، بحيث تُراعى حرمة الآخرين، ولا يُعتدى على حقوقهم، ولا يتعرّضون إلى أيّ شكلٍ من أشكال الإيذاء أو الإزعاج، وعدم التضييق عليهم. كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا﴾[34].
10- الحزن والبكاء عند ذكر المصيبة، وهما من أفضل أعمال العزاء، فإنّ هذين الحزن والبكاء يتحوّلان إلى حصن منيع يحول بين الإنسان وبين أهوال يوم القيامة وشدائدها.
11- التواضع والتأدّب الكامل في حضور المجالس، واليقين بأنّ الله تعالى حاضر وناظر.
12- المشاركة في المجالس التي يقيمها الخطباء من أهل الصلاح والحكمة والتحقيق والوعي والمعرفة بالمصالح والمفاسد، حرصاً على أن يكون الوقت مستغَلّاً بأفضل طريقةٍ ممكنة.
13- المشاركة في المجالس التي تتّسم بالتعمّق في جوهر قضيّة عاشوراء.
14- التشرّف بإلقاء التحيّة والسلام في كلّ يومٍ على المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام، سليل النور، وأبي الأحرار، ومسطّر الملاحم والبطولات، وهو من أكبر التوفيقات وأعظم النعم الإلهيّة التي يمكن أن تُعطى لإنسان.
15- إعلان البغض والبراءة من الأعداء والمجرمين والحاقدين الذين تهيّأوا وأعدّوا العدّة لقتل الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام، ومن قاتليهم وظالميهم، وهو أمر له آثار إيجابية كثيرة.
16- التوجّه بالتعزية إلى إمام العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتعزية المؤمنين بعضهم بعضاً في أيّام الحزن والعزاء، وبخاصّةٍ: في أيّام العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام ما يدلّ على كيفيّة التعزية، وهي كالآتي: "عظّم الله أجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام، وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه الإمام المهديّ من آل محمّد عليهم السلام"[35]
17- الابتعاد عن كلّ سلوك يكون خارجاً عن الضوابط الإسلاميّة أو منافياً لها.
18- الاستفادة من هذه المجالس، ومن المحاضرات التي تُلقى فيها، إلى الدرجة القصوى، لجهة رفع مستوى المعرفة الدينيّة، ونشر المسائل الشرعيّة، والأسئلة العقائديّة والأخلاقيّة.
19- اكتشاف المشاكل والسلبيّات التي تعترض مجالس العزاء، ومواجهتها ثقافيّاً في ضوء من إرشادات مراجع التقليد العظام وتوجيهاتهم.
20- إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعلى الحاضرين في تلك المجالس إذا ما لاحظوا وجود بعض الأمور السلبيّة أو المنكرة أن لا ينسوا مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الملقاة على عواتقهم، وينبغي أن لا يسمحوا بوجود أمور منكرة في مثل هذه المجالس المقدّسة, قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾[36].
21- إظهار الاحترام لكلّ من تربطه علاقة بهذه المجالس الحسينيّة، من علماء، أو خطباء، أو خدّام، وكلّ من يهيم بحبّ المولى أبي عبد الله عليه السلام, وذلك انطلاقاً من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أحبّ الله من أحبّ حسيناً"[37].
22- تقديم يد العون والمساعدة في بعض الأعمال التي يتطلّبها المجلس.
23- التوجّه بالشكر إلى كلّ المؤسّسين للمجلس ومن ساهموا في إقامته.
24- تعطيل كافّة الأعمال يوم عاشوراء والتفرّغ لإقامة مجالس العزاء والحضور والمشاركة فيها، فعن الإمام الرضا عليه السلام أنّه: "من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة"[38].
25- التقدير والاحترام لكافّة العلماء والخطباء والقرّاء والمثقّفين الواعين الذين حملوا ويحملون همّ الدفاع عن ثقافة عاشوراء.
26- المراقبة الحثيثة للمسائل والأمور الشرعيّة، ولا سيّما عُقيب الخروج من مجالس العزاء.
27- المشاركة الفعّالة في بناء الحسينيّات وأماكن إقامة المجالس, لما لذلك من أهمّيّةٍ بالغة على صعيد نشر ثقافة العزاء.
- وظائف المسؤولين عن إقامة المجالس والقيّمين عليها:
في العادة، فإنّ القيّمين على المجالس، والمؤسّسين لها، والمسؤولين عن إقامتها، هم أشخاص يصرفون شطراً من عمرهم وقفاً لخدمة أهل البيت عليهم السلام، وفي هذا السبيل، هم يبذلون طاقاتهم وقدراتهم وما أُتيح لهم من إمكانيّات، كما أنّهم ينفقون أموالهم، ويتحمّلون الكثير من المشقّات والمتاعب، ولأجل ذلك، فإنّ هؤلاء - إذا كانوا مراعين للمعايير والموازين الشرعيّة - لا شكّ أنّهم في عداد من يروّجون الخير، ويهيّئون الأسباب للتبليغ الدينيّ، ويسهمون في إحياء أمر أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وإلى جانب ما لهم من الثواب على هذه الأعمال والمساهمات، فهم أيضاً شركاء للآخرين في ثوابهم، ولكن بشرط أن تكون المجالس التي يقيمونها مبنيّةً على أساس المعرفة الصحيحة والعميقة، مع مراعاة شروط هذا العمل وآدابه. وأمّا لو كان هؤلاء من الجاهلين بأهداف مجالس العزاء، وبالبركات واللّطائف الموجودة فيها، وبالتالي: لم يراعوا حدودها وآدابها، فلن يكون في وسعهم الوصول إلى النتائج المرجوّة من خلال مجالسهم.
ولعلّ هذا من العوامل والأسباب التي حالت دون أن يتمكّن المبلّغون لثقافة عاشوراء من الوفاء بأدوارهم على ما ينبغي، ما حال أيضاً دون إعادة الانتشار لأنوار ثورة عاشوراء بما تحمله من تعاليم وقيمٍ إصلاحيّة وإحيائيّة. وعلى هذا الأساس، ينبغي لهؤلاء العمل على تطوير المجالس ورفع مستوى تأثيرها، وصولاً إلى تحقيق استفادةٍ مثلى من هذه النعمة، أعني: نعمة مجالس العزاء، وذلك لا يتسنّى لهم إلّا بمراعاة الأمور الآتية:
1- رعاية الإخلاص في العمل، والابتعاد بشكلٍ تامّ عن الرياء والعجب, وذلك لأنّ مجالس العزاء هي من مصاديق العبادة، والرياء والعجب آفة كلّ عمل عباديّ، وقوام العبادة بخلوص النيّة[39]، فما لم تتحقّق النيّة الصادقة والمخلصة فإنّ هذا العمل سوف يكون بلا أثر ولا نتيجة بالنسبة إلى القائمين به.
2- عدم الإنفاق على هذه المجالس إلّا من أموالٍ أُخرجت منها الحقوق الشرعيّة، (كالخمس والزكاة).
3- ولو كان ما وصل إليهم من المال هديّةً من الآخرين، فلا بدّ لهم من التدقيق في مصدر هذه الهديّة، وفي حلّيّتها.
4- السعي إلى أن يكون العمل صحيحاً من جميع جوانبه، وقبل التفكير بالإعداد الشكليّ للمجلس وبتجهيزاته ولوازمه المادّيّة، ينبغي التفكير بمضمونه وكيفيّته، وتقديم الاهتمام بالجوهر على الاهتمام بالمظهر. وفي هذا السياق، لا بدّ من توخّي الدقّة في اختيار المحاضرين الأكْفاء والخطباء من ذوي الصيت الحسن، والسمعة الطيّبة، ولأنّه لا مجال لتضييع الوقت، ولا الطاقات المادّيّة أو البشريّة، فمن الواجب اللّجوء إلى الأتقياء من العلماء، لاستشارتهم وأخذ رأيهم. كما ينبغي عدم التركيز على المظاهر والإجراءات الشكليّة القليلة الأثر، أو التي لا أثر لها في تحقيق المعرفة. وعليهم بدعوة العلماء من أهل العلم والفضل والتقوى، والمعروفين بالتزامهم بالقيم والمعايير الأخلاقيّة، القادرين على نشر معارف الإسلام وبيان أحكامه وتعريف الناس بحقيقة الثورة الحسينيّة وأهدافها.
وأمّا مجرّد حفظ بضعة أبيات من الشعر، وعدّة قصص وروايات، وامتلاك صوت جميل، فلا يكفي لكي يكون الشخص حائزاً على الشرائط والمزايا المطلوبة للخطابة الحسينيّة وقراءة العزاء. ومن هنا، لا بدّ من دعوة الخطيب أو قارئ العزاء الذي يمتلك قدراً من المعرفة بمقام الإمامة، على أن يكون من أصحاب السمعة الحسنة، متديّناً، معروفاً بالتقوى والصلاح والأمانة - وهؤلاء - والحمد لله - كثيرون -، ومن دون ذلك، فلا يتوقّع أن تحصل الفائدة المطلوبة من المجلس.
وفي هذا المعنى، يقول العارف الواصل العالم الربّاني آية الله الميرزا آقا جواد الملكيّ التبريزيّ- رضوان الله تعالى عليه-: لا تدعوا لقراءة المصيبة إلّا صاحب التقوى، ومن كان صادقاً في ذكر المصيبة.
وإنّنا هنا ننصح بالعودة إلى الطريقة التي كانت متداولةً في السابق، حيث كان يُصار إلى تقديم محاضرة أمام مجلس العزاء، يُخصّص لها مقدار كافٍ من الوقت، وذلك بهدف تعريف الناس على فلسفة الثورة الحسينيّة وأبعاد شهادة الإمام الحسين عليه السلام وعظمة أهدافه السامية. وهذه الطريقة في غاية الأهمّيّة، ولا سيّما عند اشتعال الفتن، واضطراب أفكار الناس ومعتقداتهم. ومن الخطأ جدّاً ما يجري على الساحة اليوم من التعاطي بشكلٍ عاطفيّ بحت مع قضيّة العزاء، وإفراغ مجالس العزاء من مضمونها الحقيقيّ، وتحوّل الوعظ والمنبر إلى أمر هامشيٍّ فيها، واستبدال المسائل الأساسيّة لتصبح هي المسائل الفرعيّة والجانبيّة، فإنّ ذلك من شأنه أن يجعل إيمان الناس في أدنى مستوياته، وهو يعرّض معتقداتهم للخلل والانحراف، بل هذه الأمور من أخطر العوامل وأكثرها قدرةً على إلحاق النقص والضعف بأسس البنيان الثقافيّ لنهضة عاشوراء، بل هي تجعل من الإسلام ديناً قشريّاً ناقصاً خالياً من المعنى والمضمون، وهي أكبر ضربة قاصمة يمكن أن تحيق بالإسلام، ومن المسلّم به أنّ صاحب الشريعة لا يرضى بذلك، كما لا يرضى به الإمام الحسين عليه السلام. وإنّ الابتعاد عن حقيقة ما جرى في كربلاء، وعدم التركيز على أهدافها العليا، قد يؤدّي في يوم من الأيّام - لا قدّر الله - إلى ضياع تلك الأهداف، بل قد يؤدّي إلى إنكار أصل وقوع الحادثة. وبشكلٍ عامّ، فإنّ التعاطي مع الدّين بدون تفقّه وتدبّر في مسائله وقضاياه يوجب لحوق أضرار عديدة بالدّين والتديّن. من هنا، فإذا كان القيّمون على إقامة المجالس يريدون لأتباع هذا الدّين ومحبّيه أن يتحوّلوا إلى عارفين به، وإذا كانت لديهم رغبة في اقتلاع بذور الفساد والتهتّك والتحلّل من الدّين، وأحياناً العداء للدّين، والتي تفد إلى مجتمعاتنا من الغرب، فعليهم اليقظة والتعاطي مع تلك المجالس المباركة بشكلٍ مسؤول وواع.
5- حسن التعامل مع الحاضرين في المجلس، والتعاطي مع الجميع بالطريقة نفسها، بدون تمييز لأحد على أحد، إلّا أن يكون لأحدهم منزلة علميّة أو دينيّة تقتضي له احتراماً زائداً، كأن يكون من المعروفين بإقامة مجالس العزاء، أو من أهل العلم والفضل والكمال.
6- اجتناب المظاهر التي تنافي الحكم الشرعيّ في إحياء مجالس العزاء.
كتب الفقيه الكبير الميرزا النائينيّ قدس سره جواباً على استفتاء أهالي البصرة في خصوص حركات المواكب العزائيّة: "خروج المواكب العزائيّة في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرق والشوارع ممّا لا شبهة في جوازه ورجحانه وكونه من أظهر مصاديق ما يُقام به عزاء المظلوم... لكنّ اللازم تنزيه هذا الشعار العظيم عمّا لا يليق بعبادة مثله من غناء أو استعمال آلات اللهو والتدافع في التقدّم والتأخّر بين أهل محلّتين، ونحو ذلك. ولو اتفق شيء من ذلك، فذلك الحرام الواقع في البين هو المحرّم، ولا تسري حرمته إلى الموكب العزائيّ[40]، ويكون كالناظر إلى الأجنبيّة حال الصلاة في عدم بطلانها"[41].
7- الحرص على أن تُقام مجالس العزاء ضمن وقتها المحدّد لها، واجتناب الإطالة وسلب راحة الجيران. وللنجاح في ذلك ينبغي لَفْتُ نظر المحاضر والخطيب إلى ضرورة الحضور إلى مكان إقامة المجلس في الوقت المحدّد، وكذلك إلى ضرورة الانتهاء في الوقت المحدّد لذلك.
8- الوسطيّة والاعتدال، وهذا من جملة الأصول الأساسيّة التي ينبغي للقيّمين على المجالس أن يجعلوها على قائمة أولويّاتهم واهتماماتهم.
9- الابتعاد عن أذيّة الآخرين وإزعاجهم وإصدار أصوات منكرة.
10- رعاية النظافة والقواعد الصحّيّة السليمة في إعداد الطعام، وفي تطهير المكان من دماء الذبائح التي قد تُذبح خلال المواكب العاشورائيّة.
11- ليست إقامة مجالس العزاء في حقيقة الأمر سوى إعلانٍ لانتظار ظهور صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وحيث كانت كذلك، فلا بدّ من تضمينها الدعاء والابتهال إلى الله تعالى لنكون معه عجل اله تعالى فرجه الشريف في طلب الثأر لدماء جدّه الحسين عليه السلام. ورد في الزيارة: "أسأله... أن يرزقني طلب ثاري مع إمام مهديّ ظاهر ناطق منكم"[42].
12- تغطية جزء من محيط المجلس بالسواد، إظهاراً لشدّة المصاب، وفداحة الخطب، وتغطية سائر أجزاء المكان بلوحاتٍ ترمز إلى عظمة المصيبة، ولا مانع من نشر بعض الأبيات الشعريّة المشجية والمعروفة، كقول دعبل الخزاعيّ: (أفاطم قومي يا بنة الخير واندبي...).
13- وضع وإلصاق لوحاتٍ إعلانيّة في الطريق من مكان المجلس وإليه.
14- كتابة عبارات كعبارة "السلام على الحسين عليه السلام" على تلك اللّوحات الإعلانيّة، أو تعليق صورٍ واقعيّة كصورة حرم الإمام الحسين عليه السلام ومقامه الطاهر، وتجنّب الصور التي تُعرض في الأسواق تحت عنوان صورٍ للإمام الحسين أو لأخيه قمر بني هاشم عليه السلام.
15- وضع أقمشة وتعليقها يُكتب عليها بخطٍّ جميل أسماء شهداء الطفّ.
16- إهداء كتب مفيدة وتوزيعها على الحاضرين في بعض أيّام العزاء أو لياليه.
17- الفصل في المجلس بين النساء والرجال، في الأبواب وأماكن الدخول، كما في أماكن الجلوس.
18- أخذ فتاوى مراجع التقليد العظام وآرائهم وملاحظاتهم حول كيفيّة انعقاد المجالس الحسينيّة بعين الاعتبار.
هذه الأمور المتقدّمة التي أشرنا إليها ليست سوى جزءٍ من التوقّعات والأمور التي ينتظرها روّاد المجالس الحسينيّة في هذه الأيّام من المؤسّسين لها والقيّمين عليها.
- وظائف أهل المنبر ومسؤوليّاتهم
لا شكّ في أنّ هذه المجالس والمآتم التي تُعقد على خلفيّة إحياء ثورة عاشوراء هي محلّ اهتمام وعنايةٍ من قِبَل الوجود المقدّس لبقيّة الله الأعظم الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف. وهي - هذه المجالس - تشكّل سلاحاً قويّاً وفعّالاً في أيدي علماء الدّين والمبلّغين والخطباء وأهل المنبر ممّن يتعرّضون لذكر مصائب الإمام الحسين عليه السلام. الأمر الذي يرتّب عليهم - في حقيقة الأمر - مسؤوليّة جسيمة، وهي مسؤوليّة الحفاظ على هذا الكنز الثمين، والترويج لتعاليم الدّين، بل إنّ دور هؤلاء يشبه دور الأنبياء العظام عليهم السلام[43] في إبلاغ الوحي الإلهيّ، وهذا يتطلّب منهم أن يستلهموا من دروس ثورة عاشوراء لنشر قيمها ومفردات ثقافتها في المجتمع الولائيّ بما يتناسب مع مقتضيات الزمان والمكان.
ولسنا نبالغ هنا عندما ندّعي أنّ بقاء هذا الدّين واستمراره مشعلاً ينير دروب البشريّة على طول التاريخ مدين- بشكلٍ أساسيّ- لجهود هؤلاء الأعلام، وتضحياتهم، ومساعيهم التي بذلوها في سبيل ردّ شبهات المغرضين والمحرّفين وأمثالهم. كما أنّ جميع أعمال الخير والإحسان التي نراها، من الأبنية العامّة النفع، كالمستشفيات والجسور وخزّانات المياه و.. وكذلك الأوقاف المخصّصة لحفظ الأيتام وكفالتهم واحتضانهم وإطعام الفقراء والمساكين وغير ذلك الكثير من أعمال الخير.. ما هي إلّا نتيجة الاستفادة الصحيحة لعلماء الدّين المخلصين من مجالس الإمام الحسين عليه السلام.
واليوم، فإنّ على هؤلاء أيضاً العمل على تعريف الناس بأئمّة هذا الدّين وقادته، ونشر معارف الإسلام، وتحريك عواطف الناس ومشاعرهم الصادقة، وتوجيههم في مسير التقوى، والحفاظ على روحيّة الجهاد وثقافة الشهادة، ونقلها للآخرين عن طريق ذكر شهداء كربلاء، ودعوة الناس وحثّهم على طاعة الله الرؤوف الرحيم، وإبعادهم عن معاصيه.
ومعلوم أنّ مثل هذه المسؤوليّة الثقيلة والخطيرة لا يضطلع ولا ينهض بها إلّا الرجال الأفذاذ من أهل الدّين والعلم والتقوى.
وفيما يلي، نوجز بعض الخصائص التي ينبغي أن تتوفّر في الخطباء وأهل المنبر، وذلك في ضمن أمور:
1- الكفاءة العلميّة والعمليّة: يحتاج تبليغ الدّين، مضافاً إلى وجود الإيمان والتصديق القلبيّ عند المبلّغ، إلى التفقّه، وهو الفهم العميق للدّين، وامتلاك العلوم والمعارف التي يحتاج الناس إليها، مع القدرة على تعريفها وبيانها بأفضل الوسائل وأحسنها. وفي الواقع، فإنّ من نافلة القول أنّ العلم والمعرفة هما رأس المال الحقيقيّ للمبلّغ، ومن دونهما تتعقّد الأمور، ويسود الإرباك والضياع، وبخاصّةٍ في مجال العلوم الدّينيّة. فإذا كان المبلّغ منقطعاً عن الحضور عند أساتذة العلم، وغير متابع للدرس والمطالعة، فهو في الحقيقة عاجز عن إدراك المعارف السامية والعميقة التي تضمّنها القرآن الكريم، وبيّنها أهل البيت عليهم السلام، ومن لا قدرة له على إدراك علمٍ أو معرفةٍ ما فهو لن يكون قادراً - حتماً - على إفهامها للآخرين، ولذا، ينبغي تجنب الإصغاء إلى حديث خطيبٍ لم يكتسب المهارات العلميّة الكافية واللّازمة قبل أن يعمل على تحصيل فنّ الخطابة والكلام.
2- الاطّلاع الكافي والتسلّط التامّ على موضوع المحاضرة وأبعادها وتفاصيلها: إضافةً إلى القدرة على جمع المعطيات التاريخيّة وتجديد النظر فيها, فمن كان لا يمتلك معرفة كاملة بالمسألة التي يرغب بالحديث حولها، فالأفضل له أن يقلع عن تبليغها, لأنّه إن تصدّى لبيانها والحديث عنها مع فرض أنّه لا يدركها ولا يفهمها على حقيقتها، فإنّ فعله هذا لن يكون - في الواقع - سوى توجيه ضربةٍ قاسية للإسلام، وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾[44].
3- التحلّي بالسلوك الحسن والأخلاق الإسلاميّة الرفيعة: على المبلّغ الإسلاميّ أن يؤدّب نفسه، ويسعى في أمر تزكيتها وتهذيبها، إلى حدٍّ يكون قد طوى العديد من المراحل في سبيل الصعود إلى قمّة التقوى والتواضع، كلّ ذلك لأجل أن يتمكّن من التأثير في الناس، ويكون موفّقاً في دعوتهم إلى الله تعالى، وفي التعامل مع مستوياتٍ مختلفة من الناس في الأفكار والآراء والتوجّهات. ولولا الأخلاق الرفيعة، وتخلية الباطن من الرذائل، وتحليته بالفضائل، لما تمكّن كبار المبلّغين لهذا الدّين من الوصول إلى نتائج طيّبة وتوفيقات كبيرة ومهمّة.
وأمّا أهمّ الصفات والسجايا الأخلاقيّة التي يجب على المبلّغ أن يتحلّى بها، فهي: الخلق الحسن، الرحمة، التواضع، اللّطف واللّيونة، الشجاعة في قول الحقّ، العفّة، عزّة النفس، الصدق، الوعي وسعة الفكر، القدرة على الاستدلال، رعاية النظم في عرض المطالب، القدرة على البيان.
4- المحبوبيّة: إذا تمكّن المبلّغ من النفوذ إلى القلوب، وحظي بمحبوبيّة كبيرة في المجتمع، فإنّ كلامه - بدون شكّ - سيكون أكثر وقعاً في النفوس، ومن هنا، فعلى كلّ خطيبٍ يرغب في أداء وظيفته ومسؤوليّته الإلهيّة، ويطمح في خطابته إلى تحقيق نتائج إيجابيّة، أن يعيش بنحوٍ يضمن له أن يكون محبوباً في أوساط الناس.
وأمّا الأسباب والعوامل التي تحقّق مثل هذه المحبوبيّة، فهي: معرفة النفس وتربيتها، بساطة العيش، خدمة الناس، اللّين، التواضع مع أهله، الدفاع عن المظلومين، أن يكون عاملاً بما يقوله للناس، الكرامة وعزّة النفس، السعي إلى كسب رضا الحقّ تعالى، الاستقامة، امتلاك سعة الصدر وصفات الحياء والعفّة، أن يطالع في العديد من المجالات، صدق اللّهجة، الواقعيّة في مقاربة الأمور، تقديم مصالح الشعب والوطن على الأغراض والمآرب الشخصيّة، والابتعاد عن صفة الطمع.
5- التطابق بين القول والعمل: ينبغي على حاملي لواء الرسالة الإلهيّة أن يكونوا ملتزمين بأقوالهم، لا بل أن يكونوا قدوةً يُحتذى بها في المواعظ التي يلقونها على مسامع الناس. وهذه هي الحقيقة التي يتوقّعها الناس دائماً من أهل الوعظ والإرشاد، أن يعملوا بما يقولون، وأن يمتنعوا عمّا ينهون الناس عنه[45]، وبهذا النحو فقط يمكنهم النفوذ إلى قلوب مخاطَبيهم وأعماقهم.
وأمّا لو كان المبلّغ سيّئ الفعل والعمل، أو كان عمله على خلاف ما يقول وما يدعو إليه، فهو بذلك يوجّه أقوى وأشدّ الضربات إلى الدّين والتديّن. أضف إلى ذلك، أنّ كلّ متكلّم لا يعمل على إصلاح أخلاقه وملكاته النفسانيّة، ولا يتحلّى بالفضائل الأخلاقيّة، فإنّ كلامه لن يكون مؤثّراً في الآخرين، ولن يكون لمجالسه ثمرة حقيقيّة، بل إنّه ربما أضلّ الناس، بدلاً من هدايتهم. وإلى جانب هذه الآثار السيّئة التي تترتّب على فعله عمليّاً، فإنّ من لا يعمل يتسبّب بسوء الظنّ بالإسلام وعلماء الدّين المبلّغين، مضافاً إلى أنّه بذلك يكون مشمولاً للعتاب الإلهيّ: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾[46].
6- الصدق: تحت هذا العنوان، لا بدّ من أن نضع نصب أعيننا وصايا أمير المؤمنين عليه السلام، وفيها نجد الإمام عليه السلام يتحدّث عن الصدق بوصفه إحدى أهمّ الفضائل والسجايا الأخلاقيّة التي يجب على الجميع أن يتحلّى بها، ويتأكّد هذا الوجوب في الخطباء وأهل المنبر وقرّاء العزاء ممّن هم معروفون بين الناس بالخير والصلاح, ويعدّ الصدق ركناً من أهمّ أركان الفكر العاشورائيّ والثورة الحسينيّة، وأمّا الكذب، فهو يقع على الطرف المقابل تماماً لهذا الفكر، ولهذه الثورة.
ومن هنا نجد القرآن الكريم في مقام تشييد نبوّة الأنبياء العظام يركّز على وصفهم بالصدق في القول[47]، وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إن الله عزَّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر"[48].
وفي هذا الإطار، ينبغي على الوعّاظ والخطباء الالتفات إلى المراثي والأشعار التي يتضمّن بعضها الكذب، وعدم الإتيان بشيءٍ منها بهدف إبكاء المستمعين، وتأجيج مشاعرهم, لأنّه إن راج الكذب في المجالس والمراثي، فإنّ المستمعين سيفقدون إيمانهم وثقتهم بها شيئاً فشيئاً.
وانطلاقاً من قوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[49]، على الخطباء وقرّاء العزاء أن يدركوا جيّداً أنّ كلّ إنسان مسؤولٌ يوم القيامة عن أقواله، ومن هنا، ينبغي لهم الامتناع عن ذكر الأحداث والتحليلات الخاطئة أو التي لا يتوفّر أيّ شاهد لإثبات صحّتها, ذلك لأنّ الأفكار الباطلة، والاستنتاجات التي لا أساس لها من الصحّة من شأنها أن تترك آثاراً مدمّرة، ولا أقلّ من أنّها تؤدّي إلى انزلاق المجتمع وانحرافه عن الأهداف التي أرادها الإمام الحسين عليه السلام. يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً أبا ذرّ: "ما من خطيب يخطب إلّا عُرضت عليه خطبته يوم القيامة وما أراد بها"[50].
7- حفظ الدّين وإحياء تعاليم الإسلام الأصيل ومدرسة التشيّع: في مقابل كلّ البدع والتحريفات ومحاولات تشويه المبادئ والقيم.
8- العمل على إعادة توجيه الناس نحو القرآن الكريم: والاستفادة من الآيات والروايات، وتفسير الأسباب التي دعت إلى نهضة عاشوراء وتحليلها، وبيان أهداف وفلسفة ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتفصيلها, والتركيز على الدروس والعِبَر التي يمكن استخلاصها من عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام، وما تحمله من رسائل وأبعاد، وعدم استعراض ما جرى على طريقة الأساطير والخرافات.
9- حثّ الناس على الاقتداء والتأسّي بأهل البيت المعصومين عليهم السلام.
10- امتلاك بصيرة معنويّة عالية: لأنّ رفع مستوى الوعي لدى الناس، وتهذيب الثقافة الشعبيّة، والحفاظ عليها نقيّةً خاليةً من الشوائب هي من أهمّ وظائف الخطيب الإسلاميّ، فما لم يمتلك الخطيب وعياً وبصيرةً معنويّة عالية مستقاة من المصادر المعتبرة والموثّقة، فلن يكون بمقدوره أن يقوم بهذه الوظيفة.
11- صيانة الدّين والمجتمع من الخرافات: ويدخل في ذلك: إبعاد أهل البدع وأصحاب الأفكار الباطلة والآراء الزائفة وطردهم، وعدم الاستفادة من الكتب الضعيفة أو المحرّفة، والحرص على وصف ما جرى في ساحة كربلاء بدقّةٍ بالغة، ونقل الوقائع التي حدثت يوم عاشوراء كما هي، بدون زيادةٍ ولا مبالغة، فالقلوب جميعاً بيد الله تعالى، وهو مقلّب القلوب، وهو من يحنّن القلوب ويُجري الدموع من مآقيها.
12- الامتناع عن ذكر الفضائل والمعجزات والأحاديث التي يصعب إثباتها للعوامّ من الناس أو التي يتعسّر عليهم قبولها والتصديق بها، حتّى لو كانت في نفسها مطالب حقّة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تحدّثوا الناس بما لا يعرفون، أتحبّون أن يكذَّب الله ورسوله؟!"[51].
13- رعاية الظروف والمناسبات الزمانيّة: فلا يذكر المصائب المفجعة في غير أيّام عاشوراء حتّى لا تُدبر القلوب أو تملّ.
14- العمل على تقوية الإخلاص: فالإخلاص هو الركن الأساس في عمليّة التقرّب إلى الله عزَّ وجلّ، وهو نور كلام الخطباء والواعظين، وإنّ الخطابات والمجالس تبقى غير ذات قيمةٍ إلى أن تُؤدّى بصدقٍ وإخلاص نيّة.
يقول المحدّث النوريّ الطبرسيّ قدس سره في كتابه (اللّؤلؤ والمرجان) - ما معرّبه -: يجب أن يعلم الخطباء أنّ عملهم عبادة كسائر العبادات، وإنّما يكون العمل عبادة فيما إذا لم يكن للعامل حين العمل أيّ قصدٍ آخر سوى رضا الله، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى عليهم السلام، وإن كان، فإنّما هو مجرّد حصول الثواب الموعود وغفران الذنوب, فإنّ ذلك لا ينافي الإخلاص, إذ العمل معه لإطاعة أمر الباري عزَّ اسمه، وبالطاعة يصل المطيع إلى ما أُعدّ له من الثواب الجزيل والأجر الجميل ويأمن من شرّ ذنوبه[52]. لو كان الدافع لدى الخطيب هو العشق لله تعالى، والإيمان بالله الرحيم، لكان - دون شك - مأجوراً عند الله عزَّ وجلّ، عظيماً في أعين الناس. وإنّنا لو تتبّعنا سير الخطباء المعروفين والناجحين والمتميّزين، فسنجد أنّ الإخلاص كان يقف دائماً على رأس الأسباب التي أدّت إلى نجاحهم وتوفيقهم.
15- لا أسألكم عليه أجراً: من الخطوات الأساسيّة والمهمّة للنجاح في ساحات الإرشاد والتبليغ، عدم النظر بطمعٍ إلى أموال الناس، وعدم الاتّجار بهذه الخدمة المقدّسة بالأثمان الدنيويّة البخسة. وبالطبع، فإنّنا هنا لا ندعو إلى الامتناع عن تقبّل هدايا الناس عُجُباً وكِبراً، بل المقصود أن لا يتحوّل الوعظ والتبليغ والإرشاد والخطابة وقراءة العزاء إلى مهنةٍ أو عمل تجاريّ.
16- الترتيب والأناقة والاعتناء بالمظهر الخارجيّ: من المعلوم أنّ النظافة والترتيب وعناية الإنسان بمظهره الخارجيّ والتعطّر والتطيّب، كلّ ذلك يوجب رضا الله سبحانه وتعالى، ويؤدّي إلى إقبال الناس عليه، ويساهم في توطيد العلاقات بين الناس. وكما أنّ المبالغة في العناية بالمظهر، والاهتمام الزائد بالشكل والمنظر، يوجبان نفور الناس واشمئزازهم، فكذلك إهمال الإنسان لشكله وصورته الخارجيّة، أو عدم تزيين شعر لحيته ورأسه، فهو- أيضاً- يؤدّي إلى نفور الناس وابتعادهم عنه. فالترتيب والأناقة يمكن لهما أن يجتمعا مع البساطة.
17- الاجتهاد في تنوير العقول وتطهير النفوس: والعمل على تقوية الثقافة الدينيّة وتعميقها، وتوجيه المجلس نحو مسار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعبادة الله حتّى يأتي اليقين وتتحقّق المعرفة الإلهيّة الكاملة، والعمل على رفع مستوى سلوك المخاطبين وتصرّفاتهم من خلال التزام طريق العدالة والإحسان والعمل بمكارم الأخلاق.
18- معرفة أحوال الناس وتقلّبات الزمان: يجب على الخطيب أن يعمل على بيان أسس التعاليم الإسلاميّة وتعليمها للناس، وبيان حقائق الدّين والمذهب، مع رعاية مقتضى حال المخاطَبين، وبما يتناسب ودرجة الوعي والاستعداد الذهنيّ لديهم، والابتعاد عن الخطابات المعقّدة غير المأنوسة لدى الناس، والامتناع عن ذكر مسائل لا تحظى بمقبوليّة عقليّة، ولا سيّما فيما يتعلّق بواقعة كربلاء، روايةً ودرايةً، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "كلّموا الناس على قدر عقولهم، أتحبّون أن يكذّبوا الله ورسوله؟!"[53].
19- تعميق محبّة أهل البيت عليهم السلام في قلوب الحاضرين في مجالس العزاء: لصونهم من المشاكل والمصاعب التي قد تعترض طريقهم.
20- اجتناب التكرار والإعادة: في عصر ثورة الاتّصالات وتسارع المعلومات، لا رغبة لدى أحدٍ من الناس للاستماع إلى مطالب مكرّرة، أو لصرف وقتهم في الاستماع إلى توضيح الواضحات، فالمبلّغ الناجح هو ذاك الذي يستطيع أن يقدّم لمستمعيه مسائل جديدة، وينتقل معهم في إطار حراك فكريّ مستمرّ.
21- الابتعاد عن الإطالة والإطناب المملّ: والذي يؤدّي إلى تعب المستمعين. قال بعض المفكّرين: "اتركوا مستمعيكم قبل أن يتركوكم"[54].
22- المسارعة إلى تصحيح الخطأ على تقدير وقوعه.
23- اتّخاذ وقفة قصيرة بعد الانتهاء من الخطابة للإجابة عن أسئلة المستمعين إذا أمكن.
24- ترك المطالب التي لا أساس لها من الصحّة، وعدم الخوف من قول "لا أعلم": بل هذا القول في الحقيقة يعدّ مؤشّراً على مستوىً عالٍ من الوعي والبصيرة والاستقامة والتقوى، وإنّ أحداً لا يتوقّع من شخصٍ ما أن يكون عالماً بكلّ شيء، بل ما يتوقّعه ويرجوه منه هو أن يَصدقه القول فلا يجيبه بما لا يعلم، لذا ورد في بعض الروايات، "ولا يستحينّ أحد منكم إذا سُئل عمّا لا يعلم أن يقول لا أعلم"[55].
25- عدم التصدّي لمقام الفتيا لمن لم يكن مجتهداً بالأحكام الشرعيّة: ورد في العديد من الروايات النهي عن الإفتاء بغير علم، من قبيل ما رواه في تحف العقول عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض"[56].
26- اجتناب مدح الذات، والإقلال من استعمال كلمة "أنا".
27- احترام الخطباء الآخرين.
28- الحرص على عدم ارتقاء المنبر من دون وضوء.
29- تأجيل ذكر المصيبة حتّى نهاية المجلس.
وينبغي على الخطيب أن يضع نصب عينيه حقيقة أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين كانوا من الباكين على الإمام الحسين عليه السلام، والذاكرين لمصابه، فهذا مقام عظيم، وفي تركه رغبةً عنه بُعدٌ عن الله تعالى، وخروج عن طريق الأنبياء والملائكة. وإنّ غفلة بعض الخطباء عن عظمة هذا المقام الذي أولاه الأئمّة عليهم السلام أهمّيّةً كبيرة أدّت إلى وجود بعض المشكلات والآثار السلبيّة.
30- الصبر في طريق التبليغ: قد لا يكون من السهل في كثير من الأحيان أداء المبلّغ وظيفته التبليغيّة، بسبب ظروف ثقافيّةٍ معيّنة تحكم وتهيمن على البيئة والمحيط الاجتماعيّ، ما يجرّ معه عدداً من المشاكل والقضايا. وفي هذا الإطار، لا شيء باستطاعة المبلّغ أن يفعله سوى الصبر وتحمّل المصاعب والشدائد والآلام.
ومن جهة أخرى، فإنّ ما يتعلّمه الإنسان في صغره، وما يتلقّاه في سنّ المراهقة مثلاً كحقيقة لا ريب فيها، أو كأصل مسلّم لا يقبل النقاش، ليس من السهل تغييره واقتلاعه من القلوب، ومن هنا، يتطلّب إقناعه بالأفكار الصحيحة والآراء الصائبة، مزيداً من الوقت، والدقّة، وسعة الصدر، والتي لا مجال لها إلّا بالحلم والرفق والتحمّل.
31- افتتاح المجلس بذكر بقيّة الله الأعظم - أرواحنا فداه -: واختتامه بالدعاء والابتهال والتضرّع إلى الله تعالى بحفظه وتعجيل فرجه.
- شعراء الملحمة الحسينيّة
أدّت وصايا الأئمّة عليهم السلام وتأكيداتهم الكثيرة على الاهتمام بواقعة الطفّ الأليمة، إضافةً إلى شدّة هذه الفجيعة، وتراجيديّة أحداثها المأساويّة، إلى تأجيج مشاعر الكثير من الشعراء والأدباء الملتزمين، وتفجير عواطفهم وأشجانهم، منذ العهدين الأمويّ والعباسيّ وحتّى عصرنا هذا. هذه المشاعر والعواطف الصادقة والملتهبة، برزت في ذلك العدد الهائل من القصائد الشعريّة التي أنشدوها حول هذه الحادثة الأليمة[57].
كشفت هذه القصائد جوانب متعدّدةٍ من مظلوميّة المولى أبي عبد الله عليه السلام، وعزّته وإبائه للضيم، واحتوت أبياتاً رفيعة المعاني عالية المضامين، استطاعت أن تقدّم لنا صورةً فريدة عن واقعة كربلاء، وعن المظلوميّة والحقّانيّة التي يجسّدها خطّ الإمام الحسين عليه السلام ومن قضى معه من آل عليّ عليه السلام وغيرهم من الشهداء الأوفياء. وكان لهذه القصائد والأشعار أثر كبير حتّى على مستوى دفع بعض الحكّام والسلاطين المسلمين وتحريكهم للانتقام وأخذ الثأر من بني أميّة الذين تسبّبوا بهذه الفاجعة الكبيرة.
وبحقٍّ نقول: لولا هذه القصائد والأبيات التي أسهمت - مع الحفاظ على رفعة المضمون والتناسب مع أهداف أهل البيت عليهم السلام وتعاليمهم - في إضفاء لمسةٍ جماليّة وفنّيّةٍ خاصّة على وقائع حادثة عاشوراء، لربما كان من غير الممكن أن تنغرس هذه الحادثة الأليمة إلى هذه الدرجة في نفوس العاشقين للإمام الحسين عليه السلام وقلوبهم، أو أن تجعلهم يتأثّرون بها إلى هذه الدرجة العميقة بحيث تنفذ إلى داخل قلوبهم وأرواحهم وضمائرهم.
وهكذا كان للشعراء الحسينيّين دور كبير ومؤثّر في إحياء حادثة عاشوراء وفي حفظها وإبقائها، من خلال أبياتهم البليغة، وأشعارهم الرائعة، وكذلك فهم نجحوا إلى حدٍّ كبير في الترويج لفضائل أهل البيت عليهم السلام وفي تعميق محبّتهم ومعرفتهم في القلوب والعقول، وفي تظهيرهم كأسوة يُحتذى بها في حياة البشر, فقد جعل هؤلاء الشعراء من تلك المثل العليا، التي امتدحها الله تعالى، محوراً لقصائدهم وأبياتهم ومدائحهم.
وما ينبغي لشعراء أهل البيت عليهم السلام مراعاته هو الأمور الآتية:
1- امتلاك حسّ الغيرة على الدّين، والردّ على الأشعار والقصائد التي ينشدها أعداء هذا الدّين.
2- الرجوع إلى المصادر التاريخيّة المعتبرة وكتب المقاتل التي ثبتت صحّتها، ليكون لأشعارهم مستند صحيح يمكن الركون إليه. وفيما يتعلّق بوصف المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام، عليهم أن يتحرّوا في وصفهم له الصدق والدقّة الكاملة، بما ينزّهه عن الذلّ والهوان والضعف، وبما يبعده عن التحجّر واللّاعقلانيّة. ولا ينبغي لهم أن يقصروا قصائدهم على التحسّر والتفجّع والحزن والبكاء، بل لا بدّ - إلى جانب ذلك كلّه - من تقديم صورةٍ صادقة وواضحة عن الظلم الذي تعرّض له العلويّون، وكلّ ذلك في سياق مضامين صحيحة هادفة، وفي قوالب رصينة ومتناسقة، وبلغةٍ جذّابة رائعة.
3- المعرفة والوعي بمحاولات التحريف والتزييف والتشويه التي تعرّض لها تاريخ عاشوراء، لتبقى هذه القضيّة بمأمنٍ من مثل هذه المحاولات.
4- الابتعاد عن العقائد الباطلة، وعدم الترويج لأفكار الغلوّ والانحراف, فإنّ الأصول الفكريّة التي تقوم عليها مدرسة الإماميّة ليست إلّا أفكاراً مقتبسةً من آيات القرآن الكريم وما صحّ من السنّة الشريفة، وبالتالي: فهي على تعارضٍ تامّ مع الأفكار والتصوّرات التي تحمل في طيّاتها رائحة الغلوّ والمبالغة.
ومن هذا المنطلق، فلا يُقبل من الشعراء المخلصين في الولاء لأهل البيت عليهم السلام، أن يسلكوا في مدحهم لأئمّة الدّين عليهم السلام طريق الإفراط والغلوّ والمبالغة، كما لا يُقبل منهم بأيّ شكلٍ من الأشكال الخروج عن الدائرة التي رسمها الدّين وحدّد إطارها.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك الأئمّة الأطهار عليهم السلام من ذرّيّته صلى الله عليه وآله وسلم، أشخاص استثنائيّون، قلّما يجود الزمان بمثلهم، وهم القدوة للبشر، ولكنّ نشر فضائلهم، والحديث عن أخلاقهم وسجاياهم، وتفصيل
مقاماتهم ودرجاتهم، شيء، والإفراط والغلوّ فيهم شيء آخر، وقد أكثر الأئمّة عليهم السلام من النهي عن ظاهرة الغلوّ، واعتبروها انحرافاً كبيراً لا يجوز السكوت عنه، وبذلوا جهودهم في محاربته وإصلاحه. وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "هلك فيّ رجلان: محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ"[58]. وفي حديث آخر يقول عليه السلام: "إيّاكم والغلوّ فينا"[59]. وفي روايةٍ عن حفيده الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم"[60]. إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة والمتوافرة التي طفحت كتب الشيعة بها، والتي مشى عليها أعلام هذه المدرسة واتّخذوها طريقاً لهم متّبعاً. وعلى شيعة الإمام الحسين عليه السلام أن يقفوا في وجه انتشار هذه القصائد والأشعار التي يُستشَمُّ منها رائحة الكفر والشِّرك، وأن يعملوا على منعها في المجالس الحسينيّة.
5- أن لا يكون الشعر مشتملاً على معلومات مغلوطة، وأفكار باطلة, كبعض الأبيات التي تتضمّن الحديث عن شفاعة أهل البيت عليهم السلام وتدعو إلى ارتكاب المعاصي والذنوب...
6- إظهار التبجيل والاحترام والتأدّب الكامل لأهل البيت عليهم السلام. فالشعراء من أهل الولاء يمثّلون المرآة التي تعكس مظاهر الأئمّة عليهم السلام بوصفهم المثُل الإنسانيّة العليا الذين يجسّدون الأخلاق الفاضلة، فلذلك ينبغي لهم حين الحديث عنهم عليهم السلام أن يراعوا منتهى الأدب والتواضع، كما يجب عليهم بذل أقصى جهدهم للتدقيق كثيراً في انتقاء الكلمات التي يُراد استعمالها في وصف هؤلاء العظماء ومدحهم، مع الأخذ بعين الاعتبار حرمتهم وعصمتهم، ما يحتّم الابتعاد عن العبارات غير اللّائقة بمقامهم عليهم السلام، والمضامين الواهية والمبتدعة، أو تلك التي قد تحوي شيئاً من الاستهانة بتضحيات أحدٍ من رجالات كربلاء، أو تلك التي قد يُستشّم منها نسبة نوع من الضعف أو العجز أو الذلّ عند الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه خلال مواجهة الأعداء.
وقد يفرط بعض قرّاء التعزية، في سعيهم إلى تحريك عواطف الحاضرين وإبكائهم، فيأتون بأشعارٍ تشوّه أعمال رجالات كربلاء أو أقوالهم.
وفي هذا يقول العالم التقيّ المحدّث الشيخ عبّاس القمّي في نصائحه لأهل المنبر ما نصّه:
أن لا يقول (أي: الخطيب) ما يُشعر بذلّة أبي عبد الله الحسين وأهل بيته المكرّمين عليهم السلام, فإنّه كان سيّد أهل الإباء والحميّة، الذي علّم الناس الموت تحت ظلال السيوف اختياراً على الدنيّة، ونادى برفيع صوته يوم عاشوراء: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسله والمؤمنون"[61].
وينقل العالم المتبحّر الميرزا حسين النوريّ - نوّر الله مرقده - في كتابه دار السلام الحكاية التالية، يقول: رأى بعض السادة من قرّاء التعزية في المنام كأنّ القيامة قد قامت، والناس في وحشة ودهشة، لكلّ امرئ منهم شأن يغنيه، والموكلون يسوقون الناس إلى الحساب، ومع كلّ واحدٍ منهم سائق وشهيد، فبينا أتفكّر في العاقبة، فإذا باثنين منهم أمراني بالحضور عند سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، فقادوني قهراً، ونهضوا بي زجراً... فإذا بمنبرٍ عالٍ كثير المرقاة والدرج، على ذروته سيّد المرسلين ، وعلى الدرج الأوّل منه خاتم الوصيّين عليهما الصلاة والسلام، وهو مشغول بحساب الناس، وهم مصطفّون قدّامه، إلى أن انتهى الأمر إليّ، فخاطبني موبّخاً، وقال: لمَ ذكرت تذلّل ولدي العزيز الحسين عليه السلام، ونسبته إلى الذلّة؟ فتحيّرت في جوابه، وما وجدت حيلةً إلّا الإنكار، فأنكرته، فإذا بوجع في عضدي من شيءٍ كأنّه مسمار أولج فيه، فالتفتُّ إلى جنبي، فرأيت رجلاً بيده طومار فناولني، فنشرته، فإذا هو صورة مجالسي، وتفصيل ما ذكرته في المحافل مشروحاً، في كلّ مكانٍ وزمان، وفيه ما سألني وأنكرته... أمّا أنا، فقد تركت الاشتغال بذلك، ولا أرى نفسي تقوم بشرائطها[62].
ورُوي أنّه اجتمع السيّد الحميريّ، وجعفر بن عفّان الطائي، فقال له السيّد: ويحك تقول في آل محمد عليهم السلام:
مَا بَالُ بَيْتِكُمُ تَخَرَّبَ سَقْفُهُ وَثِيَابُكُمْ مِنْ أَرْذَلِ الأَثْوَابِ؟!
فقال جعفر: ما أنكرتَ من ذلك؟ فقال له السيّد: إذا لم تحسن المدح فاسكت، أتصف آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذا؟! ولكنّي أعذرك، هذا طبعك وعلمك ومنتهاك، وقد قلتُ أمحو عنهم عار مدحك:
أُقْسِمُ بِاللهِ وَآيَاتِهِ وَالمَرْءُ عَمَّا قَالَ مَسْؤُولُ
إِنَّ عَليَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ عَلَى التُّقَى وَالبِرِّ مَجْبُولُ
وَابْنُهُ كَانَ الإِمَامَ الَّذِي لَهُ عَلَى الأُمَّةِ تَفْضِيلُ
يَقُولُ بِالحَقِّ وَيُعْنَى بِهِ وَلَا تُلْهِيهِ الأَبَاطِيلُ
يَمْشِي إلَى القَرْنِ وَفِي كَفِّهِ أَبْيَضُ مَاضِي الحَدِّ مَصْقُولُ
مَشْيَ العَرَفْنَى بَيْنَ أَشْبَالِهِ أَبْرَزَهُ لِلْقَنْصِ الغِيلُ